نبيه الزبيدي – تونس
سبتمبر 2024
وقعت تونس و إيطاليا في أواخر سنة 2023 اتفاقية ثنائية تنص على استقبال إيطاليا لـ4000 عامل تونسي مؤهل سنويا و ذلك في عدة قطاعات تشغيلية. يأتي هذا الاتفاق بعد سنوات من الأخذ و الرد و انعدام الثقة بين تونس و روما. فما هو الثمن الذي دفعته أو ستدفعه تونس مقابل هذا الاتفاق.
منذ ثورة 2011 و سقوط النظام التونسي الحاكم تضاعف عدد المهاجرين غير الشرعيين (الحراقة) المبحرين من شواطئ تونس و القاصدين الجزر الإيطالية في البحر الأبيض المتوسط بصفة كبيرة. آلاف مؤلفة من التونسيين و غيرهم من جنسيات متعددة وصلوا السواحل الإيطالية مما خلق أزمة خانقة ليس فقط في إيطاليا و تونس بل و في معظم بلدان الاتحاد الأوروبي بما فيها بلدان الشمال البعيدة كالسويد و الدنمارك و فنلندا دون الحديث عن البلدان الأوروبية التقليدية المستقطبة للمهاجرين كفرنسا و بلجيكا و ألمانيا و هولندا وهو ما زاد من الضغط على هذه البلدان من المنظمات الحقوقية التي تطالب بأحقية عديد المهاجرين غير النظاميين في الحصول على لجوء و إن اختلفت أسبابه و تراوحت بين سياسية و حقوقية و اجتماعية و صحية.
يبلغ معدل المهاجرين غير الشرعيين المغادرين من تونس في اتجاه إيطاليا 17000 شخص سنويا ينقسمون بين تونسيين و أفارقة جنوب الصحراء و سوريين و بنغال و أفغان و بعض الجنسيات العربية الأخرى كالجزائريين و المصريين و المغاربة.
تكررت زيارات المسؤولين الإيطاليين الى تونس في السنوات الأخيرة و تواترت و ذلك من أجل وضع مقاربة جديدة لمحاربة الهجرة غير النظامية و ذلك بدعم أوروبي و أممي. و ما توقيع الاتفاقية الخاصة بانتداب 4000 عامل تونسي مؤهل سنويا إلا بعض من الإغراءات الإيطالية لتونس لكي تكون حارسا أمينا للسواحل الإيطالية. و تعددت الإغراءات الإيطالية و تراوحت بين قروض ميسرة و هبات مالية و وعود مؤجلة بتسهيل حصول التونسيين على تأشيرة شنغن التي تسمح لهم بدخول معظم الدول الأوروبية دون أن ننسى ما وعدت به رئيسة الوزراء الإيطالية بجلب عديد الاستثمارات الإيطالية المهمة إلى تونس.
في السنوات الأخيرة، أصبحت الحدود البرية التونسية مع ليبيا و الجزائر مرتعا للمهربين و المهاجرين غير النظاميين القادمين مشيا على الأقدام من دول إفريقيا جنوب الصحراء و هو ما خلق أزمة اقتصادية و اجتماعية خانقة في بعض المناطق و المدن التونسية المعروفة بتوفر مواطن الشغل فيها.
منذ أواخر سنة 2017 بدأت الحكومة التونسية ماراثونا شاقا من المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي الذي يسعى إلى توطين المهاجرين غير النظاميين في تونس على اختلاف جنسياتهم و هو ما رفضه التونسيون و مازالوا يرفضونه رغم أن الحكومات التونسية المتعاقبة تبدي تسامحا مريبا و تجاهلا متعمدا لهذا الموضوع الحساس الذي يمس الأمن القومي التونسي بطريقة مباشرة.
و ما موافقة الحكومة التونسية على حراسة السواحل الإيطالية و اقتناؤها لقوارب أمريكية جديدة بقيمة 110 مليون دولار في شهر أغسطس 2024 إلا دليل على التمشي الذي يتخذه رئيس الجمهورية قيس سعيد و الذي يؤكد اتفاقه مع الجانب الإيطالي على لعب دور شرطي البحر الأبيض المتوسط في وقت تعاني فيه البلاد من نقص الاستثمارات و غلاء الأسعار و نقص كبير في موارد الدولة دون أن ننسى المشاكل الاجتماعية كالبطالة و ارتفاع نسبة الفقر و لكن في نفس الوقت يبدي الرئيس مماطلة في موضوع توطين المهاجرين غير الشرعيين في أراضي تونس.
لطالما كانت تونس منذ العصور الغابرة بوابة إفريقيا نحو العالمين العربي و الأوروبي. و لا يمكن إلا لجاهل أو جاحد أن ينكر فضل تونس في نشر الإسلام بين ربوع إفريقيا و خاصة في دول الساحل و الصحراء من تشاد إلى مالي مرورا بالنيجر و وصولا إلى شمال نيجيريا أين لازال مسلمو النيجر و نيجيريا يرتدون الشاشية التونسية[1] ذات اللون الأحمر المميز.
