غياب المعنى

كان الناس قديما يستقبلون صباحهم برشفة قهوة، ونظرة إلى السماء، ودعاء مسموع أما اليوم، فلا يبدأ الصباح إلا بصورة سيلفي وابتسامة نصف مصطنعة، مرفقة بعبارة من نوع: “بانتظار تعليقاتكم”.

صرنا لا نعيش اللحظة إلا لنوثقها، ولا نحزن إلا لنعرض حزننا على الملأ، كما تعرض البضائع في واجهات المتاجر. لم تعد المشاعر شيئا نحتفظ به لأنفسنا، بل أصبحت محتوى رقميا ينشر ويبث، مصحوبا برمز تعبيري باكٍ.

أما البيت، الذي كان يوما ملاذا، فقد تحول إلى شاشة أخرى. جلسات العائلة صارت موائد صمت، الأب يتصفح الأخبار، الأم تراجع إعدادات الهاتف، والأبناء يتعلمون من إنستغرام أن أهم ما في الوجبة هو تصويرها لا أكلها، وأن اللحظة لا قيمة لها إن لم تنشر فورا.

تبدلت المفاهيم، فانقلب الصبر ضعفا، والصدق سذاجة، والوفاء ترفا لا يليق بعصر السرعة. حتى الأخلاق باتت تستهلك على جرعات متقطعة، كن طيبا، ولكن إلى الحد الذي لا يضر بمصلحتك، وكن نبيلا إذا كان ذلك يعزز صورتك أمام المتابعين.

وأما الرجولة، التي كانت تقاس بالصمت الوقور، وبيد تُربّت لا تُرعب، فقد باتت تختزل اليوم في عضلات بطن مشدودة، وذراع مفتول، وعدد الإعجابات التي يحصدها المظهر.

أما الحزن، فكان قديما سرا يصان في القلب، أما اليوم، فيكتب على العلن: “أنا بخير، فقط أختنق قليلا”، وترافق العبارة صورة حزينة معدلة بعناية، وكأن الألم صار فرصة للتفاعل.

ومع ذلك، وسط هذا الكرنفال اليومي، ما زال هناك من يعيشون في الهامش. لا يجيدون العروض، ولا يسعون إلى الأضواء. أولئك الذين يعرفون متى يصمتون، ومتى يمضون. لا يبهرون، لكنهم يفهمون. لا يتكلمون كثيرا، لكنهم يحتفظون بما تبقى من المعنى.

نحن في زمن هش، تدار فيه الحياة من أطراف الأصابع، وتلغى بكبسة واحدة. زمن لم يعد يقيس العلاقات بقوتها، بل بمدى تفاعلها، ولا يزن الذكريات بعمقها، بل بقدرتها على البقاء في واجهة الاهتمام. فيه تصبح المبادئ سلعة قابلة للتبديل، وفق بورصة الإعجابات.

وها أنا، من أبناء الطراز القديم، لا أكتب لأندب الماضي، بل لأطرح سؤالا بسيطا، قد يبدو ساذجا، لكنه ملح:

ما الذي يبقى، إذا مضى كل شيء؟

إلى اللقاء.

عبد الرحمن غوري

عبدالرحمن غوري باحث في الأدب والفلسفة
شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى