العقل هبة منحه الله للإنسان امرأة كان او رجلا ويتفاوت الناس في عقولهم وذكائهم كما يتفاوتون فيما عدا ذلك من المواهب الانسانية. وينمو عقل الانسان رجلا كان او امرأة ويزداد فهمه وتقديره للامور بمقدار ما يكتسبه من العلوم التي تصقل عقله وتشحذ فهمه. والمرأة والرجل يستويان في كل ذلك. فليس هناك جنس اعقل من جنس اخر بحكم الذكورة والأنوثة وانما العقل اعدل الأشياء قسمة بين الناس كما يعزى الى الفيلسوف الفرنسي رينه ديكارت.
وليس الذكر اكثر عقلا ولا أشد نباهة ولا اوفر ذكاء من الأنثى بحكم الطبيعة والجبلة والجنس وانما العقل منحة ربانية على مستوى الفطرة الانسانية ويمكن للإنسان ان ينمي عقله بالقراءة والاطلاع والخبرة والسير في الافاق والنظر في آيات الله في الانفس وفي الكون. ونقصان العقل ليس شييا خاصا بالمرأة وانما هو شيي يشترك فيه الرحل والنساء. والاصل في الانسان رحلا كان او امرأة هو نقصان العقل. فالرجل والمرأة يولدان على الفطرة كالصفحة البيضاء لا يعلمون شييا (والله آخركم من بُطُون أمهاتكم لا تعلمون شييا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون) النحل: ٧٨. ثم يبدأ الطفل يعقل ما حوله بما حباه الله من أدوات النظر والفكر. فالطفل الصغير ينشأ محبا للاستطلاع والاستكشاف ولكن كلما كبر يضعف لديه هذا النروع للاستطلاع ويميل الى محاكاة مجتمعه في تقاليدهم وأعرافهم وعاداتهم دون استفسار او تفكر او تدبر.
فليس هناك جنس من الناس كامل العقل وجنس اخر ناقص العقل وانما الامر كله على مقدار ما وهبه الله للإنسان من العقل بغض النظر عن جنسه ثم بالجهود الذاتية التي يقوم بها الانسان لتنمية عقله وشعوره وذوقه ولا دخل هنا للذكورة ولا للأنوثة وانما لكل عقل رهين بما كسب من العلم وما بذله من جهد لصقل عقله وتهذيب فكره وتركية نفسه. والمرأة التي نتحدث عنها ليس شييا غامضا او متخيلا نتصوره في خيالنا وانما هي الام والأخت والبنت والزوج فلينظر كل منا الى أمه او اخته او زوجه او بنته ثم ليقارن عقله مع عقولهن فهل ترى من نقصان عقل خاص بعقولهن او يرجحان عقل خاص بعقول الرجال؟ثم انه ليس هناك رجل كامل الرجولة وليست هناك امرأة كامل الأنوثة وانما في كل رجل بعض خصائص المرأة وجينات الأنوثة من جانب أمه كما ان في كل امرأة بعض صفات الرجل وجينات الرجولة من ناحية ابيها. وانما الفرق هو مقدار ما في الجنسين من هذه الخصائص قوة وضعفا.
