من الطبيعي أن تتعثر الأمم في طريق سيرها إلى بناء المجد والحضارة، فهم أشبه ما يكونون كطفل ينشأ ضعيفا ثم يأخذ في طريقه إلى النمو والقوة، ويخطو بخطوات وئيدة، ويتدرج في تجربة الحياة خطوة بخطوة، وقد يجد نبراسا من التربية والرعاية فيترعرع قوي الشكيمة، صحيح الجسد، متوقد الذهن، مهذب الأخلاق، صافي الإدراك، صحيح التصور. وقد يعتري في طريق نشأته من المعوقات ما يجعله لا يبرح في مكانه، فينشأ قزم الجسم، قصير الإدراك، مضطرب التصور، مشوش الاعتقاد، ومنحرف السلوك.
وهذا شؤم إنذار ما لم نرب الأجيال القادمة من أولادنا الصوماليين تربية جادة تحدث تغييرا حقيقيا في كيماويتهم الشخصية الصومالية فإن مستقبل أبنائنا وبناتنا لقاتم. وإذا لم نعد النظر في طريق تصوراتنا البعيدة عن حقيقة اعتقادنا فسنعيش في أذيال الأمم، وعلى فتات موائد الأقوياء.
نؤمن بالعدل وتخالفه سلوكا وتربية. نريد أن نبني نظاما ودولة معاصرة يستظل في أفياء ظلالها الأجيال القادمة لكننا لا نتنازل –واقعيا – عن المحسوبية والقبلية والأثرة.
والعلاقة بين القبلية وما يترتب عليها من السلبيات في الحياة وبين دولة معاصرة عادلة هي علاقة تباين وتضاد، إذاً سلوكياتنا وإراداتنا غير متناغمة مع أعمالنا بل متعارضة، فالأمة التي تكون أيدولوجياتها وسلوكياتها غير متناغمة فهي أمة نفاق، فهي أمة لا تعول عليها، ولا يُوثق بنعيقها ولا جعجعتها.
تظهر لشعبنا بارقة أمل أحيانا من شخصية يُعوَّل عليه أن يقود أمة بني الصومال إلى بر الأمان، ويفتح له الشعب صدره، ويظهر له ما في وِطابه من حسن النية، وحب العدل والإنصاف، ويصفق له الشعب ويغرد بتأييده، بل يضحي لأجله –أحيانا – بنفسه وأولاده وماله، لكنّ ذلك الْمُعلول عليه إذا سُلِّم له زمام الأمور، وتَسَلَّم الأمانةَ فهناك تظهر معدنته، وتسبق إليه كيماويته، فيخيب ظن شعب استسمن ذا ورم، ونفخ في غير نار، فتتحول الثقة العمياء إلى شك عارم، والحب الواغل إلى كراهية جامحة تأكل الأخضر واليابس، عندئذ يخلط الحبل بالنابل، ويفسد الشعب والقيادة.
وقد تبدو بارقة أمل في شخصية داعية تسيل منه الدموع في وعظه، ويخلب الألباب في خطابه، ويروع الصدور في بيانه، ويطير صيته هنا وهناك، فيلتفت إليه الشعب علّه يجد منه ما يروي به غليله، أو يبل به صداه، أو يعالج به نفثات صدره، أو يشبع به رغبته في الدنيا والآخرة؛ لكنه ما يلبث حتى تنكشف معدنته، وتظهر أُرومته، فإذا هو يوزع شعبه إلى جماعات وأحزاب، ويقسم ما كان مقسوما أصلا، ويشطر ما كان مشطورا على أساس مصالح شخصية وحزبية ضيقة، ويجعل الدعوة دائرة مع مصالحه الشخصية، ومصالح حزبه وذويه، ويحول المؤسسات الإسلامية إلى “شركة أسرية“ ويبني منهجه المقولة الصومالية الفاسدة “ لَاْ تُفَاْرِقْ قَبِيْلَتَكَ وَنِعَاْلَكَ“ و “ الفَقِيْهُ لَاْ يَخْتَاْرُ الْجَنَّةَ عَنْ ذَوِيْهِ“، فإذا دخل في أمة متماسكة يخرج عندها وهي طرائق قدد، تغلي مراجلها، والبغضاء تعصف بين أفرادها!
هنا تكون ردة فعل الشارع فقدان الثقة بالموسمين بالعلماء، والمنتمين إلى الدعوة؛ لأجل هؤلاء النفعيين، وإن لم تخل الساحة عن علماء ربانيين، وزهاد متبعين سَنن الصادقين، والمنتهجين نهج العلماء الربانيين، إلا أن التمييز بين التِّبر والتراب صعوب المنال عند العامة، وقد يفسد القليل الكثير، ورب بندورة واحدة تفسد سلة كاملة، ورب شحمة تفسد لحما؛ ولذلك اشتهر عند الصوماليين “ آخر وعظ العلماء طلب العطاء“ لأنهم تعودوا بأن الوعاظ في آخر وعظهم يعرضون حاجاتهم على الحاضرين ويطلبون منهم عطاء.
ضاعت أغنام أسرة في أرض مسبعة، فذهب الزوجان لبحث غنمهما، وبعد بحث طويل أيسا، وانقطع رجاؤهما عن حصول الغنم، وقد تَضيَّفت الشمس للغروب، فرفعت المرأة أكف الضراعة إلى بارئها قائلة:” اللهم احفظه في زريبة وَدَاْدْ، (مِن الودّ وهو المحب). فقال الرجل“ اللهم لا تدخله في حظيرة وداد؛ لأن عنده مسألة يستبيح بها، ومدية يذبح بها، ووِطابا يحمله بها“ هذه الصورة الذهنية عند ذلك الرجل عن الوداد لم تكن وليدة صدفة، وإنما كانت صورة تراكمية عبر عصور طويلة عن الوداد وتصرفاته الخاطئة.
