في خضم الأحداث المتسارعة، ووسط الضجيج الطائفي والإعلامي، تبرز الحاجة الماسّة إلى موقف شرعي متزن، يُميّز بين الخصومة في الدين، والعداوة الوجودية، ويحتكم إلى موازين الكتاب والسنة، لا إلى الانفعالات أو الحسابات السياسية والطائفية المجردة.
لو كانت هذه الحرب مجرّد نزاع محدود بين دولة كافرة وإيران، لكان من السهل تصنيفها ضمن صراعات الظالمين التي لا تعني أهل السنة، ولا تستوجب اهتمامًا خاصًا من المسلمين، كما يذهب إليه بعضهم.
لكنّ الواقع أشد تعقيدًا وأعظم خطرًا؛ إذ إن نذر هذه الحرب قد تتجاوز الحدود الجغرافية لإيران في لمح البصر حيث تنذر بالتحوّل إلى معركة كبرى فاصلة، قد يمتد لهيبها إلى دول مثل باكستان وتركيا أولًا، ثم إلى الجزيرة العربية، وبلاد الشام، والعراق، ومصر، ما دامت تُدار من قِبَل قوى غربية كبرى، تتقدّمها الولايات المتحدة، ضمن مشروعٍ يهدف إلى زعزعة الأمن الإقليمي، وتقويض استقرار العالم الإسلامي، كما تُظهر ذلك تصريحاتهم وسلوكهم العملي والثقافي.
وفي مثل هذه الظروف، لا يجوز للأمة أن تنظر إلى الصراع من زاوية الخلافات المذهبية المجردة، أو التحزبات السياسية الآنية، أو العداوات التاريخية، بل يحتاج إلى وقفة فقهية متجردة، تعتمد النصوص وتقرأ المآلات، وتفهم المشهد بمنظار الولاء والبراء الذي علمنا إياه ديننا، بل يجب أن يُقرأ المشهد من خلال منظار الشريعة، وبميزان الولاء والبراء، وفقه المآلات.
وقد أرشدنا القرآن الكريم إلى الميزان الدقيق في فقه العداوة والموقف من أطراف الصراع، في قوله تعالى: {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ ۗ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ ۚ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ ۚ}.
وقد بيّن أئمة التفسير كالإمام القرطبي وابن كثير والطبري وغيرهم، أن فرح المؤمنين لم يكن فرحًا بانتصار الروم من حيث كونهم أمةً محبوبةً لذاتها، وإنما لكونهم أقرب إلى المسلمين في العقيدة من الفرس المجوس. وقد قال ابن عباس رضي الله عنه: “كان المسلمون يحبون أن تظهر الروم على فارس لأنهم أهل كتاب، وكان المشركون يحبون أن تظهر فارس لأنهم وإياهم أهل أوثان.”.
وعلى هذا المنوال، ينبغي أن يُبنى النظر في الحرب على إيران، لا على العواطف أو الانفعالات الطائفية، بل على ما علّمنا القرآن من فقه الولاء والبراء، وترتيب العداوات، والنظر في المآلات، ومراعاة مقتضيات العدل.
فذلك من تمام البصيرة في أزمنة الفتن والتشويش، ومن لوازم التجرد للحق في موطن التباس المواقف واضطراب الرؤى.
وقد رسّخ شيخ الإسلام ابن تيمية هذا الأصل في أكثر من موضع، ومن ذلك ما جاء في مجموع الفتاوى (35/201)، حين سُئل عن رجل يُفضّل اليهود والنصارى على الرافضة، فأجاب: “كلُّ من كان مؤمنًا بما جاء به محمد ﷺ فهو خيرٌ من كلِّ من كفر به، وإن كان في المؤمن بذلك نوعٌ من البدعة… فإن اليهود والنصارى كفّارٌ كفرًا معلومًا بالاضطرار من دين الإسلام. والمبتدع إذا كان يحسب أنه موافق للرسول ﷺ لا مخالف له، لم يكن كافرًا به”.
وقال أيضًا في منهاج السنة النبوية (6/375): “ألا ترى أن أهل السنة، وإن كانوا يقولون في الخوارج والروافض وغيرهم من أهل البدع ما يقولون، لكن لا يُعاونون الكفار على دينهم، ولا يختارون ظهور الكفر وأهله على ظهور بدعة دون ذلك”.
وهذا ميزان فقهٍ وعدلٍ واعتدال، غاب عن كثير من أبناء الأمة في خضم الصراعات الجارية في عمق الأمة الإسلامية، بدعوى “التخلص من خطر الشيعة”، أو “كسر الهلال الإيراني”، بينما يُغض الطرف عن الاحتلال الصهيوني وجرائمه اليومية على أهلنا في فلسطين وما يخططون من توسيع خريطه على الجزيرة ومصر والشام!
إن الواجب في مثل هذا الظرف أن تعيد الأمة الإسلامية، شعوبًا وحكومات، تقييم مواقفها السياسية والاستراتيجية بميزان الشرع والعدل، لا بميزان الخصومات التاريخية أو الشعارات الطائفية والسياسات الجائرة. فنصرة العدو الكافر الصهيوني الظالم – بأي صورة كانت – أو مساواته بالمسلم الأصلي مرفوضة شرعًا، وإن كان المسلم الأصلي من أهل البدع والضلالات، ما داموا من أهل القبلة.
ختامًا: حين أكتب هذا المقال، فإني لا أكتبه من مقامٍ يُبرّئ إيران من سياساتها الطائشة، ولا من عداوتها الظاهرة والخفية للدول السنية، ولا من دورها المشؤوم في زعزعة أمن الجوار، وإذكاء الفتن الطائفية في جسد الأمة. كما أني لست في موضع التغاضي عن خطر التشيّع وما يحمله من بدع وانحرافات عقدية أسهمت — ولا تزال — في تمزيق الصف، وإضعاف وحدة المسلمين، وشقّ جماعتهم ولكن من باب: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}؛ لأن الفقه بمراتب العداوة، ومعرفة مواضع الولاء والبراء، وترتيب الأولويات في مثل هذا الظرف الدقيق، من لوازم الشريعة وأصول الإيمان؛ إذ لا يستقيم النظر، ولا يصحّ الموقف، إلا بميزان العدل، وبصيرةٍ راشدة، وتجردٍ للحق، بعيدًا عن الانفعالات وردود الأفعال الطائفية، التي لا تزيد الأمة إلا ضعفًا فوق ضعف، وهوانًا فوق هوان، وتجعلها لقمةً سائغةً للعدو المتربص، الذي لا يفرّق بين سني وشيعي، ولا بين مبتدع ومُتبع، بل يرى الجميع هدفًا في طريق مشروعه التوسعي الغاشم.
بقلم: علي أحمد محمد المقدشي