وهذا ما عبر عنه الاديب الفيلسوف عباس العقاد في كتابه (المراة والقران) حيث كتب: “فالأنوثة صفات كثيرة لا تجتمع في كل امرأة، ولا تتوزع على نحو واحد في جميع النساء. فليست كل امرأة أنثى من فرع رأسها إلى أخمص قدمها، أو أنثى مائة في المائة كما يقول الأوروبيون، بل ربما كانت فيها نوازع الأنوثة ونوازع غيرها إلى الذكورة، وربما كانت أنوثتها رهنًا بقوة الرجل الذي يظهرها فلا تتشابه مع جميع الرجال. وربما كانت في بعض عوارضها الشهرية وما شابهها من عوارض الحمل والولادة أقرب إلى الأنوثة الغالبة، أو أقرب إلى الذكورة الغالبة، وقد كانوا فيما مضى يحسبون هذا التراوح بين الذكورة والأنوثة ضربًا من كلام المجاز، فأصبح اليوم حقيقة علمية من حقائق الخلايا، وفصلًا مدروسًا من فصول علم الأجنة ووظائف الأعضاء. وليس التناقض لهذا السبب مقصورًا على النساء دون الرجال، فان الرجل أيضًا يصدق عليه ما يصدق على المرأة من تفاوت درجات الرجولة؛ إذ ليس كل رجل ذكرًا من فرع رأسه إلى أخمص قدمه، أو ذكرًا مائة في المائة كما يُقال في اصطلاح الأوربيين، ولكن التناقض لهذا السبب يبدو في المرأة أغرب وأكثر، لامتزاجه بأسباب التناقض الأخرى ومحاولة الرجل أن يفهمها على استقامة المنطق كدأبه في تفهم جميع الأمور”اه.
وقد كانت المراة مهضومة الحق مظلومة على مرًٌ العصور وتغير الازمان حتى ان كثيرا من الادبيات الدينية حمّلتها وزر خروج ادم من الحنة وجعلتها سببا لشقاء الانسان في الدنيا، ولكن القران انصف المراة ودحض هذه المقولات وأبطلها من اساسها وأسند مسئولية الهبوط الى كل منهما (فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه) البقرة:٣٦، ولكن تلك الادبيات الدينية الإسرائيلية قد تسربت الى عقول المسلمين فترى كثيرا منهم اليوم يرددون فصة مسئولية حواء عن شقاء الانسان. ثم اعترف الاسلام للمرأة إنسانيتها واكرمها وجعلها حقوقا متساوية مع الرجل على مستوى المسئولية الانسانية ومنحها أهلية التكليف كالرجل وأهلية التصرف في نفسها وفي مالها وأعمالها.
وكذلك كان الرسول عليه الصلاة والسلام يعامل امهات المؤمنين باحترام وأعطاهن المكانة الانسانية المثلى. ولا يتصور ان يقول ما يقدح في إنسانيتهن او ما يطعن في عقولهن او أفهامن. وقد كان يستشيرهن اذا حزبه أمر. واستشارته ام المؤمنين ام سلمة في صلح الحديبية وأخذه بمشورتها مشهور وطافحة في كتب السير. وعلم عايشة وعقلها لا يحتاج الى بيان. وكذلك كانت امهات المؤمنين جميعا وساير نساء الصحابيات. فكيف نترك المبادي السامية والمكانة العالية التى وضعها القران المراة المسلمة وما تواتر من تطبيق الرسول عليه الصلاة والسلام لتلك المبادئ في حياته العملية مع النساء؟ وقد بايع امهات المؤمنين بيعة خاصة مستقلة كبيعة الرجال مما يدل على حرصه على مراعاة إستقلالية المراة وأهليتها للتكليف والمسئولية.
اما الحديث الذي يستدل به البعض لإثبات نقص عقل المراة فليس فيه من حيث دلالته ما يدل على تنقص خاص بالمرأة. وشهادة المراة دائما ليست نصف شهادة الرجل وانما تقبل شهادة امرأة واحدة بل قد تكون أفضل من شهادة الرجال فيما يتصل بشؤون النساء وما يرتبط بأمورهن الخاصة. ومناط الامر هنا ليس نقصان العقل او كماله وانما العبرة في الخبرة والتخصص. فشهادة الخبير والمتخصص في امر من الامور مقدم على غير الخبير وغير المتخصصص رجلا كان او امرأة. اما نقصان الدين فيما يتصل بتركها الصلاة والصيام في حالة الحيض فهذا من ترخيصات الشارع لهن ولسن مكلفات في هذه الأحوال، والانسان محاسب فيما كلّفه الشارع من الأوامر اما ما رخصه فليس يضر لانه معفو عنه وليس بمكلف، فكيف يكون ذلك نقصانا في دينها. وقد سمعت هذا التخريج من شيخنا الامام الشعراوي رحمة الله عليه. وهو تخريج لطيف حسن.