وما السياسي – إلا من رحم ربك – فهو مثال عملي للميكا فيلية، ودرس واضح للنفاق، يتمسكن حتى يصل إلى سدة الحكم، بعدها يتحول إلى شخصية أنانية، يعزل قانون الدولة، ويخرب النظام، ويحاول أن يضع في يده جميع أزمّة الحكم، ويتصرف كأنه يملك الديار وأهلها، يعطي من يشاء إذا صفق له بحق وبغير حق، ويمنع من عنده ذرة من الرجولة والأنفة.
ولكنني متأكد بأن الشعب الصومالي قد جرب الدكتاتورية بما فيه الكفاية، فكل من يحاول أن يستغل بمنصبه ويتصرف خارج القانون والنظام، وينسى أنه أجير للشعب لا مالكه، فإن محاولته ستبوء بالفشل، وسيخرج عن الساحة بذل وبخفي حنين!
تهديد الناس بـ “هادم الدولة“
في وسط السبعينات والثمانينات لقد خُيِّر الشعب الصومالي بين سندان “سياد بري“ ومطرقة “منغستو “ فأرغموا لتأسيس جبهات مسلحة ضد الدكتاتور محمد سياد بري، وبما أن سياد بري قد استحوذ جميع إمكانيات الدولة، من مال وسلاح، وإعلان، وخير الناس بين أمرين أحلاهما مر إما الخضوع له، وقبول الاستعباد الذي سماه “ الثورة“ وإما الخلود في غياهب السجون، والأنين وراء القضبان. وكانت التهمة الجاهزة ملصقة على كل من طلب حقه بإبداء رأيه في إطار القانون بأنه “ ضد الثورة“.
عندئذ لم يجد الأحرار ملجأ بعد الله إلا إلى لجوء الدكتاتور “منغستو حيل مريم “ الذي كان يحلم أن يرى يوما في حياته احتراب الصوماليين فيما بينهم، وأن يلجأ إليه كوادر الشعب، وقادة الجيوش الذين لقنوا لجيش “منغيستو “ درسا لا ينساه.
إن المضطر أحيانا يأكل الميتة، فهؤلاء القادة وازنوا بين الشرين، وبين الظلمين فوجدوا أن ظلم ذوي القربى أشد مضاضة من وقع الحسام المهند. فقروا الفرار إلى “ميغستو“ وطلبوا منه العون لرفع الظلم عن أنفسهم، وطلبوا منه العون لإيقاف نزيف الدم، واستعانوا به لاستعادة حريتهم وكرامتهم الإنسانية التي سلب منهم أخوهم.
ما أشبه الليلة بالبارحة! إن قادة اليوم في مقديشو ليَحلمون فيما كان يحلم به “سياد بري“ ويتراء لهم من بعيد أن يكون للدولة حزب واحد، ورأي واحد، وإعلان واحد، وقائد واحد، فمن أظهر رأيه، أو نقد الدولة، أو نصح للقادة لوجه الله، أو تكلم في مصلحة الأمة الحالية والآنية فهو هادم الدولة، فوضي! عدو الأمة! كما كان يتهم بالأمس بأنه عدو “الثورة“ فإنه يتهم اليوم بأنه عدو الدولة! دعايتان هدفهما واحد وهو تخويف الناس، والحيلولة دونهم ودون حقوقهم.
إن الظروف الحالية قد تضطر “لأحمد إسلو“ إلى طلب النجدة من دول الجيران كما فعل السياسيون أمس لطب العتاد والعون من أثيوبيا؛ لأنه لَمّا وجد أن حكومة الصومالية تحيك له بالمؤامرات لتنحيته عن الحكم، والاستعانة بالقوات الأجنبية ضده كما حصل في “بيطوا“ بان له بأن الأمر جد خطير، فأخذ كل التدابير الشرعية وغير الشرعية.
فمن المسئول إذن على دفع الرجل إلى أن يسلك في هذا المسلك الوعر، وأن يركب على أخف الضررين؟ فإن الحكومة التي لا تستطيع أن تتفاهم مع شعبها حكومة فاشلة، فإن النظام الذي يستقوي عدو الأمة التقليدي لضرب شعبه فهو نظام مجهول الهوية، أين مصير الذين جلبوا جيش “ميل زناوي“ الذي كان فوق ثلاثين ألفا إلى العاصمة مقديشو“ وأزهقوا فيها الأرواح بطريقة بشعة، ودمروا البنية التحتية، وشردوا سكان العاصمة، ووزعوا المدافع بطريقة عشوائية على جميع المحافظات بلا مبالات، وكان هناك أناس يصفقون للعدو، ويتمتعون بسفك دماء إخوانهم، ويتذرعون بأن الذين يقاومون “أثيوبيا“ أعداء الدولة؛ لأن عددا كبيرا من شعبنا لا يستطيعون حتى الآن الفرق بين الدولة وبين رئيس الدولة، يتوهم كثير من الناس بأن الدولة تعني الانقياد إلى شهوة الحاكم، وطاعته في الشر والخير، في الظلم والعدل، في إطار القانون وخارجه.
إن الذين يفكر بهذا التفكير هم أعداء الدولة الحقيقيون علموا أو لم يعلموا، وهم أعداء الشعب؛ لأن الدول لا تقوم إلا بالعدل والانصاف واحترام القانون، والتحاكم عند الاختلاف إلى شرع الله والنظم المنبثقة منه، التي اتفق عليها الشعب، أي نظام لا يلجأ عند الاختلاف إلى الركائز القانونية المحايدة للفصل بين الخصومات فاعلم أنه فاشل وفاقد المصداقية.