جيبـوتي: الاستحقاقات الانتخابيـة .. امتحان الشـرعيـة (1/2)

انتخابات محليـة بلا طعم ولا رائحـة:

وسـط عـزوف شعبـي ومقاطعـة سياسيـة غيـر مسبـوقـة، انطلقـت بجيبـوتي، الجمعـة، عمليـة التصويـت لانتخـاب أعضاء المجالـس البلدية والإقليميـة البالغ عددهم 194 عضـوا.

وذلك بعـد حملـة انتخابيـة استمـرت نحـو أسبوعيـن، واتسـمت بالبـرودة وعدم المنافـسة حيـث قررت جميـع الأحـزاب المعارضـة خوض معركـة مقاطعـة الانتخابات.

من أبرز القـوى السياسيـة المقاطعـة للانتخابات، حـزب حـركة التجديد من أجل التنميـة (MRD) بزعامـة طاهـر أحمد فارح، وحـزب من أجل التنميـة والحـرية (MoDeL) الجناح السيـاسي لـلحركة الإسـلامية (الإخـوان)، وأحـزاب إئتلاف حـركات التغييـر والأمـة (AMAN) بقيادة عمـر علمـي خيـري.

إقبال ضعيـف ونتائج محسـومة:

بالـرغم من الجهـود الكبيـرة التي قامـت بها الحكـومة لتشجيـع الناخبيـن على المشـاركة، إلا أن حجـم الإقبال على صناديق الإقتـراع اليـوم كان ضعيـفاً للغايـة مقارنـة مع كل الاستحقاقات الانتخابيـة السابقـة التي شهدت البلاد منذ استقـلالها عام 1977م.

وفيما يقدر عدد الناخبيـن الجيبـوتيين الذين لذيهم حـق التصويت في هذه الانتخابات بحـوالي 178 ألف شخـص، فإن مصادر من اللجنـة الإنتخابيـة أفادت بأن نسبـة المشاركـة في مجمـل المـراكـز الانتخابيـة بمدينـة علي صبيـح والمحافظات الجنـوبية ككـل، لم تتجاوز على 9.6%.

وهذا ما رصدنا خلال جـولتنا الميدانيـة الصباحيـة التي شمـلت أكثـر من 16 مركـز إقتـراع داخل مدينـة علي صبيـح وضواحيها.

وكان اللآفت للإنتبـاه، إغلاق معظـم مراكـز الإقتـراع أبوابها في الساعـة الـ12 صباحاً بالتوقيـت المحلـي، وهـي خاليـة تماماً من الناخبيـن.

وفيما تباينـت آراء الشـارع حول أسباب ضعف الإقبال على صناديق الإقتـراع، يرجـع كثيـر من المراقبيـن الأمـر، لأسباب موضـوعية عديدة بينها غياب أي منافسـة حقيقيـة حيث تقتصـر المنافـسة على قائمـة الإتحاد من أجل الأغلبيـة الرئاسيـة الحاكم (UMP) وبعـض الشخصيات (المستقلـة) غير المؤثـرة ولا تمثـل منافسـة جدية لـلحـزب.

كما أن وجـود وجـوه حـزبية أصبحـت مألوفـة لدى الناخـب الجيبـوتي، يعد سبب آخر لضعـف الإقبال وعدم الاهتمام الشعبـي بهذه الانتخابات..

من المتـوقع أن تعلـن اللجنـة الانتخابيـة خلال السـاعات المقبلـة، فوز قائـمة الأغلبيـة الرئاسيـة واكتساحها على جميـع الدوائـر الإنتخابيـة، غيـر أن الأحـزاب المعارضـة المقاطـعة، تعبـر نتائـج الانتخابات غيـر مهمـة، باعتبارها معروفة سلفاً ومحسـومة لصالح الحـزب الحاكم

ومن جهـة أخرى أفاد قيادي رفيـع من إئتلاف حـركات من أجل التداول والأمـة (AMAN) المعارض، أن لديهـم مؤشـرات واضحـة بنجاح حملـة المقاطعـة، مشـيراً أن نسبـة الامتناع عن التصـويت فاقـت كل التوقعات وبلغـت أكثـر من 85.5%.     

