تحتفل الأمم والشعوب بأبطالها العظماء الذين قادوا نضال التحرر من الاستعمار ، وكل مجتمع له رجال يعتز به، ويسرد سيرتهم، ويستنير بتضحياتهم الطريق نحو المستقبل، ويتبوّءون مكانة مرموقة بين مجتمعاتهم ، ويحظون احترام الآخرين أصدقاء كانوا أم عداء، ويتركون في كل مكان بصمات وذكرى جميلة يفتخر بها الجنس البشري.
البطولة لا تأتي بالإدعاء، وإنما عبر التضحية بالنفس والمال. والبطل الحقيقي من يقاتل من أجل قضية عادلة ، وغاية نبيلة رغم عدم التكافؤ في العدة والعتاد، وإلّا لما سمى بطلا. فالبطل المهزوم لا يثير إعجابا بقدر ما يمثله البطل المنتصر رغم التضحيات من أجل الانتصار. وهذا المعنى موجود في العبارة الشهيرة: كان الحظ مفقودا، وليس الشجاعة. لكن بالتأكيد سيترك أثرا يقتفي به من سيأتي بعده، ما دامت سيرته حية تتناقلها الأجيال.
غالبا ما تجتاح منصات التواصل الاجتماعي في الصومال عند حلول ذكرى الاستقلال نقاشات وحوارات حول أحزاب أو أشخاص يُعتبر (من قبل البعض) أنهم أبطال الحرية، ومؤسسو الجمهورية وينظرون إليهم باعجاب رغم عدم امتلاك بعض المشاركين في تلك النقاشات معرفة وافية وتفاصيل حقيقية حول طبيعة وسيرة هؤلاء الأبطال المزعومين.
في المقابل، ثمة من يشكك صحة هذه المزاعم ويرى أن للقصة جانبا آخر غير محكية وزوايا مخفية، ويجادل هؤلاء بأن الرواية الرسمية الرائجة في أوساط الصوماليين مختلقة عن الحقائق والوقائع التاريخية، وما جرى في العقود الطويلة التي كانت البلاد تحت وطأة الاستعمار، والمقاومة الشرسة التي تلقتها من قبل المقاومة. وإنما أراد أصحابها ولغاية في أنفسهم تجاهل الأبطال الحرية الحقيقيين الذين قادوا الثورة والمقاومة ضد المستعمر ومهدوا الطريق للاستقلال وقدموا أرواحهم فداء للدين والأرض، وكذلك أرادوا اسدال ستار النسيان عليهم، وجعل سجلهم الحافل بالبطولات والتضحيات طي الكتمان، حتى لا تظهر حقيقة بطلان روايتهم وزيف مزاعمهم.
جمهوريتنا التي ظهرت في الوجود بالصدفة وعبر سياق في غاية الغرابة. خرجت من رحم الاستعمار البريطاني والإيطالي، وبُنيت على أنقاض ما يسمى الفاشية الإيطالية في القرن الأفريقي، ونمت في بيئة غير سليمة تتداخل فيها القبلية والوطنية المصطنعة، وتفتقر إلى أدنى مقومات الدولة الوطنية والقومية، وتعاني من فقدان روح الذاكرة التاريخية الوطنية المناهضة للاستعمار، واعتمدت بعملها التأسيسي على التناقضات السياسية للدول الاستعمارية. .
لقد تعمد مؤسسو جمهورية الصومال، تبني النهج الاقصائي والمشاركة السياسية الغير المنصفة وغير النزيهة، من خلال السرد الأسطوري الوهمي، والملاحم المزيفة لإضفاء نهجهم نُبل وقيم أصيلة ، وتعزيز الشعور الوطنية المشتركة بفضائل المقاومة عليهم وعلى نهجهم.
يرى كثيرون أن فضل استقلال الصومال، ونيل حريته عائد إلى النادي الشباب الصومالي باعتباره حركة تحرر وطني لعبت دورًا حيويًا في قيادة حركة الاستقلال وتشكيل الأمة الصومالية، والعمل التأسيسي للدولة. ولكن ما يجهل هؤلاء أن هذه سردية مجتزَأة بُنيت على منطق السردية السلطوية الانتقائي وبأسس باطلة، بل لا نبالغ إذا قلنا إنها بدايات أحداث متسلسلة أريد بها تحريف التاريخ، وخلق سردية انتقائية غير حقيقية لأحداث حصلت ضمن حيز جغرافي محدد، وغرسها في الذاكرة الجمعية الوطنية، وتقديمها على أنها هى الوحيدة والحقيقة الكاملة.