وقد وقف الشيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر في كتابه ” الاسلام عقيدة وشريعة” على قوله تعالي (واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى) البقرة: 282. فقال معلقا؛ (والآية جاءت على ما كان مألوفا في شأن المرأة، ولا يزال أكثر النساء كذلك، لا يشهدن مجالس المداينات، ولا يشتغلن بأسواق المبايعات، واشتغال بعضهن بذلك لا ينافي هذا الأصل الذي تقضي به طبيعتها في الحياة. وإذا كانت الآية ترشد إلى أكمل وجوه الاستيثاق، وكان المتعاملون في بيئة يغلب فيها اشتغال النساء بالمبايعات وحضور مجالس المداينات، كان لهم الحق في الاستيثاق بالمرأة على نحو الاستيثاق بالرجل متى اطمأنوا إلى تذكرها وعدم نسيانها على نحو تذكر الرجل وعدم نسيانه)
وقد خطر لي فيما بشبه هذا بالنسبة للرجال وهو ترخيص الشارع للمسافر بتقصير الصلاة في حالة السفر. فهل يصح ان نقول ان المسافر ناقص الدين لانه صلى ركعتين بدل اربع ركعات في الصلاة الرباعية مثلا؟ ولا اظن ان احدا يقول ذلك لان الشارع قد رخص للناس ذلك واخد رخص الله مطلوبة. فكيف إدن يسوغ لنا ان نعتقد نقصان المراة في دينها في امر قد رخّص لها الشرع! وهكذا ينبغي الا يفهم من هذا الحديث نقصا خاصا بالمرأة في عقلها ودينها وانما هو نقص يشترك فيه الرجال والنساء واقتصر الرسول هنا على النساء للمناسبة فقط. والا فان ذلك يصدق على الرجال كما يصدق على النساء في هذا الباب كما بينا آنفا. ويمكن ان يكون الرسول عليه الصلاة والسلام قد اخرج هذا الكلام مخرج المزاح، لان نقصان عقل الانسان رجلا كان او امرأة شيي طبيعي لا يحتاج الى دليل وهو الاصل في طبائع لاشياء. وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يمزح مع الصحابيات وَأَزْوَاجِهِ مزحا عفيفا صادقا يليق بمقام النبوة. ومزحه مع صحابية عجوز مشهور في الاثار، حين قال لها: “لا تدخل الجنة عجوز” فارتاعت المراة فهدّا النبي روعها قائلا: ان الجنة لن يدخلها عجوز بل ينشئها الله خلقا اخر وقرا (انا أنشأناهن انشاء فجعلناهن ابكارا عربا اترابا).
ان عقل الرجل كعقل المراة ناقص. وهذا ليس عيبا ولا منقصة في حق الرجل او المراة على السواء. والانسان دائما ينزع الى الكمال الإنساني في عقله وفي علمه وفي خلقه. وكلما ترقى درجة كان اقرب الى الكمال الإنساني والملكوت الأعلى، وكلما هبط دركة كان اقرب الى مرتبة الكائنات السفلى والرغبات الشهوانية. لقد أكرم الاسلام المراة وأعلى من شانها وأعطاها حقوقها وأعاد اليها حريتها وإنسانيتها فلا يمكن اليوم ان نسلب منها إنسانيتها وكرامتها باسم الاسلام ونهضم حقوقها باسم الاسلام ونهينها وندعي نقصان عقلها باسم الاسلام. فما ثبت من الآيات والاحاديث وسنة رسول الله وتعامله مع أزواجه وبناته وساير الصحابيات طافحة في كتب السير توكد هذه الكرامة وتعلى من مكانة المراة وإنسانيتها وحقوقها. وقد يتوهم متوهم انني هنا أدافع عن المراءاة. كلا، انني لا أدافع هنا عن امرأة وانما أدافع عن أمي وبنتي وأختي وزوجي.
والله غالب على أمره.