تمدد ظاهـرة العزوف السياسـي :

مع أن ظاهرة العـزوف السيـاسي ليسـت جديـدة في جيبـوتي، سـواء على مستـوى الاهتمام بالشأن السياسـي أو المشاركـة في الانتخابات، بل إنها ظلـت السمـة الأبـرز التي طبعـت المشهد السيـاسي العام، منـذ تولـي الرئيـس إسماعيـل عمر جيلـة على السـلطة عام 1999م.

وقد حـرصت الحكـومة ـ خلال السنـوات الماضيـة ـ على ضمان أكبـر مشـاركة شعبيـة ممكنـة، لكـن نسبـة الإمتناع عن التصـويت في الانتخابات الرئاسيـة الأخيـرة التي جـرت في أبريـل 2016م، فاقـت كل توقعات الحكـومة .

بالعـودة إلى الانتخابات الإقليميـة الراهنـة، نجـد أن الهاجـس الأكبـر لدى الحكـومة يتمثـل في العـزوف الشعبـي وعدم اهتمامـه بهذه الانتخابات.

يبدو أن النخبـة السياسيـة الحاكمـة أدركـت متأخراً من خطـورة الأمـر وتداعياته المحتمـلة على الشـرعية المطعـون فيها التي ظلـت ترافق بالعمليـة الانتخابيـة منـذ إقرار التعددية الحـزبية في البـلاد عام 1992م، لذلك بدأت السلطـات المعنيـة جهـودا كبيـرة لرفع نسبـة المشـاركـة.

بيد أن هناك عـوامل عديدة من شـأنها أن تضيف متاعـب أخرى لـلحكـومة على صعيد إقناع الشعـب الجيبـوتي بالنـزول إلى صناديق الاقتـراع لعل من أبرزها:

الإحباط السياسـي وخيبـة الأمل الكبيـرة الذي يشعـره الشعـب الجيبـوتي من عمليـة الإصلاح والتغييـر السياسـي.

إقصاء الحكـومة لكل القـوى السياسيـة التي لها بعض المطالب الإصـلاحية.

عدم وجـود وجود سيـاسية جديدة، حيـث اقتصـر الأمـر على قائمـة الإتحاد من أجـل الأغلبيـة الرئاسيـة الحاكم (UMP) وهي وجـوه أصبحـت مألوفـة لدى الناخـب الجيبـوتي، مما زاد من بـرودة الحملـة الانتخابيـة وعدم الاهتمام الشعبـي بهذه الانتخابات والعمليـة السياسيـة برمتها.

كما أن الظـروف السياسيـة والاقتصادية والاجتماعيـة الصعبـة التي تعيشه البـلاد، لا تحفـز الناخـبين الجيبـوتيين على المشـاركة في الانتخابات.

وهكذ يبقـى العـزوف الشعبـي عن المشاركـة العامـل الأبرز والقاسـم المشتـرك بين مختلف الاستحقاقات الانتخابيـة.

جذور الأزمة السياسيـة.

من حقائق التاريـج أن جيبـوتي عرفـت التعددية السياسيـة خلال حقبـة الاستعمار، غيـر أن هذه التجـربة الحـزبية لم تعمـر كثيـراً بعد استقلال البلاد عام 1977م، وهي سـرعان ما انهارت في الـ4 مارس 1979م، نتيجـة لختيار النخبـة السياسيـة الحاكمـة لنظـام الحـزب الواحد.

لا شـك أن جـوهـر أزمة التحـول الديمقـراطـي في جيبـوتي، يتمثـل من عجـز الحكـومات الوطنيـة المتعاقبـة منذ الاستقـلال، في التعامـل مع الواقـع التعددي للمجتمـع الجيبـوتي.

من ينـظر بإمعان إلى المشهد السياسـي الجيبـوتي، سيـدرك حتماً، على حجـم الخلـل الإستراتيجـي والاضطـراب الفكـري والسياسـي الخطيـر الذي تعيـشه البـلاد منذ الإستقـلال.

يتفـق الكثيـر من المراقبـين على أن العمليـة السياسـية في البـلاد، لا تحكمها معاييـر ثابتـة وواضحـة وإنما تخضـع لـلأوهام والمزاج السياسـي للنخـبة الحاكمـة وهنا نلاحـظ أن الحـركات الوطنيـة في ظل الحـكم الاستعمار لم تضع الأسـس الكافيـة من أجل بناء الدولـة الوطنيـة لفتـرة ما بعد الاستقـلال، سواء على مستـوى بناء الأمـة والاندماج والمشـاركة أو على مستـوى ترسيـخ الاستقلال والشـرعية، والتوزيـع.

