عندما يطرح موضوع الحكم الرشيد الذي يراد منه إدارة دفة الحكم بما يعود بالنفع على الأمة ديناً ودنيا في مصالحها السياسية والاقتصادية والإدارية وتطبيق النظام على الجميع من غير تفريق ، وسيادة الشرع والقانون في كل المجالات ، وإخضاع المحاسبة والمساءلة لمفاصل الدولة والقائمين عليها ، والتعامل مع مبدأ الشفافية في كل موارد الدولة ومصاريفها ، ثم إشراك المجتمع في تقويم وتصحيح المسار، وإبداء الرأي في نظام الحكم من غير خوف سوط سلطان وزبانيته ،ويستحضر العقل ويتذكر الذهن وتستشرف العين وتتطلع إلى زمن النبوة والوحي وما تلاها من العصر الذهبي للخلافة الراشدة على منهاج النبوة ، حيث كانت الديانة تتقدم على كل شيئ ، والخوف من الوقوف بين يدي الملك الجبار كان يراقب الضمير قبل العمل ، ولأجل ذلك بقيت الدنيا وزخارفها في أدنى مراتب التفكير والاهتمام .
وقد امتازت هذه الفترة بقيادة الوحي في إدارة الدولة وتوزيع الثروات وكان النبي (ص) يتولى في تنفيذها وتوزيعها ، ويدير جهاز مراقبة ومساءلة العاملين في مرافق الدولة.
وكانت معيشة النبي (ص) وبساطة حياته ونظافة يده وأيدي أقاربه وأهله من المال العام خير مثال لمن يريد السير في طريقه وتقديم المصلحة العامة على غيرها .
ولم يتوقف حال النبي صلى الله عليه وسلم في تطبيق سياسة المال في نفسه وأهله فقط ، بل أتبع فعله أقوالا وأحاديث تحذر من مغبة التساهل أو التجرؤ في الإساءة ، واستغلال أموال الأمة بأدني حيلة، وقد توعد لمن يتصرف بالمال العام كالمال الخاص ، ففي الحديث : عن خولة الأنصارية رضي الله عنها قالت سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول ( إن رجالا يتخوضون في مال الله بغير حق فلهم النار يوم القيامة ) . البخاري
وأما التربح في الوظيفة العامة فقد أنكرها النبي ( ص) لمن فعل ذلك ، فتنقل لنا كتب الحديث قصة ساعي الزكاة الذي قال : هذا لي وهذا لكم ، فقد روى البخاري ومسلم عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه قال : استعمَل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من الأزد على صدقات بني سليم يُدعى ابن اللتبية ، فلما جاء حاسبه . قال : هذا مالكم ، وهذا هدية ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فهلا جلست في بيت أبيك وأمك حتى تأتيك هديتك إن كنت صادقا ! ثم خطبنا ، فحمد الله ، وأثنى عليه ، ثم قال : أما بعد فإني أستعمل الرجل منكم على العمل مما ولاّني الله ، فيأتي فيقول : هذا مالكم ، وهذا هدية أهديت لي ، أفلا جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته ؟ والله لا يأخذ أحد منكم شيئا بغير حقه إلا لقي الله يحمله يوم القيامة ، فلأعرفن أحداً منكم لقي الله يحمل بعيراً له رغاء ، أو بقرة لها خوار أو شاة تيعر ، ثم رفع يده حتى رئي بياض إبطه يقول: اللهم هل بلغت ).
ولما جاءت فترة الخلافة الراشدة بقي حال الدولة الإسلامية على ما كانت عليها في زمن النبوة ، وسلك الخلفاء الراشدون على خطا الرسول (ص) في سياسة الحكم وتوزيع الثروات، ولم تظهر الطبقية والغنى الفاحش بين الناس ، ولأجل ذلك بقي المجتمع في وئام ووفاق تام مع ولاتهم وأمرائهم ، وإن وجد بعض الشكاوى الفردية في أواخر خلافتي عثمان وعلي رضي الله عنهما وما صاحبها من فتن ، ولكن الوضع بقي كما كان عليه سابقا .