لا يوجد توافق داخل المجتمع الصومالي حول تعريف وتحديد من هم أبطال الاستقلال والحرية كما لا يوجد توافق على مفهوم وصفات الشخصيات التى يفترض أنهم رواد الحرية والاستقلال، وسيرتهم الذاتية ودورهم الحقيقي في الكفاح والجهاد ضد المستعمر. يرى فريق من المجتمع أن مؤسسي الدولة الصومالية الحديثة أبطالٌ يجب احترامهم، بينما يراهم غيرهم خونة وعملاء للمستعمر. كما أن هناك مفاهيم ومعلومات مغلوطة حول شخصيات، وأحداث تاريخية في حقبة زمنية معينة تُعتبر في أوساط غالبية المجتمع من المسلمات التي لا تقبل النقاش في ثبوتها ولا يجوز التجاوز عليها، وتُعرِّض من يجادل فيها للمساءلة القانونية، لكن من خلال قليل من البحث والتحري يتبين أن الرواية غير مكتملة ولها جانب آخر، وتنقصها المصداقية والموضوعية ، ويلفها الغموض، حيث أن السردية الرسمية في هذا الشأن لا تسعفها الحقائق والوثائق التاريخية، والتى تثبت ما لا يدع مجالا للشك أن بعض الشخصيات أو الرموز التى تعتبر من المناضلين الكبار وآباء الحرية لم يكونوا في الحقيقة إلا أعوانا للمستعمر، أو على الأقل ليس في سجلهم أي عمل بطولى تذكر ضد المحتل، وبعضهم بعدما قدموا خدمات جليلة للمستعمر، اختلفوا معه في أمور شخصية لا علاقة لها بمقاومة الاستعمار حينها تبنوا نهج المقاومة وأبدوا تحديهم للمستعمر مما تسبب في سجنهم حتى وافتهم المنية أو تم نفيها إلى خارج البلاد، وعلى هذا أصبحوا أبطالا قوميين.
ظهر معظم الذين ما زال يطلق عليهم “أبطال الحرية” في المسرح الصومالي خلال فترة الإحتلال البريطانية المؤقتة في جنوب الصومال وفي ظروف استثنائية، حيث طرأت تغييرات كبيرة على الساحة الدولية، والإقليمية وأن السياق الجيوسياسي في العالم بعد الحرب العالمية الثانية لدى قوي المنتصرة في الحرب، أصبح يتجه نحو منح الدول المحتلة والمستعمرة خاصة في أفريقيا للحرية.
سيطر البريطانيون على الصومال عام 1941، عقب هزيمة إيطاليا في الحرب العالمية الثانية وخروجها من الصومال. مع الوصول البريطانيين إلى مقديشو حدثت تغييرات ملحوظة في المجالين الاقتصادي والاجتماعي من خلال السماح بتكوين الجمعيات، وبدء توظيف الصوماليين في الإدارة العسكرية البريطانية وفي قوات الدرك، بالإضافة إلى ذلك رفع سقف حرية الصحافة في البلاد. وفي الفترة من 1946 إلى 1947، تم أيضًا وضع الخطوط العريضة لإصلاح النظام التعليمي الذي أدى مع عوامل أخرى، إلى تطور أكبر لوعي الأمة وكان هذا بلا شك العامل الذي عزز القومية الصومالية.
في عام 1943 تأسس نادي وحدة الشباب الصومالي، ليصبح أكبر حزب سياسي في الصومال ويحكم مصير البلاد منذ الاستقلال حتى انقلاب محمد سياد بري (1960 – 196). والجدير بالذكر أن عام 1943 عند تأسيس عصبة الشباب كان عمر الاستعمار الأوروبي في الصومال قد تجاوز ستين عاما، جاثما في صدور الصوماليين يسومهم سوء العذاب وأصنافه. علما أن مقاومة المحتل الإيطالي والبريطاني بدأت فور وصوله إلى الأراضي الصومالية من الجنوب إلى الشمال، وقامت ثلة من الرجال والقبائل بتصدي الاستعمار. إذاً أين ذكر البطولات والملاحم التي سطرها رجالٌ أبطالٌ من الشماليين والجنوبيين الذين استشهد بعضهم وطرد الآخرون من أرضهم؟ في السردية الرسمية، أين ذكر القرى والبلدات التي دمرت واحرقت عن بكرة أبيها؟ والآبار التي سممت ودفنت؟. من يعرف أسماء أبطال مذبحة لفولي التى تعرضت لها قافلة استكشافية للمستعمر الإيطالي بقيادة الضابط انتونيو جيكي؟، وكذلك ملحمة طناني المشهورة فبراير وفي مارس ١٩٠٨م؟، وملحمة مليد؟، ومن سمع عن مجزرة قرية نيمو من قري قبيلة وعذان التى قامت البحرية الإيطالية بقصفها على رؤوس ساكنيها؟، ومجزرة عيل حاج في مركة؟، ومن سمع عن الأبطال الأفذاذ مثل الشيخ القائد ابيكر غافلي؟، والبطل حسن عمر يوسف؟، والسلطان نور امان وغيرهم من الأبطال الأشاوس الذين مرغوا أنف المستعمر بالترات، ونغصو عيشته، ومنعوا أن يحتل البلاد ويستحوذ خيراته لعقود حتى آخر لحظة في حياتهم. ألا يستحق هؤلاء أن يذكر سيرتهم ويخلد أسماءهم في سجلات التاريخ.