وبدلا من تحقيـق المساواة والعدالـة الاجتماعيـة، عملـت تلك النخبـة على نشـر الفساد وعدم المساواة في المجتـمع، الأمـر الذي أضفـى بعداً خطيـراً على حالـة البـؤس والمعانات الإنسانيـة في البلاد وكـرس حالة الفراع والوهـم السياسـي لدى الطبقـة الساسيـة الحاكمـة.

وبالرغـم من أن تلك المشكـلة ليسـت جديدة أو وليدة الـلحظـة، وإنما هي نتيجة لتراكمات سياسيـة واقتصادية واجتماعيـة ساهمت مجتمعة في بروزها وتفاقمها بهذا الشكـل المخيـف، إلا أن غياب الحـريات العامـة وتراجع عملية التحـول الديمقراطـي وانسـداد الأفـق السياسيـة، هي عوامـل أخـرى تشكـل تهديداً خطيـرا على استقـرار المنظـومة السياسيـة والاجتماعيـة في البـلاد، وبالتالي يمكـن لها أن تسبب في تفجيـر الوضـع بأية لحظـة.

بيـد أن النخبة السياسيـة ـ لـلأسف الشـديد ـ لا تقدر تقديراً علمياً سليماً لأبعاد تلك المشكـلة ومدى خطورتها.

ملامح الصـراع بين قوى الإصـلاح وقوى الجمـود:

إلى جانب ما سبـق فإن النظام السياسـي الجيبـوتي ـ لمـرحلة ما بعد الاستقـلال ـ أصبح يواجـه لـأزمة حكـم خطيـرة، نتيـجة لـلخلافات السياسيـة والفكـرية التي تفجـرت بين أطـراف التحالف الحاكم خاصـة بعد استقالـة رئيس الوزراء أحمد دينـي من منصبـه وخـروج من التحالف في ديسمبـر عام 1977م.

لذلك شـرع النظام الحاكم في اتخاذ جملـة من الإجـراءات الأمنيـة الاستثنائيـة تتمثـل بإلغاء التعددية السياسيـة وتحـريم كافـة الأنشطـة الحـزببة في البلاد.

وفي السياق حـل حـزب التجمـع الشعبـي من أجل التقدم (RPP) محـل تحالف الرابطـة الشعبيـة الإفريقيـة للاستقلال (LPAI) وتحـول بحكـم الأمـر الواقـع إلى حـزب الدولـة.

ثم تطـور الأمـر حيث اعتمدت الجمعيـة الوطنيـة في أكتـوبر عام 1981م، على نظـام الحـزب الواحد، وبمـوجب ذلك أصبح حزب التجمـع الشعبـي (RPP) الحـزب الوحيد والشـرعي في البلاد.

والجدير بالذكـر بأنه لم يكـن لجيبـوتي دستـور رسمـي حـى عام 1992م، ولذلك ظل الحـزب الحاكم يحكـم البـلاد بالقرارات الاستثنائيـة التي يصدرها مكتب رئيس الجمهـورية من حيـن لآخـر.

وفي مطلـع التسعينات، شهدت البـلاد صخباً سياسيـا غيـر مسبـوق، وبدأت تتصاعد مناشـدات واحتجاجات سياسيـة مطالبـة بضـرورة إحداث تحـولات سياسيـة واقتصاديـة وإصلاحات حقيقيـة تتضمن من تعددية سياسيـة وتبنـي انتخابات تنافسيـة وإقرار مبدأ التداول السلمـي لـلسلطـة، بعيداً عن النظام السلطـوي ونظام الحـزب الواحد.

وبالرغـم من الآمال والطمـوح الكبيـرة المعقـودة على عمليـة التحـول الديمقـراطي في البـلاد، إلا أن شيئاً من ذلك لم يتحقق على أرض الواقـع، مما يثيـر كثيـر من القلق والمخاوف من الإسـراف في مثـل تلك التطلعات والآمال التي بدأت تتلاشـى سـريعاً.

عبد الله الفاتح

باحث وكاتب صحفي. ماجستير في الإعلام بجامعة السودان للعلوم في الخرطوم (قيد الدراسة). حاصل على دبلوم عالي في الترجمة الصحفية في أكاديمية موزايك سنتر ـ أديس وبكالورياس في الإعلام بكلية الآداب في جامعة إفريقيا العالمية بالخرطوم.
زر الذهاب إلى الأعلى