العلماء جزء من الأمة يحق لهم ما يحق لغيرهم من مزاولة التجارة وتأسيس الشركات أو المساهمة في المشروعات القائمة أو مما له علاقة في هذا الباب أصالة عن أنفسهم أو نيابة عن غيرهم ، ويحق لهم الترأس في المجمعات التجارية أو العمل في المؤسسات الخاصة والعامة سواء في قسم الإدارة أو في قسم العمال ، ولا يتوقف الأمر على ما ذكرناه بل يجوز لهم العمل في كل مجال تجاري لا يمنعه الشارع في التكسب عن طريقه ولا تدور حوله شبهات .
ولا يمثل العلم الشرعي الذي يحملونه حاجزا عن السعي في إعفاف أنفسهم وأولادهم ومن تحت كفالتهم ، والاستغناء عن غيرهم من أجل صيانة وجوههم وكرامتهم ، قيل للإمام عبدالله بن المبارك أنت تأمرنا بالزهد والتقلّل ونراك تأتي بالبضائع ، كيف ذا ؟، فقال : إنما أفعل هذا لأصون وجهي ، وأكرم عرضي ، وأستعين على طاعة ربي، فقيل له : ما أحسن ذا ، إن تم ذا .
مزاولة العلماء والدعاة وأهل الديانة والفضل بأعمال التجارة لم يتوقف في عصر من العصور وخاصة بعد بزوغ شمس الإسلام على الجزيرة العربية ، بل لم تمنع الظروف الحالكة التي صاحبت الرسالة الخالدة في بدايتها من الصحابة الكرام في اشتغال التجارة ممن كان له خبرة وقدرة في البيع والشراء ، وقد اشتهرت مقولة ( دلوني على السوق ) للسيد عبدالرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه عندما هاجر إلى المدينة ، لم يتوقف الأمر عنده فقط بل اشتغل كثير من كبار الصحابة بالصفق في الأسواق ، ولم يبتعدوا عنه إلا بعد أن تولوا مناصب رسمية في إدارة الدولة الإسلامية خوفا من تضييع الأمانة الموكلة إليهم وتضارب المصلحة الخاصة والعامة ، لأن التربح عن طريق العمل الرسمي ممنوع شرعا وعقلا .
يقال إن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى شابا ملازما المسجد ، منشغلا بالعبادة والذكر وطلب العلم ، فسأله: من ينفق عليك؟ قال: أخي. قال: أخوك أعبد منك .
وقد حرص العلماء في تحقيق الاكتفاء الذاتي والانفاق على أنفسهم لأن الإنسان لا يستطيع العيش بدون موارد مالية من أجل تسديد حاجة نفسه وأهله ومن حوله ممن تجب إعالتهم عليه ، ولا يمكن له تحقيق ذلك إلا بأحد أمرين : إما أن يسعى بنفسه ويبدل جهده ويعمل في كل مجال يدر عليه المال مادام ذلك الكسب حلالا ، وإما أن يمدّ يده ويبيع وجهه إلي غيره وينتظر العطف والشفقة من الأثرياء ورجال الأعمال والحكام والسلاطين وأهل الولاية .
فإذا قرر طالب العلم والداعية إلى الله تعالي أن يسلك السبيل الأول فقد حفظ دينه وعلمه ودعوته من التبذل وصارت كلمته مسموعة ومكانته محفوظة بين الأنام ولا يستطيع أحد التأثير عليه ولو كان حاكما أو ثريا وإن بذلوا له كل شيء ، لأن من مدّ رجليه لا يمدّ يديه كما قال الشيخ الأزهري عندما رفض قبول عطية ومنحة الحاكم ، ولأجل تحقيق الاستقلال المالي واستغناء الآخر قال الإمام سفيان الثوري لمن استغرب اشتغاله بالتجارة وجمعه للدنانير ، فلولاها لتمندل (أي جعلونا كالمنديل الذي يزال بالأذى ثم يرمى ) بنا الملوك ، وعلق الإمام ابن القيم على قوله قائلا : ” وقد كان لسفيان شيء من مال ، وكان لا يتروى في بذله ، ويقول : لولا ذلك لتمندل بنا هؤلاء . فالعالم إذا منح غناء فقد أعين على تنفيذ علمه ، وإذا احتاج الناس فقد مات علمه وهو ينظر ” .
وأما إذا آثر الاتكال على الآخر واستعصب العمل ووطن نفسه لانتظار المنح والعطايا من ذوي المال والسلطة فقد أهان نفسه وباع علمه في سوق النخاسة وأسقط شرفه ومروءته بين الناس.
وقد يقول قائل إذا كانت التجارة مباحة للجميع ، فما العيب في أن يكون العالم أو الداعية أو طالب العلم من أصحاب المؤسسات التجارية الصغيرة والكبيرة ويصبحوا من رجال الأعمال البارزين مع احتفاظهم بعملهم الدعوي من الإمامة والخطابة والوعظ وإدارة المساجد والجمعيات الخيرية والحركات الدعوية وغير ذلك مما له صلة بالعلم والدين .
