كانت مقديشو ذات يوم مدينة تتنفس الفن عبر شاشات السينما. في قلبها توزعت دور العرض الشهيرة: سينما حمر، سنترال، أفريكا، بنادر، عيل غاب، ومسيوني. لكل واحدة جمهورها ونكهتها الخاصة هنا الأفلام الهندية بما تحمل من غناء طويل ودموع متواصلة، وهناك الوسترن السباغيتي الصاخب بالرصاص والغبار، وفي أخرى أفلام بوليسية صارمة، بينما تنفرد بعض القاعات بعرض مغامرات جيمس بوند، ذلك الجاسوس الذي جلب معه بريق لندن وسحر الكاريبي إلى مقديشو، على وقع موسيقاه الافتتاحية الشهيرة التي كانت ترتجف لها القاعة وتحبس الأنفاس قبل أن يبدأ الفيلم.
كانت اللغة الإيطالية غلافا لكل شيء، ورثته مقديشو من تاريخها الاستعماري، فصارت أصوات النجوم تصل إلينا مدبلجة وكأنهم جميعا من أبناء تشينيتشيتا. كنا نصدق أن كل الأبطال إيطاليون: كلينت إيستوود برصاصاته التي لا تخطئ في “الطيب والشرس والقبيح”، تشارلز برونسون بوجهه الحجري في “حدث ذات مرة في الغرب”، لي فان كليف بعينيه الحادتين في “المطاردة الكبرى”، وحتى سيدني بواتييه بأناقته في “خمن من جاء للعشاء”، ومورغان فريمان بصوته الذي سيغدو لاحقا أيقونة الحكمة. وإلى جانبهم حضرت على الشاشة فنانات خالدات: صوفيا لورين في “امرأتان”، إليزابيث تايلور في “كليوباترا”، وكلوديا كاردينالي التي منحت الوسترن الغربي لمسة أنثوية آسرة في “حدث ذات مرة في الغرب”. كانت الأسماء تنحرف على ألسنتنا: “تريس هيل” بدل “تيرينس هيل”، و”بروس مارلي” بدل “موريسيو ميرلي”، و”بوتس بانجر” بدل “بود سبنسر”، لكن الشغف كان أقوى من الدقة.
الأفلام التي بقيت في الذاكرة لم تكن قليلة: “روما العنيفة” و”نابولي العنيفة” اللتان عكستا غضب الشوارع الإيطالية، “جانغو” الذي جعل الوسترن أكثر قسوة وسوادا، “يسمونه ترينيتي” الذي جمع الضحك مع المواجهة، “أمنية الموت” التي جسدت الانتقام الصامت في ملامح برونسون ثم سلسلة “جيمس بوند” التي أدخلتنا إلى عالم من الأناقة والخطر والنساء الفاتنات.
كنا نخرج من القاعات محملين بالصور: صحراء تكساس مصنوعة في استوديوهات روما، شوارع نابولي تتوهج بالعنف والفساد، أو الكازينوهات البراقة حيث يتنقل بوند في بدلته البيضاء. في الخارج كانت مقديشو تلتقط أنفاسها من حر النهار، أما نحن فكنا نحمل في رؤوسنا عالما آخر، أوسع من حدود مدينتنا.
واليوم، حين نستعيد تلك الحقبة، ندرك أن السينما لم تكن مجرد ترفيه، لقد صنعت خيال جيل بأكمله وربطت مقديشو بالعالم من خلال الشاشة الكبيرة وبينما تلاشت الصالات القديمة وابتلع العنف ملامح المدينة، تبقى في القلب صورة مقديشو التي كانت يوما تعيش على وقع الأفلام، وتجد في السينما نافذة كبرى على حياة أوسع وأجمل.
إلى اللقاء.