تدرك المدارس العسكرية الإفريقية حتى تلك المتمرسة في ميادين المعارك “السياسية” و”الأمنية” بأن التحدي الذي فُرض على الجيش السوداني من الداخل، وبتوافق وتنسيق إقليمي ودولي وإن كان يسعى جاهداً إلى تفكيك منظومة الدولة الوطنية السودانية وإسقاط شرعيتها وتجريف مؤسساتها، إلا إنه ساهم بدون أن يقصد في بروز المؤسسة العسكرية السودانية “إقليمياً، ودولياً”، بصورة لم تحظى بها مؤسسة عسكرية في التاريخ الحديث للقارة الإفريقية، وهذه دلالة لها ما بعدها لمن يدرك ويعي وعي الشعوب عند إرتباطها بوطن وليس بحاكم، وخير دليل على ذلك تعليق العميد “Adebayo Adekola” رئيس جهاز المخابرات النيجيري عندما سأله أحد مرافقيه السؤال التالي “سيادة العميد بذلنا جهود كثيرة لتقويض الإرهاب في بحيرة تشاد، ما الذي لم نفعله حتى يستمر إلى الأن؟ فأجاب “Adebayo” قائلاً “يختار القدر بعناية وجهته الفارقة ويحط برحاله على شعوب هيئها الله لتكون القائدة والقدرلا يخطىء”.
ما إن بدأت فصول معركة الخرطوم تقترب من نهايتها، حتى برزت أمامي عدة ملفات أرى من الضرورة بمكان مناقشتها وتفنيدها، بإعتبارها أهم الملفات المرتبطة بنتائج معركة الخرطوم، فتقدم تلك الملفات أو تأخرها يحدده عامل واحد فقط وهو سير العمليات العسكرية وما ستسفر عنه في الأيام القادمة.
الملف الأول: حكومة السلام الموازية “تراجع يمهد للإنحسار”
- لا شك أن معركة الخرطوم ألقت بظلالها سلباً على الوضع السياسي المرسوم لحكومة السلام المزمع إعلانها إبريل المقبل، فنجاح القوات المسلحة السودانية في دحر مليشيا الدعم السريع من كافة المقار الحكومية والوزارات السيادية، وإسترداد العاصمة الوطنية أخل بكافة الترتيبات التي عملت عليها المليشيا لإنجاح حكومتها الموازية، وأكاد أجزم بأن إنفضاض جمعهم والتراجع عن إعلانها مسألة وقت، وقد نشهد قريباً بيانات إسترحام موجهة للحكومة السودانية للعفو والصفح أسوة بالكوادر العسكرية والحزبية التي سبقتها والمنشقة من مليشيا الدعم السريع والعائدة لحضن الوطن، فإذا كانت الصحافة الإفريقية وصفت الميثاق التأسيسي الذي أعلنه المجتمعين في نيروبي بــ”الميثاق الضحل”، فإن معركة الخرطوم جاءت لتكريس ذلك المعنى، بل وترجمته واقعاً لعله يقنع تلك الأنظمة الداعمة لإسقاط الدول الوطنية بحقيقة الركائز التي ترتكز عليها الجيوش الوطنية البعيدة عن الإشراف الخارجي والإدارة الأجنبية.
- تدرك كافة العناصرالحزبية، والسياسية، والعسكرية، والأمنية والاستخباراتية أن إنشقاقها من مليشيا الدعم السريع وعودتها لحضن الوطن وإن كان لن يقضي على شعور التوجس منها في وجدان القيادة السودانية ولكنه قد يمنحها فرصة لطرح نفسها، من خلال كسب جزء من المكون الشعبي بإعتباره الأساس الأول للعودة للمشهد السياسي، وذلك نابع من رؤيتها المستقبلية لسودان ما بعد الحرب، فهذه العناصر لديها قناعة بأن الأزمة السودانية وتطوراتها المفصلية تمخض عنها سودان جديد بشعب جديد، لا يحمل من سودان الإنقاذ إلا ذكراه، وإن تاقت نفوس البعض منهم إلى تلك الحقبة إلا إنهم قطعاً لا يسعون لإعادتها، ويعود ذلك لتطور مفهوم الوطن لدى لمواطن السوداني، مما نتج عنه تشكيل رؤى مستقبلية ما كان لها أن تولد إلا بعد هذا المخاض العسير الذي شهدته أرض المقرن.