ولما تولى أبوبكر رضي الله عنه الخلافة استمر في عمله الخاص لكسب قوت عياله، ولم يمد يده إلى خزينة الدولة، حتى فرض له راتب ، لأن انشغاله بالمصلحة العامة حجزته عن عمله الخاص، فقد روى ابن سعد في الطبقات بسنده عن عطاء بن السائب قال: (لما استخلف أبو بكر رضي الله عنه أصبح غاديًا إلى السوق وعلى رقبته أثواب يتجر بها، فلقيه عمر بن الخطاب، وأبو عبيدة بن الجراح فقال له: أين تريد يا خليفة رسول الله؟ قال: السوق. قالا: تصنع ماذا وقد وليت أمر المسلمين؟ قال: فمن أين أطعم عيالي؟ قالا له: انطلق حتى نفرض لك شيئًا فانطلق معهما، ففرضوا له كل يوم شطر شاة وكسوة في الرأس والبطن ) .
وعندما تولى عمر الفاروق الولاية تعامل مع خزينة الدولة كتعامل الناظر في مال اليتيم ، فقد روى ابن سعد وابن أبي شيبة عن حارثة بن مضرب قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ( إني أنزلت نفسي من مال الله منزلة مال اليتيم، إن استغنيت استعففت، وإن افتقرت أكلت بالمعروف) . كأنه يشير إلى قول الله تعالى🙁 وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ) .
ولما تساءل البعض عما يحلُّ لأمير المؤمنين من مال الأمة فقال عمر: ( أنا أخبركم بما أستحل منه، يحل لي حلتان: حلة في الشتاء ، وحلة في القيظ ، وما أحج عليه وأعتمر من الظهر، وقوتي وقوت أهلي كقوت رجل من قريش ليس بأغناهم ولا بأفقرهم ، ثم أنا بَعْدُ رجل من المسلمين يصيبني ما يصيبهم) .
وكأن عمر – رضي الله عنه – يستلهم من حديث عبد الله بن زرير عن علي بن أبي طالب قال: يا ابن زرير إني سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول🙁 لا يحل للخليفة من مال الله إلا قصعتان، قصعة يأكلها هو وأهله، وقصعة يضعها بين الناس). أحمد، وابن أبي الدنيا في الورع باسناد صحيح .
ولم تتوقف سياسة عمر في التعامل مع المال العام عند هذا الحد بل أخضع تصرفات أولاده لهذه الشفافية ولو كانوا مستقلين في تصرفاتهم وأحوالهم ، فقد روى لنا الإمام مالك في كتاب الموطأ بسنده عن زيد بن أسلم عن أبيه أنه قال خرج عبد الله وعبيد الله ابنا عمر بن الخطاب في جيش إلى العراق، فلما قفلا مرا على أبي موسى الأشعري وهو أمير البصرة، فرحب بهما وسهل، ثم قال لو أقدر لكما على أمر أنفعكما به لفعلت، ثم قال: بلى هاهنا مال من مال الله أريد أن أبعث به إلى أمير المؤمنين، فأسلفكماه فتبتاعان به متاعا من متاع العراق ثم تبيعانه بالمدينة، فتؤديان رأس المال إلى أمير المؤمنين ، ويكون الربح لكما، فقالا وددنا ذلك ، ففعل وكتب إلى عمر بن الخطاب أن يأخذ منهما المال، فلما قدما باعا فأربحا، فلما دفعا ذلك إلى عمر، قال أكل الجيش أسلفه مثل ما أسلفكما، قالا: لا، فقال عمر بن الخطاب ابنا أمير المؤمنين، فأسلفكما، أديا المال وربحه.
فأما عبد الله فسكت، وأما عبيد الله فقال ما ينبغي لك يا أمير المؤمنين، هذا لو نقص هذا المال أو هلك لضمناه ، فقال عمر أدياه فسكت عبد الله وراجعه عبيد الله. فقال رجل من جلساء عمر يا أمير المؤمنين لو جعلته قراضا، فقال عمر قد جعلته قراضا، فأخذ عمر رأس المال ونصف ربحه ، وأخذ عبد الله وعبيد الله ابنا عمر بن الخطاب نصف ربح المال ) .
