القلم في نصوص الوحي – السنة الرسول – صلى عليه وسلم – معلم البشرية وسفير الهدى وربان سفينة الإصلاح والإرشاد تقدم إلى العالم ليقول لهم : (إن الله لم يبعثني معنتاً ولا متعنتاً ولكن بعثني معلماً وميسراً) مسلم 1478.
بل إن منزل الكتاب يشهد أنه معلمهم ومخرجهم من الضلالات والظلمات وهاديهم إلى طريق العلم والتقدم (هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين) الجمعة 2. ولقد شهد بذلك أيضا أصحابه وتلامذته النجباء الذين حازوا السبق في الإستفادة من هديه النوراني فيقول أحدهم: يقول معاوية بن الحكم: ((ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه))
وكيف يرونه فهو معلم يألف ويؤلف ويربي ويؤدب ويرشد ويعلم وكل هذا يتأتى من مرشد موحى إليه لا رجلا عابثا بين قاعات المعاهد والجامعات يضع أمام اسمه إشارة الدكتوراة أو الأستاذية – على أننا لا نقلل من هذا – ولكن القضية في الجوهر والمضمون لا في الشكل والمظهر، وبما أنه كذلك وهو كذلك وأكثر، لا بد أن يكون القلم علامة مشروعه البارز وشارة ملكه الرؤوم وسياج حدائقه الغناء وفوق هذا وذاك اساسه ومنطلقه لأنه لا وجود لرؤية لا يدعمها الفكر الذي يسطره القلم ويصدره.
والسنة التي نتحدث عنها هي أحد ركني الحضارة الإسلامية ومعين معلم الأمة الأول الذي شاد بناءها ووطد ركنها وجعل أساسها الفكري العلم والمعرفة، وأساسها الإجتماعي المودة والأخوة يقول العلامة القرضاوي في سنا المختار ودعوته:
هو الرسول فكن في الشعر حسانا * وصغ من القلب في ذكراه ألحانا
ذكرى النبي الذي أحيا الهدى * وكسا بالعلم والنور شعبًا كان عريانا
أطلَّ فجر هداه والدجى عممُ * بات الأنام وظلوا فيه عميانا
هذا يصور تمثالاً ويعبده * وذاك يعبد أحبارًا وكهَّانا
الكون بحرٌ عميقٌ لا منار به * لم يدرِ فيه بنو الإنسان شطئانا
* * *
الليل طال ألا فجر يبدده؟! * ربَّاه.. أرسل لنا فلكًا وربانا!
هناك لاح سنا المختار مؤتلقًا * يهدي إلى الله أعجامًا وعربانا
يتلو كتاب هدًى كان الإخاء له* بدءًا وكان له التوحيد عنوانا
لا كبر- فالناس إخوان سواسية * لا ذلَّ إلا لمن سوَّاك إنسانا
وقد جاءت الأحاديث تعبر عن عمق التفكير النهضوي والتقدم الفكري والحضاري لتؤكد السنة ما بدأه القرءان في أن القلم مفتاح التقدم وربان سفينة الحضارة، وكيف لا وكل يصدر من مشكاة واحدة وينهمر من جداول نورانية لا مستنقعات آسنة ولا برك مخربة وينتجان معينا لا يمكن لذوي النفوس المستقيمة أن يغصوا به كما أنهما كفيلان بإعادة كل شذوذ إلى مجراه الطبيعي، وحتى تتأكد من هذا الطرح ما عليك إلا أن تتأمل هذه الطائفة من الأحاديث :
القلم فاتحة الخلق
كما يروي عن رسول الله الصحابة الكريم أمثال ابن عمر ، وعبادة بن الصامت ، وابن عباس ، وأبي هريرة ، مرفوعاً . ومن ابن عباس ، وابن مسعود ، موقوفاً ونصه كما يرويه عبادة ابن صامت قال : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : ( إن أول ما خلق الله القلم ، فقال له اكتب فقال : ما أكتب ؟ قال : اكتب القدر . فكتب ما كان وما هو كائن إلى الأبد ) . رواه الترمذي ،
ماذا تعني أولية القلم في الخلق؟
كما هو معلوم بداهة إن الجليل جلّ في علاه لا تأخذه الحاجة إلى خلقه مهما كثروا أو قلّوا، ولكن هذا تنبيه للبشر وتعليم لهم أن المشاريع الناجحة لا بد لها من مشروع فكري وخطة مفصلة حتى تنجح، وإلا بقيت طي المجهول فليس لها روح قد نفخت فيها ولا جسد تتجسد من خلاله فهي كالعدم والعدم لا حكم له لنجاح ولا لفشل فهو غير موجود أصلا، والقلم بمثابة الروح والجوهر في كل فكرة وهو الأساس والأصل لكل شيء يراد منه أن يكون ذا قيمة في هذا الكون ولهذا تكفل الله بأن يجعل أول كلماته للكون بإقرأ والقراءة لا تكون إلا لنتاج الأقلام التي سطرت، وتكفل الحبيب بأن يبين أن أول الخلق قلم، والذي يظهر من هذه المعادلة أن الدين الإسلامي أعطى القيمة الكبرى والمكانة الأسمى للعلم وأدواته؛ من قلم وقراءة وكتابة في مجتمع لا يتجاوز عدد كتابه وقراءه أصابع اليد.