قلت : هذا خير في خير ما دام لا يتعارض مع المنصوص شرعا والمقبول عرفا وعادة ، بأن يجمع المرأ بين العلم والدعوة والتجارة مع نزاهة نفس وعدم الاساءة إلى واحد منهم ، ولكن ينبغي للعلماء والدعاة الذين يديرون الشركات التجارية أو يساهمون فيها التنبه للأمور التالية :
- عدم الخلط بين العمل التجاري والعمل الدعوي وجعلهما شيئا واحدا لا ينفك أحدهما عن الآخر حيث يصعب التميز بينهما .
- ألا يستغل الداعية أو العالم بمقامه ومكانته العلمية من أجل الترويج لنشاطه التجاري ، لأن العلم والدين أسمى وأغلى من أن يدنس محياه في تجارة قد يتخللها بشيء من الكذب والخداع ولو بدون قصد ، وأن كثيرا من العوام لا يستطيعون التفريق بين العلم والتجارة ما دام القائم عليها عالم أو داعية ، فيعلقون الأخطاء على أكتاف الدين ، لأن الشيخ بنظرتهم هو الوكيل الحصري للدين .
- أن يستغني عن الراتب أو الأجرة التي تدفع للإمام أو الخطيب أو الشيخ ، ما دام يشتغل في التجارة و له مورد مالي مستقل لأن ذلك أدعى لحفظ ماء وجهه وقبول نصيحته .
- أن لا يستخدم رحلاته الدعوية المدفوعة الأجر في ترويج تجارته لأن ذلك أدعى من أجل إبعاد الشبهة عن نفسه .
- أن يكون ملما وعارفا لطرق التجارة وأنواعها والمخاطر المحيطة بها ، وإلا سيكون من تعاطى بمهنة لا يحسنها ويكون عليه الضمان إذا ما تلفت أموال الناس التي كانت تحت تصرفه .
- أن يتاجر في ماله الخاص وأن يبتعد عن أموال غيره ما لم تكن هناك حاجة وضرورة ، لأن حصول الخسارة في ماله الخاص أهون وأقل ضررا من وجود خسارة في مال شركائه .
- إذا كان يرأس ويدير شركة مساهمة يجب عليه اتباع النظام الإداري المعمول به عالميا ، من إعلان الحساب الرسمي للسنة المالية ربحا وخسارة ، وتعيين شركة محاسبة خارجية تتأكد من مطابقة معاملات الشركة للنظام الحسابي ، والتواصل المنتظم للمساهمين ، وتعيين مجلس أعلى للشركة يختار من بين المساهمين لوضع الأسس العامة لها ، واستخدام مبدأ الشفافية والمكاشفة في جميع أنشطة الشركة وغير ذلك مما يساهم في تجميل صورة الشركة .
- إذا كان الدعية أو الشيخ المدير الرسمي للشركة ينبغي أن تكون أبوابه مفتوحة لجميع المساهمين وأن يجيب عن استفساراتهم وأن لا يحتجب عنهم مهما كانت الظروف ، لأن ذلك يجعل الناس يسيئون الظن فيه وقد يضطرون مواجهته في الأماكن العامة أو في مجلسه العلمي في داخل المساجد ، فإن فعل ذلك فقد أساء إلى رسمه واسمه .
- ابعاد الأقارب والأصدقاء في إدارة الشركات التجارية ما لم يكونوا مؤهلين لذلك ، لأن الناس ائتمنوا أموالهم على الشيخ لا على غيره ، فيجب التنبه لذلك .
وأخيرا فهذه بعض انطباعاتي واقتراحاتي في هذا المجال الذي أصبح اليوم تحت أنظار الناس جمعيا ودخل فيه كل من له خبرة في شأنه أم لا ، وأضحى حديث الناس في مجالسهم الخاصة والعامة .
وقد انضم إلى عالم التجارة والمال في السنوات الأخيرة عدد كثير من الدعاة والعلماء وأعضاء الحركات الإسلامية وبعض مديري ورؤساء المساجد والمراكز الدعوية مستغلين ثقة الناس بأهل الديانة ، فنجح عدد منهم في تحقيق مآربهم ، وفشل آخرون في حفظ الأمانة التي تحملوها ، ما جعل كثير من الناس يسيؤون الظن في المتدينبن قاطبة ويتهمونهم باستغلال الدين وتوظيفه لاستيلاء أموال الناس وحقوقهم .
فعلى التجار عامة وعلى طلبة العلم خاصة أن يتقوا الله تعالى في تجارتهم وبيعهم وشرائهم .
وفق الله تعالى الجميع لما فيه خير صلاح ديننا ودنيانا .