- يدرك المكون العسكري والأمني المنتمي لمليشيا الدعم السريع والذي يُرادُ له أن يكون النواة الأولى لجيش حكومة السلام المزعومة أن الرهان عليه أسقطته معركة الكرامة التي خاضها ضد الجيش السوداني، ولا توجد هزيمة في القاموس العسكري أكبر من هزيمة طرف حظى بعملية إمداد لوجستي غير مسبوقة في تاريخ إفريقيا الحديث، وبدعم وتنسيق إقليمي ودولي، فتهاوت قواه في ساحة معركة ليست له، بعدما أدرك بأن قوة الخصم ليست في عتاده بل في عقيدته، فتولى زاحفاً يخالج نفسه ذلك الشعور الذي لا يعرف مرارته إلا هو، فأنى له أن يراهن على بناء جيشاً لدولة؟
الملف الثاني: رسم الإستراتيجيات وترشيد السياسات
- قبل عام 2019 حاولت باريس تعزيز حضورها في الخرطوم من خلال المركز الفرنسي للدراسات الإجتماعية والإقتصادية والقانونية في الخرطوم، وبسبب ظروف الحرب طلبت القوات المسلحة الفرنسية من المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية “IFRI” التعاون مع المعهد الفرنسي في إفريقيا والذي يقع في نيروبي بمواصلة الأبحاث الخاصة عن السودان، الجديد هو إنخراط “Elie Tenenbaum” صاحب إستراتيجية “Zones Grises Militarisées” وتعني “مناطق رمادية معسكرة”، وملخصها بأن الدول التي توجد بها عدة قوى يجب تحويل العمل الإستخباراتي فيها من العمل الغير مباشر إلى العمل المباشر، ولمواجهة ذلك وتحجيم دوره أرى أن تعمل الخرطوم وبالتعاون مع وزارة الثقافة السودانية على الأتي :
- تطوير عمل المراكز البحثية المتخصصة في رسم الإستراتيجيات وترشيد السياسات، والتي ساهمت في إبعاد السودان من المطبات السياسية التي وضعت أمامها، وكان لها دور بارز في تجاوز الخرطوم لأزمات فرضت عليها من الخارج، ويكفي أن نذكر بأن ملف “إعجاز منصور” الذي حاولت الإدارة الأمريكية التلاعب من خلاله مع حكومة الإنقاذ في حقبة التسعينات من القرن الماضي تم التغلب عليه وإغلاقه بناءاً على خطة عمليه خرجت من أحد مراكز دعم القرار المرتبطة بالمراكز البحثية السودانية، وإعترفت حينها واشنطن بذلك فعنونت مجلة “National Review” الأمريكية صفحتها الأولى حول ذلك بعنوان “Lesson learned” وتعني “الدرس المستفاد” في إشارة إلى السيد “قطبي المهدي” المسؤول عن ذلك الملف.
- إعادة فتح مركز الراصد للدراسات السياسية والإستراتيجية، والعمل على تطوير ألياته العملية لإسترداد دوره الهام في تطوير عملية البحث العلمي ورسم السياسات، ويقترح أن توكل المهمة إلى البروفيسور “مضوي الترابي”، والذي تطلق عليه بعض النخب السياسية في الغرب الإفريقي “La Source du Savoir” وتعني “عين العلم”، لجهوده العلمية في تقريب صورة السودان في المحيط الأفريقي والعربي، وشخصيته الكارزمية التي تحظى بتقدير كبير في الأوساط الأكاديمية والبحثية.
