حلّ المولد النبويّ الشريف وحلّ معه الجدل النمطي القديم المتجدد حول تجويزه وتبديعه، ولن تكون هذه المرّة الأخيرة والحاسمة، فما أن يظلّنا المولد القادم حتى نستمع إلى نفس أسطوانات الردود والدفاع لدي الفريقين، والتي نكاد نحفظها حرفيًّا من بدايتها إلى نهايتها، فيما يمكن وصفه بصراع الاجتهادات لدورانها جميعاً على الاجتهاد والاحتجاج العقلي غير النصيّ المشوب غالباً بالتعصب ومجانبة الموضوعيّة لكونه هادفاً للوصول إلى نتيجة محسومة سلفا لدى الفريق، فيقول كلّ فريق ما يشتهي، ويفرغ ما في جعبته إفراغاً كأنّه لا يهدف من وراء ذلك إلاّ أن يتخفف من حمل أثقل صدره، وخطاب كل فريق يتجنّب عن عمد أو سهو مواطن قوة اجتهاد الآخر، لينتهي الجدل بحصيلة الصفر، وليحتار طلاب العلم عن وجه الحقيقة والصواب، ويبقى الباب مفتوحا لمعاودة الكرّة في جولة قادمة تحيل إلى جولة بعدها وهكذا.
هذا الجدل بنمطيته هذه لا يمكن أن يؤدّي إلى نتيجة ولن يكشف عن الحقيقة المطلوبة من ورائه، وإذا أريد منه الكشف عن وجه العلم فلا بد من كسر هذه النمطيّة بموضوعيّة وعلميّة بحتة تأخذ في الاعتبار تساؤلات الطرفين وحججهما، وتقدّم عنها الإجابات المقنعة أو المدعّمة بالنصوص الصريحة للوصول إلى حكم دينيّ نهائيّ للمسألة بالتجويز أو بالتبديع، أو بتصنيفها من الأبواب المتروكة للاجتهاد، والتي يكون لكل مجتهد فيها أجره.
وفي هذا الصدد لا بد من أن يتجه كل من الفريقين إلى الإجابة عن تساؤلات الفريق الآخر بموضوعيّة وبعيداً عن التعصّب والنهج الدفاعي. وفيما يلي نثبت نموذجاً لهذه التساؤلات بين الفريقين حرصنا على أن يكون ملخصاً لمواطن قوة اجتهاد كلّ فريق.
يطالب القائلون بجواز الاحتفال بالمولد النبويّ بالإجابة عن تساؤلات غرمائهم الآتية:
- ألم ينه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن اتخاذ الأعياد غير العيدين؟
- هل فعله النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتابعوهم في القرون المفضلة؟
- هل من نصّ صريح ولو ضعيف في سنّ الاحتفال بالمولد؟
- ألا يكفي إدانة لاحتفالات المولد أن الدولة الفاطميّة ذات الميل الشيعي هي من سنّها؟
- ما حكم اتخاذ سنّة التعبد بترديد بردة الإمام البوصيري ومدائحه النبويّة ومدائح وابتهالات شعراء آخرين في هذه المناسبة وهي من قول البشر، فضلا عما تشتمل عليه من نقاط مثيرة لجدل عقدي بين التيارات الإسلامية؟
- إذاكان مولده ووفاته (ص) في نفس اليوم فلماذا الاحتفال بالمولد أولى من تأبين وفاته (ص)؟
وعلى القائلين ببدعيّة الاحتفال بالمولد النبويّ الإجابة عن تساؤلات خصومهم الآتية:
- ما حكم إحياء المناسبات الدينيّة أصلا؟
- إذا كان النبيّ ( ص ) أمر بالنص الصريح بصوم يوم عاشوراء إحياء لذكرى نجاة النبيّ موسى وقومه من فرعون وجنوده، فهل من مانع أن يقاس عليها سائر الذكريات الدينية لإحيائها ؟
- ألم يكن النبي ( ص ) يصوم يوم الاثنين ويقول : هو يوم ولدت فيه؟ ما المانع أن يفهم من ذلك تشريع إحياء مولده (ص ) ؟
- حصل إحياء المناسبتين السابقتين بالصوم، فإن فهم من ذلك تشريع إحياء المناسبات الدينية فهل يكون الصيام هو الطريقة الوحيدة المشروعة لإحيائها على اعتبار توقيفية العبادات، أم يمكن تنويع الطريقة حسب أعراف المجتمعات وطبيعة العصور ومواضعاتها من باب القياس ؟
- وهل يكون إحياء المولد النبوي أسبوعيّا فقط كما كان يصوم النبيّ صلى الله عليه وسلم أو يجوز جعله سنويّا قياسًا على مناسبة عاشوراء؟
ونعتقد أنّ الاستهداء بهذه التساؤلات ونحوها الآخذة في الحسبان حجج الطرف الآخر وفق الموضوعيّة التي تقتضيها الأمانة العلميّة من شأنه أن يقود إلى كسر الجمود والرتابة، وتهذيب الحوار في هذا الباب، ودفعه بعيداً عن المستنقع الدفاعيّ الآسن الذي ركد فيه نحو تحقيق الهدف المرجوّ.