فالحكم الرشيد لا يفرق بين القريب والبعيد ، بل يسعى لإبعاد القريب عن شبهة الاقتراب من المال العام ، فهذا تعامل خير خلق الله أجمعين لأهل بيته وتحذيره من التطلع إلى المال العام ، فقد روى البخاري في صحيحه: من حديث أبي هريرة, رضي الله عنه، قال🙁كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤتى بالنخل عند صرامه، فيجيء هذا بتمرة وهذا بتمرة حتى يصير عنده كوم من تمر، فجعل الحسن والحسين يلعبان بذلك التمر، فأخذ أحدهما تمرة فجعلها في فيه، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخرجها من فيه، فقال: أما علمت أن آل محمد لا يأكلون الصدقة) ، ورواه مسلم وقال: ( إنا لا تحل لنا الصدقة) .
وسيدنا عمر الفاروق ينهل من معين الحبيب ( ص)، فتطبيق مرسومه الأميري يبدأ من أهل بيته قبل الآخرين ، فعن سالم بن عمر بن الخطاب، عن أبيه ، قال : كان عمر بن الخطاب إذا نهى الناس عن شيء دخل إلى أهله – أو قال : جمع – فقال : “ إني نهيت عن كذا وكذا ، والناس إنما ينظرون إليكم نظر الطير إلى اللحم ، فإن وقعتم وقعوا ، وإن هبتم هابوا ، وإني والله لا أوتى برجل منكم وقع في شيء مما نهيت عنه الناس ، إلا أضعفت له العقوبة لمكانه مني ، فمن شاء فليتقدم ومن شاء فليتأخر “ . مصنف عبد الرزاق .
وبعد انقضاء زمن خلافة النبوة وانتقال الأمر إلى الملك ، وضعف الوازع الديني وتوسع الرعية ، وتولية غير الأكفياء في مناصب الدولة، تسرب إلى الحكم وإدارة المال أمور وأحوال لم تكن معهودة من قبل ، حيث استحوذ الأمراء والولاة وحاشيتهم وأولادهم الثروات ، فملكوا العباد والبلاد وخيراتها،
وهذا الخلق المخالف للأنظمة المرعية أحدث خللا في بناء الدولة المسلمة ، وحولها من دولة تسهر وتراعي مصالح الأمة العامة إلى نظام يحول المجتمع إلى عبيد ينتظرون العطف والرحمة من أسيادهم ، ولا شأن لهم في إبداء رأيهم فيما ينفعهم دينا ودنيا .
ولأجلظ هذا التصرف المخالف للنصوص الشرعية وصفات الحكم الرشيد ، تقهقر المسلمون عن ركب الحضارة وريادتها إلى ذيل الأمم ، وأصبحت أوطانهم موطنا ومرتعا للفشل، ومثالا للضعف المالي والسياسي ، وأصبحت حكوماتهم في صدارة الدول المصنفة في تفشي الفساد وهدر المال العام.
ولم تكن معضلة هشاشة الحكم وسوء إدارة الأموال مشكلة خاصة بالمسلمين فقط، بل هي مشكلة عانت منها كل الأمم والأجناس والدول قديما وحديثا ، ويبقى الفساد في الأرض ما بقي الناس ، ولكن تختلف نسبته كثرة وقلة باختلاف البلدان والدول حسب النظام المرعي في محاربته واجتثاث جذوره أو تقليل مضاره وفق قوة وضعف أجهزة الدولة المعنية في هذا الشأن .
وكما يقال بـ ( أن الله ينزع بالسلطان ما لا ينزع بالقرءان )، فإن النصوص الشرعية وإن كانت كافية في ردع الإنسان عن ارتكاب المخالفة ولكن لا بد من نظام صارم يقف في وجه كل من تسول له نفسه التلاعب بأموال الأمة ( لَقَد أَرسَلنا رُسُلَنا بِالبَيِّناتِ وَأَنزَلنا مَعَهُمُ الكِتابَ وَالميزانَ لِيَقومَ النّاسُ بِالقِسطِ وَأَنزَلنَا الحَديدَ فيهِ بَأسٌ شَديدٌ وَمَنافِعُ لِلنّاسِ وَلِيَعلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالغَيبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزيزٌ ) الحديد ٢٥.