كان الطلبة الجامعيون الأفارقة منذ عقود عديدة و في السنوات الأولى لاستقلال بلدانهم من الاستعمار الأوروبي يفضلون تونس لإتمام دراساتهم الجامعية قبل التحول لأوروبا في مرحلة ثانية أو العودة لبلدانهم الأصلية و قد بلغ العديد من خريجي الجامعات التونسية من أفارقة جنوب الصحراء مناصب سيادية في بلدانهم و هو ما حدث في موريتانيا و مالي و السنغال و الغابون على سبيل المثال.
كانت تأشيرة الدخول إلى تونس من أصعب التأشيرات و لكن و بعد ثورة 2011 اتخذ رئيس الجمهورية المؤقت آنذاك محمد المنصف المرزوقي سياسة مغايرة و قرر المضي في فكرة عودة تونس إلى أحضان إفريقيا فقام في سنة 2013 بإلغاء تأشيرة الدخول لتونس لمواطني عديد البلدان الإفريقية و تواصلت سياسته الانفتاحية على إفريقيا حتى بعد مغادرته السلطة سنة 2014. ففي سنة 2015 قامت تونس بإعفاء مواطني عديد البلدان الإفريقية الأخرى من تأشيرة الدخول إليها. و لكن ما يلام على هذه السياسة المتخذة من قبل الرئيس المؤقت عدم نجاعتها في دعم العلاقات التونسية مع بلدان إفريقيا جنوب الصحراء فلم يقم بزيارات رسمية إلى عواصم إفريقية و لم يقم بفتح سفارات جديدة و لم يستغل الناقل الجوي الوطني (الخطوط التونسية) لتدشين رحلات جوية جديدة تربط مطار تونس قرطاج الدولي مع أكبر عواصم إفريقيا كأديس أبابا و الخرطوم و أبوجا.
في الماضي، كان المواطنون الأفارقة يقدمون إلى تونس لأغراض الدراسة و العلاج و السياحة. أما الآن و مع سياسة فتح الحدود التي تم اتخاذها بعد ثورة 2011 فقد أصبحوا يزورونها من أجل العمل و الاستقرار و انتظار فرصة الانضمام لقوارب الهجرة غير الشرعية في اتجاه سواحل أوروبا.
يتمتع الآن مواطنو 22 دولة إفريقية بالدخول للتراب التونسي بدون تأشيرة[2] و حسب الإحصائيات الرسمية، يبلغ الآن عدد أفارقة جنوب الصحراء المقيمين في تونس بصفة قانونية حوالي 21000 مواطن أما المقيمون بطرق غير شرعية فتقول الحكومة أن عددهم يبلغ 23000 شخص و لكن عديد المنظمات الحقوقية غير الحكومية تونسية كانت أم أجنبية ترجّح أن عددهم يتراوح بين 150000 و 220000 يتركز معظمهم في مدينة صفاقس و أحوازها و في العاصمة تونس و ضواحيها.
مع اندلاع شرارة الحرب الأهلية في السودان في أبريل 2023، ارتفع عدد السودانيين المتواجدين في تونس بطريقة غير شرعية بصفة كبيرة و غير معتادة[3] ليصبحوا في المركز الثالث من ناحية العدد بعد مواطني كوت ديفوار و غينيا ومتجاوزين لبلدان أخرى معروفة باستقطاب تونس لمواطنيها منذ عقود مثل مالي و السنغال و النيجر.
حسب إحدى الإحصائيات الأخيرة التي قامت بها إحدى المنظمات الحقوقية التونسية، يرى المهاجرون الأفارقة بتونس أن 61% من التونسيين عنصريون و يرى 13% فقط منهم بأنهم غير عنصريين. مع العلم أن المجتمع التونسي معروف بتكوينه الثري و تنوعه العرقي المتميز مما يجعله مجتمعا متسامحا بصفة عامة و متقبلا لغيره مهما كانت اختلافاته معه. و يُعتبر الشعب التونسي أكثر شعوب البحر الأبيض المتوسط تقبلا للأجانب. و تتوزع أصول التونسيين بين أمازيغ و عرب و أتراك و أوروبيين و نسبة مهمة من ذوي الأصول الإفريقية تتراوح نسبتهم بين 7% و 9% من مجموع السكان.
لقد أثرت السنوات الأخيرة في السياسات التونسية على جميع الأصعدة و أصبحت البلاد مطمعا للقوى الدولية و الإقليمية و هو ما جعلها في موضع محرج بين مطرقة أوروبا التي تريد أن تجعل منها شرطيا يحرس شواطئها الجنوبية وسندان إفريقيا التي بدأت بإغراق البلاد بآلاف المهاجرين غير النظاميين.
و تبقى السياسة الخارجية لتونس مهتزة، ضعيفة و غير واضحة المعالم رغم التقارب الذي بدأ مع كل من الصين و روسيا في فترة حكم الرئيس قيس سعيد و لكن هذه الخيارات تبقى ناقصة و ليست ذات جدوى في ظل العديد من النقائص التي تعصف بالبلاد و منها وجوب الالتفات جنوبا نحو البلدان الإفريقية الصديقة و الشقيقة و خاصة تلك التي يجمعها الدين و التاريخ المشترك مع وريثة قرطاج الشرعية[4].
