رحيل الضمير

هل مات صنع الله إبراهيم؟ نعم، فالموت مصيرنا جميعا. غير أن رحيله يترك فراغا موجعا في الذاكرة الثقافية، فراغا لا يملؤه أحد. لم يكن غيابه مجرد حدث عابر، بل فقدانا لصوت ظل نصف قرن يكتب ويجادل ويكشف الوجوه الخفية للحياة في مصر والعالم العربي. كان رائد الرواية الوثائقية في الأدب العربي المعاصر، يمزج الحكاية بالوثيقة، والخيال بالخبر، في نصوص أشبه بمرآة صلبة تعكس الواقع بلا مساحيق، وتضع القارئ أمام نفسه ومجتمعه في آن واحد. في (تلك الرائحة) فجر صدمة الافتتاح، وفي (اللجنة) قدم تهكما لاذعا يجلد البيروقراطية والسلطة، وفي (ذات) و(شرف) و(وردة) و(أمريكانلي) جعل المادة الوثائقية تتنفس داخل السرد، حيث تخفي البساطة الظاهرية عمارة دقيقة تتشابك فيها السياسة والاجتماع واليومي.

اختار صنع الله إبراهيم طريق الفكر اليساري منذ شبابه، حين انضم إلى الحركة الشيوعية المصرية في خمسينيات القرن الماضي، ودفع ثمن ذلك سنوات من الاعتقال. كان منحازا للفقراء والمهمشين، ورأى في هذا الانحياز تكاملا إنسانيا وأخلاقيا لا تناقض فيه.

وحتى في نصوصه، ظل الالتزام بالعدالة الاجتماعية والحرية جزءا ثابتا من رؤيته للعالم، من غير أن يتحول إلى خطاب أيديولوجي مباشر، بل جاء في سياق سرد فني يمزج الوثيقة بالخيال.

كنت أختلف مع صرامته التي دفعته إلى قطع كل الجسور مع المؤسسات، لكنني لم أملك إلا أن أحترمه لإخلاصه الذي لم يساوم عليه. صنع الله الذي قرأت له منذ أربعين عاما كان صادقا في الكتابة كما في الحياة، مخلصا لهما معا لم أعرفه شخصيا، لكنني أحببته إنسانا وكاتبا، لما في شخصه ونصه من صفاء وصدق لا يخفى.

ومشهد رفضه جائزة الدولة على المنصة عام 2003 كان بيانا شخصيا عن معنى أن يكون الكاتب شاهدا ومسؤولا، لا متفرجا أو زينة في حفلات التكريم ولم يكن معزولا عن تقاليد الأدب العالمي؛ فقد نهل، مثل كثير من أبناء جيله، من الواقعية الروسية، ووجد في تشيخوف مثلا أعلى، يكشف له كيف تستطيع عين الكاتب أن تنفذ إلى ما تحت الجلد، وترى ما تخفيه الطبائع والنفوس، وكيف يندمج الإنسان بالطبيعة حتى يصيرا عنصرا واحدا.

رحل صنع الله إبراهيم وهو يرى في الأدب التزاما أخلاقيا قبل أن يكون فنا. وبرحيله انطفأ صوت كان يقول ما لا يقال، ويمنح الكلام لمن لا صوت لهم، مؤمنا بأن الكلمة الصادقة وحدها تتحدى الزمن وتبقى أطول من صاحبها. سيظل اسمه، ما بقيت الكلمة الحرة، شاهدا على زمن كان فيه الأدب ساحة للمقاومة، والكاتب ضمير الأمة.

عبد الرحمن غوري

عبدالرحمن غوري باحث في الأدب والفلسفة
شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى