يوسف علي وأيطاليا (2)
مشاركة السلطان يوسف في الحملة الإيطالية ضد السلطان عثمان محمود
السلطان يوسف على ساند وشارك في الحملة الإيطالية التى تهدف إلقاء القبض على السلطان عثمان محمود أو اجباره على الاستسلام، بحماسة شديدة وكان يوسف خير معين لها على تأديب عثمان محمود ويدها اليمنى ، وأكثر قادة الصوماليين “اخلاصا” لإيطاليا، من أجل تحقيق حلمه وهو أن يكون سلطانا لكل المجيرتينين والهيمنة على المشهد السياسي وبسط سيطرته على كافة الشرق الصومالي، وبذل جهدا كبيرا لإضعاف خصمه وتشويه سمعته، والتقرب والتودد من الإيطاليين بغية الوصول إلى غايته. اختلاف نظامي الحكم في كلا السلطتين لعب دورا محوريا في تعامل الإيطاليين معهما. في هيبو السلطة كانت كلها بيد يوسف على كينديد ولم يكن ثمة أطراف أخري في الحكم تشاركه في أخذ القرار، النظام شمولي يتمحور حول شخص واحد, يجمع في يده كل الصلاحيات “لا يرجع عند أخذ الفرار إلى أي جهة في داخل السلطنة في ما يتعلق بسياساته الخارجية” عكس سلطان مجيرتينا الذي كان رهينة لزعماء العشائر ورؤساء القري خاصة مستشاره وعم والده نور عثمان الذي كان وصيا عليه في صغره، واخوه احمد تاجر.
وضعت إيطاليا في بداية الأمر جل ثقلها على استخدام المال والدبلوماسية في تيسير شؤون المستعمرة أو محمياتها، ولم يكن لها تصور ورؤى واضحة لادارته، فكانت تتخبط خبط عشواء، ولم ترد أن تتدخل عسكريا وبقوة برية كبيرة واكتفت بمراقبة الوضع عن بعد على متن أسطولها الحربية في السواحل الصومالية وزيارات عرضية دورية يقوم بها بعض الموظفين أو قبطان السفن الحربية لتسليم الرواتب السلاطين أو زعماء القبائل وسماع شكواهم وتفقد أوضاع المحمية، تجنبا من مغبة تكرار التجارب المريرة والمؤلمة التي تلقتها في إريتريا. وحاولت أن لا تورط نفسها بشكل مباشر الى حين في المستقنع الصومالي الذي ليس له رأس ولا ذيل ، وفي مجتمع لم يعهد تلقي الأوامر أو فرضه عليه من الخارج أو تقييد حريته وكذلك القيادة التقليدية في الصومال صعُب عليها التكيف على الوضع السياسي الجديد و الجمع أو التوفيق بين مصالح الحامي والزاماته وارادته السياسية وبين نظامهم التقليدي وعادات المجتمع التي لا تقبل التنازل عن السيادة والاستقلالية والثوابت الدينية والقبلية ولا ترضي الخضوع للمستعمر الكافر، علاوة على ذلك تعارض المصالح الشخصية والمطامع السياسية للزعماء ورغبتهم في الاحتفاظ على الهيبة والمكانة الاجتماعية التى يتمتعون بها أمام رعاياهم، وهي معرضة للفقدان حال تنازلهم عن السيادة الوطنية لصالح المستعمر، جعلت الطبقة الحاكمة (سلطنة مجرتنيا) في مأزق ولم يستطيعوا إدارتها بشكل متزن يرضي جميع الأطراف المعنية. وأيقنوا أنهم مجرد خدمة وموظفين ينفذون أوامر الأسياد ويتقاضون الرواتب حسب مستواهم الاجتماعية وحاجة المستعمر، هو أمر لم يكن سهلا لبعض الساسة تقبله أنفة منهم وخوفا من القاعدة الشعبية والاجتماعية حيث بدأ البعض يتمرد او أظهر الاسترخاء في تنفيذ بعض بنود الاتفاقية، مثل السلطان عثمان محمود.
يقول الكاتب الإيطالي جيراردو نكوليسي في كتابه imperialismo e resistenza in corno di africa .p 45-48
وجدت إيطاليا صعوبة في إقامة علاقة تعاونية متوازنة مع السلطات في سلطنتي مجيرتينا وهبيو. في حالة سلطنة هيبو، القوة الشخصية اللا محدودة والحكم المركزي الذي يتمتع يوسف علي كينديد سهلت التعامل معه، أما في حالة مجيرتينا كانت مختلفا تماما، الهيكل أوليغارشية في السلطنة والتوزيع الواسع فى الحكم بين زعماء القرى الأقوياء طول سواحل مجيرتينا كانوا عوامل أبطأت الوصول إلى اتفاق كامل. وزد على ذلك اختلاف نظامي الحكم في السلطنتين والتنافس في بينهما ومواقعهما الجغرافي، جعلت خطط وسياسة إيطاليا الاستعمارية تنحاز الى سلطنة هبيو وتفضل يوسف لأجل و لصالح حماية مستعمرة(بنادير)، عوامل وضعت خيوط التعامل غير النزيه تجاه اثنين من السلاطين الذين تحت حماية إيطاليا. انتهى
ويقول الكاتب الإيطالي كاروسيلي في كتابه ferro e fuoco:
إن التنافس بين الخصمين السلطان عثمان محمود والسلطان يوسف اشتدت حدته بعد دخول إيطاليا في الساحة وزادته الأحداث اللاحقة التي دفعت حكومة بنادير إلى تسليح سلطان هوبيا وتنظيمه عسكريًا دفاعًا عن بنادير من غزو السيد المحتملة، هذه الخطوة إثارة حفيظة السلطان عثمان محمود. انتهى
ادعى السلطان عثمان محمود رغم تلقيه مشاهرة(الراتب الشهري) من إيطاليا أنه لا يستفيد من الحماية الإيطالية سياسيا وعسكريا غير التنازل عن قدر كبير من صلاحياته السياسية وتخل عن بعض مناطقه وإعطاء إيطاليا حق التدخل في شؤونه الداخلية وأسوأ من ذلك يرى عثمان محمود أن أي اتفاق مع إيطاليا سيكون لصالح يوسف على كينديد. المعاملة المميزة الذي يحظى يوسف على كينديد لدى إيطاليا جعلت السلطان عثمان محمود يغار عليه ويفكر في طريقة التحلل والتنصل من المعاهدة والبحث عن بديل، وفعلا بعث سفارات إلى اسطنبول يطلب المساعدة من الخلافة العثمانية، وجيبوتي حيث الفرنسيين، ودار السلام لدى الألمان يعرض عليهم استعداده التفاوض معهم فى الحماية الفرنسية والألمانية، لكن هذه المساعي باءت بالفشل.
بسبب عدم الاستقرار السياسي والتجاذبات السياسية الإيطالية في روما، ألهت الساسة الإيطاليين عن المستعمرة، ولكن تزايد الاستياء الشعبي من الأخبار الغير السارة التي تأتي من المستعمرة الإيطالية في شرق أفريقيا وتغطية الصحافة السلبية واتهامها الحكومة في روما بالتقصير وعدم الجدية في ملف المستعمرات. أجبرت على الحكومة الإيطالية أخذ بعض التدابير، وفي عام ١٨٩٩ تم تعيين بعثة إيطالية برئاسة القنصل جيليوبستلوسا مشفوعا بقبطان السفينة الحربية volta كابتن ريكيري من قبل الوزارة الخارجية الإيطالية وإرسالها إلى الصومال لإعداد تقريرا عن الأوضاع في المستعمرة ورفعها إلى الحكومة الإيطالية ومتابعة وحل قضية تهريب السلاح والذخيرة في سواحل مجيرتينا وإقناع سلطان عثمان محمود بعدم تزويد السيد بالسلاح ومنع تهريبه عبر مجيرتينا، والالتزام ببنود الاتفاقية الحماية. وفي نفس السنة ١٨٩٩ باشرت البعثة مهامها من هبيو قادمة من زنجبار حيث يقيم القنصل بستالوسا وقابل يوسف على كينديد، وبادر يوسف فورا بالاحتجاج بصداقته مع إيطاليا وإنكار ما يشاع عنه حول ادخال السلاح غير المرخصة إلى بلاده. ومنها انطلق بستالوسا برفقة يوسف على كينديد إلى مجيرتينا بهدف اللقاء بالسلطان عثمان محمود، والتقى بوجهاء وزعماء القرى والبلدات التي مر بها على طول سواحل مجيرتينا وطلب منهم عدم الانخراط والاشتراك في تهريب السلاح. قبل لقائه بالسلطان عثمان محمود، ارسل بستالوسا يوسف إلى لقاء بعثمان محمود وأن يحاول تغيير رأيه والرجوع عن المغامرة غير المحسوبة العواقب، ونصح يوسف السلطان عثمان محمود بالالتزام بتعهداته وإلا فيصير مصيره مجهولا، واستطاع أن يقنعه بالجلوس مع بستالوسا والمناقشة وجها لوجه في جميع القضايا العالقة، ووافق عثمان بلقاء بستلوسا. وعُقدت جلستين مختلفتين وجرت مفاوضات مكوكية شاقة ومناقشة طويلة غير مباشرة استمرت قرابة سنة ولم تؤد إلى أي نتيجة، وأثناء المفاوضات نصح يوسف بستالوسا أن يأخذ خطوات أكثر حزما وصرامة تجاه عثمان محمود قبل فوات الأوان. راي بستالوسا في شخصية عثمان محمود محاور غير موثوق به ولا يمكنه إجراء مناقشات جادة مع السلطات الاستعمارية الإيطالية، وأنه بدوى جاهل مغرور بلقبه “ملك”.
وبعد ما استنفذت كل الوسائل السلمية لإقناع السلطان عثمان محمود الرجوع الى الاتفاقية الحماية وتنفيذ بنودها كما هي، وعدم التمادي في العناد. وأصر عثمان محمود على موقفه غير قابل للتغيير، وادعي بأن الاتفاقية الحالية انتهاك لسيادة واستقلالية أرضه و مجحفة بحقه. وأنه حر في تصرفاته في داخل بلاده، وأن لديه أيضا شروط يجب على إيطاليا تنفيذها منها تسليم يوسف وكذلك لا يقبل إنزال حامية عسكرية ايطالية ومقيم إيطالي دائم في بلاده وبناء منارة في غور دفوي في مدخل خليج عدن وباب المندب كما تطلبه إيطاليا، وغير مستعد تسليم السلاح الذي بحوزته “الغير المرخصة” من قبل الإيطاليين والذي تعتقد أنها ذاهبة إلى السيد محمد عبدالله أخذ بستالوسا خطوات أكثر حزما تجاه عثمان محمود تتضمن إلقاء القبض عليه، “رغم أن بريطانيا تفضل حلا سياسيا بدلا من حل عسكري قد تُقرّب عثمان محمود من السيد او تدفعه إلى التحالف مع السيد”. وعلى أن تتم العملية بغتة في وقت متأخر من جنح الليل وبسرية تامة في مدينة حافون حيث يقيم السلطان عثمان محمود وإشراك قوة من عساكر يوسف على كينديد لإنجاح الخطة، وباسناد من السفن الحربية الإيطالية المرابطة في سواحل مجرتنا لإجباره على الاستسلام التام وغير المشروط، والخضوع لشروط إيطاليا، وفي حال فشلت العملية كان من المقرر أن تتولى السفينتان الحربيتان كولومبو وفولتا قصف وتدمير البلدات والقرى والآبار والاحراش، وإلحاق أكبر قدر ممكن من الضرر ثم محاولة إنزال الجنود والهجوم في وضح النهار.. وقبيل ساعة الصفر غُيِرت الخطة باقتراح من ريكيري أحد القطبان السفن الحربية لإعطاء فرصة أخيرة، وابلغوا السلطان عثمان محمود الإنذار الأخير بواسطة رسالة نصية، لكنه لم يستجب. و في مارس ١٩٠١م وقبيل الفجر هاجمت ١٠٠ عسكري من عساكر يوسف تسانده مدفعية البحرية الإيطالية على بلدة حافون التي كان السلطان عثمان محمود يتواجد فيها. فشلت الخطة بشكل ذريع وتمكن عثمان من الفرار إلى الداخل، ورفض يوسف على كينديد مطاردته خارج البلدة.
