في الرابع من مارس الجاري جمعني لقاءاً مثمراً مع رئيس وفد مفاوضات السلام في جنوب السودان،وفي ذات الوقت الذي كنت أتحدث فيه مع رئاسة الوفد كانت الوفود السياسية القادمة من منطقة القرن الأفريقي تتدفق تباعاً على العاصمة الجنوبية جوبا،وبعد مناقشة إمتدت لثلات ساعات لم أشعر بها لولا صوت أزيز الطائرات الذي يعلو على أي صوت بشري كان يخاطبني قبل قليل فأكتفيت عندها بالإشارة فقط لأخذ الأذن بالمغادرة التي لم أكن أسمح بها لولا إنتهاء مُحدثي من حديثة ووصولي أنا إلى نقطة الإكتفاء البحثي حول حقيقة ما يحدث في الدولة الوليدة المُرتبطة شاءت ذلك أم أبت بواقع القرن الأفريقي.
عند الحديث عن القرن الأفريقي لا يكتفي المرء بسرد تاريخ تلك المنطقة حتى يدرك ما ألت إلية الأمور اليوم ولكن لابد للمرء أن يصل إلى دائرة الحقائق المخفية عن الجميع إلا على شعوب تلك المنطقة التي لا تكتفي بإعلان سوء الفهم المحلي والإقليمي لها بل تجاهر بإنه من الصعب إنسانياً على أي سوء فهم أن يجد من يتداركة وإلا لإستطاعت البشرية أن تتجنب كوارث متصلة بتاريخها، فهكذا تقول الأسطورة.
الواقع الحالي في القرن الافريقي يبدو مُختلفاً عما كان عليه قبل أسابيع قليلة، فسلسلة التغيرات التي صاحبت المصالحة الأرتيرية الأثيوبية، والأوضاع السياسية والعسكرية في اليمن المرتبطة بعمليات قوات التحالف، والخلاف الكيني الصومالي حول حقول النفط، والتحرك الفرنسي النشط ما بين جيبوتي وأثيوبيا لم يعد حديث النخب الأفريقية في تلك المنطقة التي كلما إقتربت منها ميدانياً وتحدثت مع أبرز رجالاتها أدركت بأنها مُقبلة على أحداث جسام لعبت في إختلاقها ومن ثم تحريكها القوى الدولية التي عبرت عن نفسها على لسان أحد دبلوماسيها الذي قال ذات يوم ” نحن نحرك الأحداث في القرن الأفريقي كما كان يحرك هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكي الأسبق في سبعينات القرن الماضي أحجار الشطرنج في الشرق الأوسط“.
تتجاذب القرن الأفريقي اليوم أربعة مكنونات نفسية كما يراها أصحابها ولكنها برأيي أقرب لنقاط ضعف حقيقية تعتري تلك المنطقة منذ عقود والمؤلم أنها نقاط ضعف مكشوفة أغرت الغير فلعب بها الجميع: أولاً، إقتناع القادة السياسيين في القرن الأفريقي بأن منطقة القرن الأفريقي مهما قوت علاقتها بالصين فهي منطقة لا تملك القدرة على الخروج من الإطار الغربي، ثانياً:التنافس على الزعامة الإقليمية دفع بعض دول القرن الأفريقي إلى رفض وجود دول جارة لهم لإعتقادهم القديم بأنها تنافسهم على تلك الزعامة، ثالثاً: إدراك جزء من القيادة السياسية في القرن الأفريقي بأن تجميع المواطنين في مكان واحد ومخاطبتهم حتى يعلو صوت تصفيقهم هو الطريق لكسب الشارع وهذا غير صحيح لأن الكسب الحقيقي في تلك الدول يكون عبر السيطرة على الأمن والجيش والإقتصاد وما دون ذلك فهو محض هراء، رابعاً: هناك دول في القرن الافريقي ما زالت تعيش عزلة تامة والأغرب عندما يصل المرء إلى الأدلة القاطعة بأن تلك العزلة هي عزلة إختيارية فتلك الدول ترغب بعزل نفسها بعد أن وجدت نفسها اليوم في وسط أمواج تنافسية تطلب ودها.
من خلال مقارنتي بحقيقة الوضع السياسي الدقيق في شرق افريقيا عموماً أري أن حقيقة الوضع السياسي الأفريقي بشكل عام لابد من تفنيدة للقارىء الخليجي الذي يجهل حقيقة الميدان الأفريقي الذي لا يراه إلا عبر شاشات التلفاز، فلا يمكن مُقارنة المشهد السياسي الدقيق في القرن الافريقي بالمشهد السياسي في الغرب الافريقي الذي يبدو للعيان أكثر إستقراراً وإن كان في حقيقتة أعمق تدهوراً وأدق عنفاً وإن لم يكن ذلك غير ظاهر إلا في كواليس الإبتزاز السياسي والجدال حول مفهوم السيادة الوطنية ومن يدعيها، ففي الوقت الذي لا تستطيع دول القرن الأفريقي أن تتجاوز الأثنية لن نجد ذلك ظاهراً بشكل فاضح في أقصى الغرب الأفريقي الذي تجاوز إلى حد ما تلك المرحلة وأصبح يُفكر في كيفية التخلص من بقايا القيود الإستعمارية التي يراها سبباً في حرمانه من الدخول لدورة الحياة.
واقع القرن الأفريقي يقول أن هناك دول حُدد لها عدم الإستقرار وذلك بإستخدام الصراع العرقي والديني والمناخ السائد في القرن الأفريقي اليوم يبدو مُهيئاً لذلك وأنا هنا لا أقصد أن تندلع حرباً أهلية كتلك التي شهدناها في تسعينات القرن الماضي في منطقة البحيرات العظمى أو وقوع تصفيات جسدية شبيهة للتي إندلعت عام 2013 في ضواحي بانغي بإفريقيا الوسطى، ولكن إدخال الدولة في حرب نفسية على المستوى المحلي وإثارة القلاقل مع الجيران وضرب السلم المجتمعي وزعزعة الجبهة الداخلية تلك كلها أدوات كفيلة لإنهيارالأمم بدون دماء.
د.أمينة العريمي
باحثة إماراتية في الشـأن الأفريقي