وهذا يوضح لنا بصورة جلية أن رافعة المجتمعات من الحضيض إلى القمم ومخرجها من الظلام إلى النور لا تكون إلا بالمشاريع الفكرية التي تبلورها أقلام المفكرين والمبدعين في المجالات كافة.
أحاديث أخرى :
وردت الإشارة إلى القلم وآثاره الحميدة في كل الأحاديث التي تحدثت عن العلم وحضت به وبتعلمه وتعليمه لأن التعليم لا يكون إلا بالقلم وهنا نورد حديثين فيهما إشارة إلى القلم وأثره كما نورد أيضا حدثا في التاريخ الإسلامي ذات دلالة.
الحديث الأول:
وروى أبو داود في سننه عن أبي هريرة قال: لما فتحت مكة قام النبي صلى الله عليه وسلم فذكر الخطبة – خطبة النبي صلى الله عليه وسلم – قال: فقام رجل من أهل اليمن يقال له أبو شاه فقال: يا رسول الله اكتبوا لي، فقال: “اكتبوا لأبي شاه” الترمدي 5/38
والحديث الثاني:
عن أبي هريرة قال: كان رجل يشهد حديث النبي (صلّى الله عليه وسلم) فلا يحفظه، فيسألني فأحدثه، فشكا قلَّة حفظه إلى رسول الله (صلّى الله عليه وسلم)، فقال له النبي (صلّى الله عليه وسلم): (استعن بيمينك) .
الحديثان يشيران معا إلى الكتابة ولكن لا تتم الكتابة إلا بالقلم فالرسول عليه السلام في أولهما يرشد أصحابه إلى تقييد العلم بحبال الكتابة التي تعين على الحفظ والتذكر وكذلك في الحديث الثاني حيث وردت الإشارة أوضح وأوثق فقد قال الحبيب لطالبه عليك أن تستعين بالكتابة لتتذكر ولتحفظ أكثر، و إن كان الحديثان صريحين في الكتابة فقد أشارا وألمحا إلى القلم ومسكه إذ الكتابة أحد نتائجه.
أما الحادثة الأهم والتي رواها المؤرخون وتدل عن سبق الإسلام إلى الإشادة بدور الكتابة والقلم في نهضة المجتمعات وطرق أبواب التقدم هي حادثة إفتداء الأسرى يوم بدر أنفسهم بتعليم أبناء الإسلام كيفية مسك الأقلام والكتابة بها، فلقد كان في هذا أوضح الدلالة وأروعها في إمداد المجتمع بما يجدد روحه ويقوي عزيمته من خلا تدريب أبنائه على السمو في المجالات كافة، وإن كان المجال الفكري الذي تصوغه الأقلام وتصونه وتبني بناءه وتشيد قلاعه أولاها بالإهتمام وأحقها في الترسيخ والبناء والتأسيس .
خلاصة الوحيين أن (إقرأ) وهي أول ما أنزل من القرءان و أول ما خلق وهو القلم كما أشارت إليه السنة يكونان القاعدة الصلبة لأي فكر في هذه البسيطة، و إذا ما خلي مشروع فكري بهما فهو سفاهة لا نباهة ونذالة لا نبالة وخواء لا رجاء منه من نتاج معرفي أو فكري وهو تقوقع حذر منه الإسلام وانشغال فيما لا يفيد قال سيد قطب:
“وإنها لنقلة بعيدة جداً بين المنشأ والمصير. ولكن الله قادر. ولكن الله كريم. ومن ثم كانت هذه النقلة التي تدير الرؤوس!
وإلى جانب هذه الحقيقة تبرز حقيقة التعليم.. تعليم الرب للإنسان {بالقلم}.. لأن القلم كان وما يزال أوسع وأعمق أدوات التعليم أثراً في حياة الإنسان.. ولم تكن هذه الحقيقة إذ ذاك بهذا الوضوح الذي نلمسه الآن ونعرفه في حياة البشرية. ولكن الله سبحانه كان يعلم قيمة القلم، فيشير إليه هذه الإشارة في أول لحظة من لحظات الرسالة الأخيرة للبشرية. في أول سورة من سور القرآن الكريم.. هذا مع أن الرسول الذي جاء بها لم يكن كاتباً بالقلم، وما كان ليبرز هذه الحقيقة منذ اللحظة الأولى لو كان هو الذي يقول هذا القرآن. لولا أنه الوحي، ولولا أنها الرسالة!”.تفسير ظلال القرءان – سورة العلق.