في العلاقات الدولية تؤثر الحديقة الخلفية[5] لكل بلد على أمنه و استقراره و رخائه و هو ما يجعل منها منطقة جغرافية ذات أولوية في كل السياسات المتخذة وجبت مراقبتها بحذر و العمل على معرفة كل خباياها و خفاياها معرفة دقيقة و حينية. تُعتبر بلدان الساحل و الصحراء الإفريقية جزءا من الحديقة الخلفية لتونس فأي انقلاب عسكري أو حرب أهلية أو نزاع مسلح بين بلدين أو كوارث طبيعية في هذه البلدان يؤثر بطريقة مباشرة عليها في مدة وجيزة لا تتجاوز بضعة أسابيع. و لكن الحكومة التونسية تتجاهل هذه الحقيقة و لا تبدي أي انفتاح ملموس على هذه البلدان التي يُعتبر رخاؤها و سلامها رخاء و سلاما لتونس. تمتد الحديقة الخلفية لتونس من الصومال شرقا إلى غينيا غربا و عليها دعم علاقاتها مع هذه البلدان. و من الخطوات الواجب اتخاذها للخروج من الأزمات الأخيرة التي تعصف بالبلاد و من المنتظر جني ثمارها في سنوات قليلة:
- التعامل مع البلدان الإفريقية على أساس الربح المشترك و خلق الثروة
- فتح سفارات جديدة في بعض البلدان الإفريقية المهمة و التي من المنتظر أن تصبح قوى إقليمية لما تملكه من ثروات و آفاق مثل الصومال و جنوب السودان و تشاد و النيجر
- دعم التبادل التجاري مع هذه البلدان و دعم المستثمرين التونسيين لإنشاء مشاريع فلاحية و صناعية و خدماتية ذات فرص تشغيلية كبيرة هناك
- دعم النقل البحري و الجوي بين تونس و هذه البلدان الإفريقية لتسهيل تدفق البضائع و تسهيل حركة المسافرين
يلعب تاريخ تونس[6] المشترك مع دول إفريقيا جنوب الصحراء و موقعها الاستراتيجي الذي يربط إفريقيا بأوروبا و الشرق بالغرب دورا مهما قادرا أن يجعل منها همزة وصل تربط إفريقيا ببقية دول العالم و هو دور لعبته تونس منذ الأزل و لكنها بدأت في التخلي عنه في العقود الأخيرة لعدة أسباب تاركة زمام المبادرة لبلدان أخرى منافسة.
عند تحديد الصعوبات و المشاكل و نقاط الضعف التي تضرب أي بلد بطرق علمية و عقلانية فإنه يمكن عندئذ تحويل كل هذه السلبيات إلى إيجابيات و خلق حلول و نجاحات من رحم الأزمة. و يبقى المثال التونسي قادرا على النجاح و التميز و لكن يبقى ذلك مرتبطا بالعودة إلى أحضان إفريقيا و جعل القارة السمراء أولوية من أولويات السياسات التونسية سواء كانت اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية.
[1] أشهر أنواع القبعات التونسية التقليدية و تحاك بخيط رقيق من الصوف و يتم صبغها باللون الأحمر
[2] في منتصف شهر أغسطس 2024، طلبت الكوت ديفوار من السلطات التونسية إعادة فرض تأشيرة الدخول لتونس على مواطنيها إلى أجل غير مسمى و ذلك بعد أن أصبح الايفواريون أكثر الجنسيات الإفريقية العابرة إلى إيطاليا بطرق غير شرعية مما سبب مشاكل سياسية و اقتصادية لسفارتي كوت ديفوار بكل من تونس و روما اللتين كانتا تدفعان تكاليف ترحيل هؤلاء المخالفين لبلادهم. كما أن عديد الأفارقة من بلدان مختلفة و الذين لا يحملون وثائق رسمية كانوا يدعون بأنهم من الكوت ديفوار و ذلك طمعا في الحصول على حق اللجوء
[3] في الماضي، كان السودانيون من أقل الجنسيات القادمة إلى تونس سواء بطرق شرعية أو غير شرعية
[4] الإمبراطورية القرطاجنية وعاصمتها قرطاج التي توجد الآن بالضاحية الشمالية لتونس العاصمة
[5] الحديقة الخلفية لكل بلد هي المنطقة الجغرافية القريبة منه و التي تضم في العادة جيرانه و أجوار جيرانه و التي يؤثر أي حدث يحدث فيها و إن كان بسيطا بطريقة مباشرة أو غير مباشرة على سلامة أراضيه و اقتصاده و أمنه القومي. و تختلف مساحة هذه الحديقة الخلفية و تأثيراتها من بلد لآخر حسب مساحته و موقعه الجغرافي ومكانته الدولية
[6] أعطت تونس التي كانت تسمى إفريقية اسمها لقارة إفريقيا تأكيدا على اندماجها في وسطها الإفريقي و قدم و متانة علاقاتها مع باقي بلدان القارة