- الإستعداد لوضع برنامج “خاص” لإستقبال كبار قادة القوات المسلحة السنغالية الذين يسعون إلى زيارة الخرطوم، والتي تم الترتيب لها بعد زيارة الرئيس “عبد الفتاح البرهان” الأخيرة لداكار، وتأتي تلك الزيارة في سياق تكثيف إدارة الرئيس “باسيرو ديوماي” الضغوط على المؤسسة العسكرية السنغالية بضرورة تطوير عقيدة دفاعية جديدة تأخذ في الإعتبار الإنسحاب الكامل للقوات المسلحة العسكرية الأجنبية من السنغال نهاية العام الجاري، ويقترح على القيادة السودانية قبل لقاء الوفد السنغالي الإطلاع وبشكل دقيق على ملفين مهمين :
- الأول: معرفة ما الذي جرى في اللقاء الذي جمع الجنرال “كولي فاي” رئيس الإستخبارات العسكرية السنغالية بكبار القادة العسكريين البريطانيين في أكاديمية الدفاع البريطانية خاصة أن الملف السوداني كان أحد أهم النقاط التي تمت مناقشتها.
- الثاني: الإطلاع على ملف القوات الجوية السنغالية، فتعزيزاً للعلاقات السودانية السنغالية يمكن للخرطوم حل معضلة القوات الجوية السنغالية التي رغم إمتلاكها لطائرات إستطلاع “CN-235 ” إلا إنها في حالة سيئة، ولا تخطط الحكومة السنغالية لشراء بديل قبل عام 2027 بسبب القيود المالية، وهذا ما يضعف قدرة البحث والإنقاذ السنغالي في حالات الطوارئ، وعليه يمكن للخرطوم الدخول كوسيط بين “أنقرة” و”داكار” بعد توقف المحادثات بين الجانبان مما أعتبرته داكار رفض تركي لمطالبها، وأنسب طريقة لتحقيق ذلك هو إستغلال الخرطوم فرصة لقاءها بالوفد التركي الذي سيزور السودان قريباً للتدراس حول العرض الذي تسعى أنقره عرضه على القيادة السودانية من خلال شركة “Aksa Enerji” التركية المملوكة للسيد “علي كازانجي” أحد أهم رجال الأعمال الأتراك الناشطين في القارة الإفريقية.
- مع تنامي العلاقات السودانية الروسية، بدأت شركة “H3Operations” الأوكرانية مساعيها لإيجاد موطىء قدم لها في الخرطوم، وتشير بعض المصادر بأن تلك المساعي جاءت بإيعاز “أمريكي- فرنسي”، لدراسة سلاح الجو السوداني عن قرب، والتعرف على مقدراته العسكرية والبشرية بإعتباره أحد أسباب تغيير موازين معركة الخرطوم، ويقترح على السودان قبل النظر في العرض الأوكراني العمل على وضع خطة لتحديد مصالحها المستقبلية مع كافة الأطراف، دعماً لإستراتيجية تنوع الشراكات، فشركة “H3Operations” هي شركة قدمت الدعم اللوجستي للعمليات الفرنسية في تشاد، حيث تقوم تلك الشركة بنقل الأفراد والطائرات المروحية الثقيلة، وتمتلك أسطولاً من طائرات الهيلكوبتر “Mi-8\17″، وكانت قد أرسلت طائرتين مع فريق مكون من 12 طياراً وميكانيكياً لصيانة الطائرات في القاعدة الجوية الفرنسية في أنجامنيا، ولكن بعد إنسحاب الجيش الفرنسي تم نقل الطائرات وفريق عملها إلى “جوبا”، وأصبح لها نقاط إرتكاز داعمة لعمل بعثة الأمم المتحدة في جنوب السودان، وأصبح عقد عمليات “H3” تحت إدارة القيادة الأمريكية في إفريقيا “أفريكوم”، التي ترى بأن فرق عمليات “H3” قد تعود إلى أنجامينا لمواجهة نقص القدرة الجوية التشادية.