يَذكر Gerardo Nicolesi في كتابه imperialismo e resistenza in corno di africa p 47-48 أسباب فشل العملية:
“هناك روايتين متضاربتين لنتائج الهجوم الفاشل بسبب عدم وجود عامل المفاجأة، واحدة لبستلوسا وأخرى لكابتن البحرية Richeri. وتركز رواية بيستالوزا على مسؤولية القائد ركيري الذي عمد بإرسال إشعار تحذيري “كتابة” إلى سلطان مجيرتينا قبل إجراء العملية. ، وكما كان من السهل التنبؤ به في مثل هذه الظروف أتاحت لعثمان فرصة ذهبية للهروب. وبنسبة لريكيري يعتقد أنه لا يمكن الاعتماد والوثوق برجال يوسف ولذلك لا يستطيع التحمل مسؤولية أفعال الجنود غير المنضبطين خارج إطار القانون، من الممكن أن يلحقوا بسكان البلدة اضرار شنيعة، في عمل ليلي خارج إشرافه المباشر وكذلك يُرجع ريكير فشل العملية إلى قلة رغبة يوسف ملاحقة عثمان بعد فراره واكمال الهجوم الى النهاية، وكان جل اهتمام يوسف هروب عثمان إلى الداخل واسترجاع مدينة علولا التي اُبعد عنها في وقت سابق ويدعى أحقيتها، وبلدات أخرى مثل بندر فلك وبندر قاسم . ومن جانبه برر يوسف رفضه ملاحقة عثمان محمود استحالة إكمال العملية خارج البلدة لأنها عملية صعبة وخطيرة نظرا لوعورة الطريق ونذرة المياه في المنطقة التي فر إليها السلطان عثمان محمود” انتهى. فور هروب السلطان عثمان محمود وجميع مساعديه ومستشاريه باشرت البحرية الإيطالية قصف بلدة حافون معقل عثمان محمود، ومحل إقامته وبعض مباني لأخيه أحمد تاجر في بندر قاسم، وفي الأثناء تم تكليف يوسف على كينديد بشكل مؤقت بإدارة والدفاع عن بندر علولا، بندر فلوك، بندر قاسم مقابل رسوم قدرها 12 ألف روبية للسنة الأولى و 8 آلاف روبية عن كل سنة من الإدارة في السنوات اللاحقة مع الزامات أخرى منها منع تهريب السلاح والذخيرة، وان مدة ادارة يوسف على كينديد على مجيرتينا تنتهي بدون حق الاعتراض متى رغبت إيطاليا تَسَلُّمِها أو اعطائها إلى أي شخص الجهة تريد. G.nicolosi p 49.
وأثناء غياب عثمان محمود عن الساحل واختفائه في الداخل تصاعدت مخاوف حكومة بريطانيا من خطورة التحام قضية السيد مع الاستياء المجيرتينة الشمالية. رغم ارتياحها بالعملية التأديب التي قامت بها الحكومة الإيطالية تجاه عثمان محمود إلا أنها لم تخف غلقها من هذا الالتحام المحتل وأشارت الى السلطات الإيطالية بحث بأسرع وقت ممكن الحل السلمي للقضية كلها وتسهيل عودة السلطان عثمان محمود إلى مكانه المعتادة لتجنب تداعيات وتأثير غير المباشر التدابير المتخذة والدعم المقدم للسلطان المنافس يوسف على كينديد ( على عثمان محمود) والتى من الممكن أن تدفع السلطان عثمان محمود الى التحالف مع السيد محمد وضم قواته المقدرة ستين ألف مقاتل تقريبا الى قوات الملا محمد عبدالله حسن، وأن تم هذا التحالف سيسبب كثيرا من الإزعاج للسلطة البريطانية و يطوِّل أمد الحرب. خوفا من اتساع رقعة الحرب والتداعيات السلبية على مستعمراتها ومن أجل سياسية إبقاء التوازن بين يوسف على كينديد وعثمان محمود، بادرت إيطاليا وبتنسيق مع بريطانيا عبر وسطاء من وجهاء القبائل بالتفاوض مع سلطان عثمان محمود واعادته الى سلطنته عبر اتفاق جديد.