وإذا نظرنا إلى تعاليم الإسلام فإننا نجد قواعده الكلية ومقاصده الصحيحة قد ضمنت للبشرية جمعاء حلا جدريا لمشاكلهم السياسية والإقتصادية والإجتماعية، ولكن المشكلة تكمن في أخلاق المسلمين الذين اكتفوا بالادعاء دون التطبيق .
وقد نشرت جريدة ذي تلغراف البريطانية في شهر يونيو ٢٠١٤م ، تقريرا عن دراسة أجرتها جامعة جورج واشنطن الأمريكية، حيث قامت باستخراج القواعد والنظم المتعلقة في سياسة المال ، والحكم ، والمجتمع ، من نصوص الكتابة والسنة، ثم قارنته وفابلته بدساتير ونظم الحكم في أكثر من مائتين دولة وحكومة في العالم حول مدى مؤاومة نظمهم بالقواعد الإسلامية، فوجدت بأن الدول الغربية مثل أيرلندا والدنمارك والسويد ولوكسمبرغ ونيوزلندا ، احتلت المراتب الأولى في موافقة دساتيرهم في إدارة الحكم وتوزيع الثروات ومعاملة الشعب ومشاركتهم في اختيار حكامهم الأنظمة المرعية في الإسلام، بينما بقيت غالبية الدول والحكومات العربية والإسلامية في ذيل القائمة لأن الشفافية والحكم الرشيد معدوم بالكلية أو ضعيف .
ولأجل إصلاح الحكم وتوجيهه توجيها صحيحا، اعتمدت الدول المتقدمة في العالم أسلوبا ومنهجا في الحكم، للقضاء أو التقليل والتخفيف من الفساد الإرادي والمالي، حتى يستقيم الحكم ويؤدي دوره في خدمة الوطن على وجه أكمل، وإلا فالفساد سيكون سيد الموفق في كل المجالات .
ومن هذه الخطوات :
١ – اعتمدت مبدأ الكفاءة والأمانة في التوظيف، مع التنافس الشريف والتساوي في الفرص المتاحة أمام الجميع .
٢ – إبعاد الأقارب والأهل من التدخل في شؤون الحكم.
٣ – تطبيق النظام على الكل من دون محاباة ، وعدم التفريق بين الراعي والرعية في التقاضي .
٤ – فصل السلطات التنظيمية ( البرلمان ومجلس النواب ) ، والتنفيذية ( الحكومة والوزارة ) ، والقضائية ( المحاكم ) ، وعدم السماح بالتداخل فيما بينها .
٥ – سن قوانين وأنظمة تحارب الفساد في أشكاله ، وتوقع أشد العقوبات على الفاسدين ، والتشهير بهم أمام الرأي العام .
٥ – تعزيز مبدأ المحاسبة والمساءلة لجميع موظفي الدولة من غير استثناء.
٦ – إنزال أشد العقوبات لمن يثبت في حقه سوء استخدام السلطة أو التربح من الوظيفة العمومية .
٦– إفساح المجال أمام المحاكم والنائب العام وهيئة المحاسبة المركزية في أداء واجبهم .
٧ – إنشاء هيئات محاربة الفساد الإداري والمالي، وتطعيمها بكل وسائل البحث والمراقبة
٨ – اختبار الشعب حكامهم والتداول السلمي في السلطة مع تحديد الفترة الزمنية المناصب العليا في الحكومة .
٩ – السماح لمنظمات المجتمع المدني مراقبة أداء مسؤولي الدولة الإدارية والمالية، واطلاع الناس بمرئياتهم وطباعة أبحاثهم .
١٠– اعتبار حرية الإعلام وإبداء الرأي من حقوق المواطنة، وإفساح المجال أمام النقاد والمعارضة في تقويم الدولة ومؤسساتها.
١١– فرض كل من يتولى منصبا في الدولة في كشف ذمته المالية، والاستقالة عن مسؤولياته التجارية والمالية، لأجل المنع من تضارب مصلحته الشخصية والوطنية.
وغير ذلك ما من شأنه تصحيح نظام الحكم ومراقبته وعدم السماح بخروجه عن خدمة المواطن وبناء الوطن وحفاظه والسهر عليه على أساس العدل والمساواة وسيادة النظام والقانون ، وتقديم المصلحة العامة على غيرها من المصالح الشخصية والحزبية والفئوية ، ليعيش الناس في سلام ووئام.