- إختيار فريق سوداني من حديثي التخرج للإنضمام إلى شبكة أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة لمنطقة القرن الإفريقي والتي يقودها “فتحي باشا” سفير الشباب لمنطقة القرن الإفريقي، والذي أبدى إهتماماً بمناقشة الأزمة السودانية، الهدف من ذلك هو تطوير دور الخرطوم “إفريقياً” في مجتمعات الشرق الإفريقي بإعتبارها الأكثر تأثيراً وتأثراً بالداخل السوداني والعكس صحيح، ومن ناحية أخرى سيساهم ذلك في إنخراط الشباب السوداني للعمل بشكل أكبر في المنظمات الإفريقية الإقليمية المرتبطة بمؤسسات المجتمع الدولي، والتعرف على سياستها من الداخل، والعمل مستقبلاً على المشاركة في رسم سياستها المستقبلية خاصة في ظل التطورات السياسية والأمنية التي تشهدها القارة الإفريقية.
- ضرورة مشاركة الخرطوم في قمة وزراء خارجية الإتحاد الأفريقي والإتحاد الأوروبي في بروكسل يونيو القادم، وذلك لأهمية هذه القمة بإعتبارها المقدمة لإجتماع رؤساء الدول في ضوء إتفاق الإتحاد الإفريقي والإتحاد الأوروبي على تشكيل مفوضية جديدة تجمع الإتحادان، وسيتم الإعلان عن بنود ذلك الإتفاق أواخر العام الجاري، حيث وجد الإتحاد الأوروبي في إغلاق الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية فرصة لتعزيز حضوره في القارة الإفريقية في ظل تطلع الدول الإفريقية إلى أوروبا لتمويل المشاريع التي كانت تنفذها الإدارة الأمريكية، وحضور السودان لهذا الحدث سيفتح أفاقاً جديدة لتنويع الشراكات وجذب الإستثمارات.
- تدرك دول الجوار الإقليمي للسودان أن هناك “ميزان قوى” جديد بدأ يتشكل في الشرق الإفريقي ومن الأفضل العمل معه، والتعاون والتنسيق بما يخدم المصلحة الوطنية، فنجاح القوات المسلحة السودانية في إدارة هذه الحرب المتعددة “الجنسيات، والتوجهات، والإمداد” له أثره الإستراتيجي والأمني والسياسي على كافة دول الجوار الإقليمي التي تدرك تماماً تواضع مستوى صمود مؤسساتها في حال تعرضها لذات المأزق الذي تعرض له الجيش السوداني، وهذا بحد ذاته كفيلاً بفرض هيبة الدولة السودانية ومؤسساتها الأمنية، التي باتت هي الجهة الأولى والأخيرة والوحيدة القادرة على فرض الإجماع الشعبي حولها وبكامل إرادته، ولتعزيز ذلك يقترح تأسيس مركز إقليمي للتدريب التكتيكي يكون مقره في الخرطوم، ويضم دول القرن الإفريقي ودول منطقة البحيرات، تتلخص مهمة هذا المركز في تبادل الخبرات الأمنية والعسكرية في كافة المجالات، ووضع أليات عملية لتعزيز البيئة الأمنية لكافة الدول الأعضاء، وتطوير الإستراتيجيات الخاصة بمكافحة الإرهاب والتنظيمات المسلحة المقوضة لسيادة الدولة الوطنية، وتنظيم محاضرات وورش عمل للباحثين والمختصين في الشؤون الأمنية والسياسية.
المنصة السودانية “ملفات ملحة وجب دراستها “
- جمهورية إفريقيا الوسطى: تدرك إدارة الرئيس “فوستن توديرا” بأن مساعيها لترويض المعارضة وإضعاف دورها لن يمر إلى عبر الخرطوم ،التي ترى بأن بانغي لا تقف دائماً على مسافة واحدة من الحكومة السودانية ومليشيات الدعم السريع، وهذا ما دفع القيادة السودانية لترك الباب موارباً أمام إفريقيا الوسطى، وهذا يعني حرص الخرطوم لإيجاد حلول مشتركة تطمئن بانغي دون الإخلال بأمن الخرطوم، ويبدو أن الطرفان على موعد قريب قد يرسم ملامح مستقبل العلاقات بينهما، فتستعد إفريقيا الوسطى إلى عقد جلسه سرية بعد شهر رمضان مع “محمد الخاتم” و “أبكر صابون” زعماء المتمردين “إئتلاف الوطنيين من أجل التغير\ CPC”، اللذان وصلا إلى بانغي أوائل مارس الجاري بعد إحتجازهم في تشاد لمدة 11 شهراً، وذلك في إطار مساعي بانغي لإحتواء المعارضة، ولكن تبقى الورقة الأهم هو “أرميل سايو” العقيد السابق في القوات المسلحة، ورئيس ” التحالف العسكري لإنقاذ الشعب وإستعادته”، ولقوة تأثير “أرميل” إستعانت بانغي بفليق أفريقيا “فاغنر سابقاً” لتفكيك كتيبة “BIT-7” التابعة للقوات المسلحة لجمهورية إفريقيا الوسطى وذلك بسبب ولائها للعقيد “أرميل”.
