حين يحكي الجوع

يعثر القارئ العربي، كلما أعاد النظر في سرديات الفقر والتهميش، على اسم لا يشبه أحدا: محمد شكري. كاتب لم يصنعه الصالون، ولا اكتشفته الجوائز، ولا امتدحه النقاد إلا بعد أن استنزفته الكتابة وأنهكه الجوع. بل لعله لم يكن كاتبا بالمعنى التقليدي، بقدر ما كان رجلا نجا من الفقر بالحبر، ومن العار بالصدق.

روايته الأشهر “الخبز الحافي” ليست مجرد سيرة ذاتية لكاتب خرج من قاع المجتمع، بل نص صادم يعيد تعريف الأدب الاعترافي ويكسر قيود الأدب المهذب. عاش شكري حياة قصيرة نسبيا، لكنها حفرت اسمه على جدران الأدب العربي كعلامة فارقة، لا بسبب جمالها اللغوي، بل بفضل جرأتها، وصدقها، وانكشافها العاري.

كان الفقر في حياته تجربة شاملة، لا مجرد عوز في الجيب، بل كسر في الكرامة، وتشوه في الطفولة، وانطفاء في الروح. لم يكن الأب راعيا بل جلادا، ولم تكن المدرسة حضنا بل مطاردة. عاش الطفل شكري في شوارع طنجة، متشردا، خائفا، وحافيا، حتى صار الحفاء عنوانا لحياته، ولروايته.

ومع ذلك، لم يكتب شكري ليبكي، بل ليواجه. لم يبحث عن تعاطف القارئ، بل عن اعتراف العالم بوجوده. لا استعارات، ولا أقنعة، ولا محاولات لتلطيف الوجع. كأنما أراد أن يقول: هذه حياتي، خذوها كما هي، أو اتركوها. وهذا ما فعله حتى صار يدرس في جامعات الغرب ضمن مساقات “الأدب الاعترافي”، لا بوصفه مجرد أديب عربي.

رغم المنع والملاحقات الأخلاقية، ترجمت الخبز الحافي إلى أكثر من تسع وثلاثين لغة. نقلها بول بولز إلى الإنجليزية، والطاهر بنجلون إلى الفرنسية. لم يحتفِ به النقاد العرب كما فعل الأوروبيون، الذين رأوا فيه كاتبا لا يمارس رقابة على ذاته. بعضهم نعته ب”الإباحي”، وآخرون ب”المخرب”، لكن أحدا لم ينجح في تجاهله.

لم ينل شكري حظه من التقدير في حياته. مات وحيدا، بمرض السرطان، بعد سنوات من العزلة الصامتة. لكنه، حين رحل، ودعته طنجة التي كانت قد نبذته. حضر جنازته مثقفون ووزراء ورجال دولة، كأن المغرب كله جاء ليعتذر. كأن البلاد أرادت، متأخرة، أن تكفر عن ذنبها تجاه ابنها الضال.

لم يكن شكري يسعى إلى الخلود، بل إلى النجاة. لم يكتب ليكون أديبا، بل ليعيش. وحين قرر أن يكتب، لم يجمل شيئا. لذلك بقيت روايته طازجة، جارحة، صادقة. ليست نصا يقرأ، بل صفعة توقظ. درس في أن الألم، حين يحكى بصدق، لا يحتاج إلى تزيين. وأن الفقر، حين يكتب بدم القلب، لا يستعير لغة الشعر، بل يتكلم بلغة الطعن.

ما فعله شكري لم يكن بطولة، بل شهادة. شهادة على زمن، على مدينة، على قسوة الإنسان. مات الرجل، لكن صوته بقي. صوت يشبه الحذاء المقطوع الذي ظل حافيا بسببه، وظل يكتبه حتى النهاية.

عبد الرحمن غوري

عبدالرحمن غوري باحث في الأدب والفلسفة
زر الذهاب إلى الأعلى