تصادف تأسيس العصبة أو نادي الشباب الصومالي في ظروف استثنائية حيث تغير نظام إدارة جنوب البلاد من مستعمر إيطالي إلى آخر بريطاني. لقد جرى تأسيس النادي بفكرة صومالية، ولا نستطيع أن نقول إن بريطانيا كانت وراء تأسيسه غير أن المؤكد هو أنها لم تعارضه، وخلقت له البيئة والظروف المناسبة لتأسيسه، وحظي على الفور بدعم البريطانيين؛ لأنه كان متعاونا معهم ومناهضا لإيطاليا رغم الميول الشيوعي للنادي.
بالنسبة للإنجليز كان نادي SYL مرجعا محليا فريدا يمكن التعامل معه واستجاب بشكل مثالي لخطط الحكومة البريطانية. وفي المقابل علق SYL آمالا عريضة على ما سمى بخطة بيفين التي طرحت فكرة “الصومال الكبير”، تحت الوصاية الإنجليزية، الذي يشمل إلى جانب الصومال الايطالي والصومال البريطاني، أرض أوغادين، وهود، والجزء الصومالي في كينيا، على أساس مبدأ التجانس العرقي واللغوي الذي يشير إلى هوية وطنية مشتركة والتى لم تتحقق، ولم تكن الخطة إلا وهما ومكرا من البريطانيين الذين كانوا يسعون منع إيطاليا من العودة إلى الصومال. والأمر المؤكد أيضا هو أن نادي الشباب الصومالي لم يكن خاضعا “تماما” للإرادة البريطانية، إذ كانت قياداته ترى أن نهاية الاستعمار لن تكون إلا عندما تتحرر البلاد من كل التدخلات والمؤثرات الخارجية.
لا نجادل في صدق نواياهم الحسنة بمشروعهم الوطني، ولكن تأسيس هذا النادي -والتوقيت وكذا السياق الذي أسس فيه – أثير شكوك حوله وخاصة فيما يتعلق بدور بريطانيا في ذلك. كما أثير إشكاليات حول أهداف الحزب ودور القبيلة فيه ، على الرغم من أن بعض بنود لائحته الأساسية قد نصت نبذ القبلية ومنع إستخدامها داخل الحزب، لكن الممارسات العملية للنادي كانت عكس ذلك. . ومن القواعد التي رسختها ممارسات النادى أثناء فترة الوصاية وبعد الاستقلال، والتي يعاني الوطن منها ومن تبعاتها إلى اليوم ، المحاصصة القبلية والمحسوبية، والتي بدورها أدت إلى تفكك المجتمع الصومالي وانشطار البلاد الى دويلات على أساس قبلي.
التاريخ الذي علينا كتابته هو التاريخ العلمي المنطلق من المبادئ الوطنية والأخلاقية والتي تحدّد المنهج المتبع في دراسة ماضينا، التاريخ الذي يبلور الخطاب الوطني الاحتوائي في مواجهة الخطاب الفئوي والحزبي والإق صائي والمنحاز، ورفض السردية الاختزالية التي تفرضها السلطة الرسمية على مدارسنا وجامعاتنا وعلى مراكز الأبحاث العلمية.
اليوم آن لنا أنْ نعلن الحرب ضدّ منظومة التاريخ الاحتكارية، فإنّه من واجبنا الدينية والوطنية أن نكتب تاريخ شعبنا بأنصاف وبأقلام حُرّة.