- أرى بأن ما يحدث في إفريقيا الوسطى ما هو إلا تعزيزاً للدور الأمني والإستخباراتي السوداني في منطقة الوسط الإفريقي، وعليه يقترح على الخرطوم عمل الأتي:
- الإحتفاظ بورقة “أرميل سايو” لتأثيره الواسع في الأوساط الأمنية والسياسية والإجتماعية في إفريقيا الوسطى، وذلك لصلته “العائلية” بالرئيس الأسبق “انجاي باتسيه”، وقربه من كبار القيادات السياسية المهمة داخل وخارج بانغي، ومن السهولة بمكان أن تحقق الخرطوم ذلك، وذلك لعلاقه “أرميل” الممتدة والإيجابية مع المؤسسة العسكرية السودانية منذ أن كان مديراً للأمن في عهد الرئيس “باتسيه”، مروراً بدوره المحوري في إنجاح إتفاق الخرطوم لإحلال السلام في إفريقيا الوسطى عام 2019، وإنتهاءاً بموقفه الأخير من الأزمة السودانية والذي جاء داعماً لسيادة الدولة الوطنية السودانية ووحدة أراضيها، ولكونه يحمل الجنسية الفرنسية مهد له ذلك الإنخراط في كافة الأوساط الأكاديمية والسياسية والإعلامية الفرنسية وبالتالي يمكن أن تكسب الخرطوم من خلاله زخماً سياسياً إعلامياً داعماً لكافة قضاياها.(تشير بعض المصادر أنه ألقي القبض عليه في ياوندي بناءاً على مذكرة إعتقال أرسلتها بانغي )
- أرى أن إحتفاظ الخرطوم بورقة “أرميل”، وقربها من جميع فصائل تحالف الحركات المسلحة “المعارضة” في إفريقيا الوسطى وإن كان ذلك يقلق إدارة الرئيس توديرا ، إلا إنه هو الضامن الأول والأخير للخرطوم بإلتزام “بانغي” نحوها، فبانغي يجب أن تدرك بأن الخرطوم لن تراهن كثيراً على وعودها بقطع طريق الإمداد على مليشيا الدعم السريع، ومع مساعي المليشيا لإطلاق حكومتها الموازية ما هو الضامن لإلتزام “توديرا” بعدم الإعتراف بتلك الحكومة؟ خاصة أن عدم الإعتراف لا ينفي الإنفتاح والتنسيق، ناهيك عن إحتمالية وقوع بانغي لضغوط خارجية قد تدفعها لتغيير دفتها، وبالتالي من حق الخرطوم رسم حراكها الإقليمي بعد هذه التجربة المريرة مع المليشيات المقوضة لسيادة الدولة الوطنية.
