رمزية الذبيحة في الثقافة الصومالية

في المجتمعات ذات الجذور القبلية الراسخة، لا يكون الطعام مجرد استجابة لحاجة جسدية، بل طقسا ثقافيا مشبعا بالرموز والدلالات. ففي الصومال، تتجاوز الذبيحة كونها لحمًا يُطهى ويُؤكل، لتغدو ممارسة اجتماعية متجذّرة، تحكمها أعراف غير مكتوبة، لكنها نافذة في الوعي الجمعي.

ما إن تُذبح البهيمة، تبدأ عملية التقطيع والتوزيع وفق منظومة تقليدية دقيقة، تخضع لموازين لا تقبل التجاوز. الكبد، مثلًا، لا يُقدَّم إلا لرجال الدين والوجهاء عربونا لاحترام مكانتهم الروحية والإجتماعية لا تفضيلا ذوقيا. أما القلب، والكرش، والكلى، والرأس، فهي من نصيب النساء.

في المقابل، يُخصص الفخذ والكتف والريش للرجال، لا سيّما الضيوف ويُعد من غير اللائق أن تُقدَّم لهم قطع مثل الظهر أو الرقبة، التي تُصنَّف في العرف المحلي لحوما ثانوية. هذا التقسيم لا يقوم على الذوق الشخصي، بل يعكس مكانة الفرد ضمن هرم القيم الاجتماعية، حيث تتحوّل الكرامة إلى قطعة لحم، ويُقاس المقام بما يُوضع في الصحفة.

وما يبدو لأول وهلة مجرّد توزيع للحوم، يخفي وراءه نظاما صارما يُعيد إنتاج البنية الاجتماعية، ويفصل بين المُكرَّم والعادي، ويمنح كل فرد نصيبه الرمزي. فالمائدة هنا لا تشبع الجسد فحسب، بل تُكرّس المقام، وتُعزّز الانتماء، وتُعيد صياغة القيم الجماعية بلغة الطعام.

ومع ذلك، فإن هذه الطقوس تعكس في جوهرها ثقافة البادية والريف. أما أبناء المدن فلا يعترفون بمثل هذه التصنيفات. عندهم لا فرق بين الفخذ والرقبة، ولا بين الكتف والظهر، فكلها نِعَم تستحق الشكر. بل إن الكرش مفضّلة عند كثيرين، ولحمة الرأس الضاني تُعد علاجا موروثا لحالات الإمساك، في وصفة شعبية تمزج بين الغذاء والدواء.

ورغم التحولات التي طرأت على المجتمع الصومالي، من الهجرة إلى التمدّن ثم العولمة، لا تزال هذه الأعراف قائمة. تمارسها الأجيال الجديدة أحيانا بعفوية، من غير وعي بأصولها، تماما كما تُؤدّى الصلاة بدافع إيمان فطري، لا بتلقين مدرسي.

في جوهر الأمر، ليست الذبيحة شأنا غذائيا فحسب، بل طقسا من طقوس الهوية. وليست اللحوم مادة استهلاك، بل وسيلة للتكريم وتجسيد المقام. ففي كل قطعة لحم، حكاية تُروى في صمت وتأكلها الأرواح قبل البطون.
إلى اللقاء

عبد الرحمن غوري

عبدالرحمن غوري باحث في الأدب والفلسفة
زر الذهاب إلى الأعلى