- جمهورية الصومال: بسبب تعدد الوجهات المساهمة في إيصال العتاد العسكري لمليشيا الدعم السريع، برزت منطقة “بونتلاند” الصومالية كواحدة من أبرز وجهات الإمداد الجديدة للمليشيا، وفي إطار العمل بالتعاون والتنسيق مع بعض دول الجوار الإقليمي يقترح على القيادة السودانية مراقبة عملية المد والجزر “الأمني” بين إثيوبيا والصومال والتي لو نجحت الخرطوم في إحتواء تقلباتها يمكن بعد ذلك الحديث عن تجفيف منابع الإمداد العسكري لمليشيا الدعم السريع، وعليه لابد من التعرف على “شرطة ليو” وهي مجموعة شبة عسكرية تابعة لولاية الصومال الأثيوبية، تم تأسيسها بالإتفاق والتنسيق بين رئيس منطقة الصومال الأثيوبي السابق “عبدي محمود عمر” المعروف بــ”عبدي إيلاي” وجهاز الأمن الأثيوبي للقضاء على نشاط جبهة أوغادين، ومع تدهور العلاقات الصومالية الأثيوبية أنضمت مجموعة من “شرطة ليو” إلى إدارة منطقة جوبالاند الصومالية وتبعهم أعضاء من جبهة تحرير أوغادين “ONLF”، رغم توقيعهم إتفاق سلام مع الحكومة الأثيوبية عام 2018 إلا إنهم وفقاً لتصريحاتهم لم يجدوا فوائد ملموسة من هذا الإتفاق فغادروا إلى جوبالاند للقتال ضد حركة الشباب مقابل أجور مادية، وهذا ما يفسر تعيين العقيد “خالد شيخ عمر” قائداً لقوات المشاة التابعة للجيش الصومالي في نوفمبر2024 ، وذلك بسبب عمله السابق كرئيس لجهاز إستخبارات جوبالاند، ولكونه عضو سابق في “شرطة ليو”، وهذا ما دفع أديس أبابا إلى نقل قوات الدفاع الأثيوبية من مدينة هرر الشمالية إلى القيادة الشرقية “Gode “، وهدف إدارة رئيس الوزراء الأثيوبي “أبي أحمد” هو إظهار قدرة إدارته على حماية حدودها ضد التهديد المتمثل في إرسال القوات المصرية كجزء من بعثة الإتحاد الافريقي لدعم وإستقرار الصومال “AUSSOM” ، وإستمرار تلك الأوضاع في الحدود الصومالية الأثيوبية هي ما تسهل فرص عمليات تهريب الأسلحة من وإلى تلك المنطقة.
- جمهورية جنوب السودان: التغيرات المتلاحقة في جنوب السودان باتت تؤكد عمق الأزمة الداخلية وتصدع البيئة الأمنية في جوبا، وفي حال إستمرارها سينعكس ذلك سلباً على الأمن القومي السوداني، فأزمة إدارة الرئيس “سلفاكير ميارديت” لم تعد مع نائبه ومنافسه التاريخي “رياك مشار”، بل توسعت لتشمل معظم حلفاء الرئيس الذين تمت إقالتهم ووضعهم تحت الإقامة الجبرية، مما إعتبرته الأوساط الدولية ضربة في مقتل لجبهة النضال التاريخي التي قادها جنوب السودان ضد شماله، وهذا ما نتج عنه تدهور العلاقات بين قيادات الجيش الوطني وقوات الدفاع الشعبية لجنوب السودان وفرق الإستخبارات التابع لها وجهاز الأمن الوطني وكوادر الشرطة التابعين لوزارة الداخلية وفرقة النمر، وهذا يعني أن كافة الأذرع الأمنية والعسكرية والتي من المفترض أنها تعمل في إطار تكاملي لحماية أمن الدولة ستجد نفسها أمام مفترق طرق يغريها لتبني طريق التضاد ولو على حساب الوطن.
- تدرك الخرطوم بأن أخطر قرار إتخذته إدارة الرئيس “سلفاكير” والذي قد يقلب الموازين في جنوب السودان رأساً على عقب هو إعلان تخفيض رتبة “Santino Deng Wol” رئيس أركان الجيش منذ عام 2011 إلى منصب أقل في وزارة الدفاع، وتحول ” Paul Malong Awan ” إلى المعارضة وتشكيل جبهة أطلق عليها “Front uni du Soudan du Sud”، وتعني “جبهة جنوب السودان المتحدة”، ولمن لا يعرف” Paul”، هو قائد جيش جنوب السودان السابق، وأحد أهم الشخصيات العسكرية المقربة من الرئيس، ويكفي أن نعلم بأنه صاحب المقولة الشهيرة “إذا أردت أن تكون لدي مشكلة فيجب أن تكون تلك المشكلة في جوبا” لندرك بعدها معنى القرار الرئاسي القاضي بإبعاده عن المشهد السياسي والأمني في جنوب السودان.
- رغم تنامي موجة الإحتقان الداخلي في جوبا والتي تنذر بقرب مواجهة مسلحة بين معسكر الرئيس والفصائل المعارضة، إلا إني أرى إستبعاد إنضمام “بول أوان” إلى معسكر “رياك مشار” وذلك لدور الأول في تأسيس مليشيا “Sauver le président” وتعني “إنقاذ الرئيس” والتي تم تشكيلها من “الدينكا” لإبادة “النوير” الذين ينتمي إليهم “مشار”.
- يقترح على الخرطوم تشكيل خلية أزمة لمراقبة الأوضاع في جنوب السودان، والإلتزام بالوقوف على مسافة واحدة من كافة الأطراف، بخط دبلوماسي واضح، ولكن ما يجب التنبيه له هو إستغلال بعض جيوب مليشيا الدعم السريع القابعة في المناطق الحدودية مع جنوب السودان تدهور الأوضاع في جوبا وتصديرها إلى الأراضي السودانية وهذا متوقعاً لتشتيت سير العمليات العسكرية التي يقوم بها الجيش السوداني في الفاشر، وعليه لابد من تنويع وتكثيف عمل الفرق السودانية المسلحة في إقليم دارفور لفرض هيبة الدولة على كافة الإقليم، فحواضن المليشيا في غرب البلاد لن تستطيع الصمود كثيراً ولن تقف سداً منيعاً أمام ألة الدولة ومؤسساتها في حال فرضت نفسها، وهذه فرصة المؤسسة العسكرية السودانية للقضاء على مشروع التقسيم من جذوره.
- هناك أمران يجب أن تحذر منهما القيادة السودانية خاصة مع إستمرار تقدم العمليات العسكرية للجيش السوداني والمتجهة بثبات إلى ما بعد الفاشر:
- الأول: أن تقوم مليشيا الدعم السريع بالإستعانة بمجموعة من الضباط السوريين الذي وصلوا إلى بنغازي بعد سقوط نظام الرئيس السوري بشار الأسد، ولا أعتقد أن عين الخرطوم كانت غافلة عندما شهدت الأوساط الأمنية والإستخباراتية عام 2020 تدفق ما أطلق عليه بالفرنسية “Rapports syriens d’Afrique” وتعني “تقارير سورية من إفريقيا” والتي أكدت التعاون والتنسيق بين “الأسد” و”خليفة حفتر”، وأسفرت عن توقيع الإتفاقية السرية لتدريب طياري الجيش الوطني الليبي في سوريا، ناهيك عن الجسر الجوي بين دمشق وبنغازي لنقل المرتزقة والتهريب بين شرق ليبيا وسوريا.
- الثاني: إقدام مليشيات “صبوح السلام” الليبية والتي تنشط في جنوب شرق ليبيا والموالية لمليشيا الدعم السريع على تشكيل كيان “عسكري” جديد على الحدود السودانية التشادية المصرية يعمل على تطوير خطط المواجهة المحتملة مع الجيش السوداني من جانب، وتعزيز كافة خطوط الإمداد لدعم عمليات مليشيا الدعم السريع نظراً لسيطرتها على عدد كبير من الطرق التي يستخدمها المهاجرون والحركات الخارجة عن القانون .
- أرى أن الخرطوم أمام فرصة تاريخية لإعادة فرض نفسها “إقليمياً” وبإستراتيجية جديدة تتوافق مع ما وصلت إليه القيادة السودانية من مكانة “سياسية” متقدمة، بعد نجاح قواتها المسلحة في الحفاظ على سير عمل كافة المؤسسات الوطنية مع المجتمع الدولي بإعتبارها الممثل الشرعي الوحيد للدولة السودانية، وإخضاع مليشيا الدعم السريع المتعددة الجنسيات للتراجع والإنسحاب في كثير من المواقع الحيوية.
د.أمينة العريمي
باحثة إماراتية في الشأن الأفريقي