إنه آفة الدول والحكومات، ينخر عظامها، ويمتص دماء حياتها حتى يسقطها أرضا. إنه آفة الشعوب والمجتمعات، يمزق أوصالها، يضعف قواها، وينهب ثرواتها، حتى يقعدها عن التحرك للأمام، وحتى يخدش في وجه كرامتها.
إنه الفساد، الداء العضال، والطريق السّريع إلى التخلف والانهيار.
يمكن تلخيص مفهومه بأنه ( إساءة استخدام السلطة أو الوظيفة العامة) فهو يشمل كل الأشكال والأنواع التي تمس النزاهة, مثل الرشوة والاختلاس، والتقديم أو التأخير في التوظيف على أساسٍ غير قانوني، للقرابة أو القبلية أو لأي مصلحة شخصية أو فئوية أخرى.
أما موقف الشّرع : فإن الفساد قد حُظر في جميع الأديان السماوية، وفي كل القوانين القديمة والعصرية. فقديما أدرك الإنسان خطر الفساد على حياة المجتمع وعلى بقاء الدول والحضارات. ولعل الموقف الإسلامي المتمثل في محاربة الفساد والمفسدين كان مبكرا إلى حد كبير بالنسبة إلى انتباه الأمم الأخرى بمشكلة الفساد.
الإسلام منذ بداية تشريعه أعلن الحرب على الفساد بكل أشكاله، وسد كل باب ووسيلة لهذه الظاهرة.
ويكفينا في ذلك مثالا : أن الشرع الإسلامي قد حرّم على من تولى مسؤوليةً أو وظيفةً عامة أن يتقبل الهدايا أو المكافآت إذا جاءته بحكم مسؤوليته ووظيفته تلك.
وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أرسل أحد عماله لجمع الصدقات, فجاء يقول هذا المال بعضه لكم (صدقة) وبعضه أُهدي إلي, فأغضب ذلك النبيَ صلى الله عليه وسلم وقال قولته الشهيرة :” ما بال العامل نبعثه على بعض أعمالنا، فيقول: هذا لكم، وهذا لي، فهلا جلس، في بيت أبيه أو بيت أمه فينظر يهدى إليه أم لا؟ والذي نفسي بيده لا يأخذ أحد منها شيئا إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته، وإن كان بعيرا له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر، ثم رفع يديه حتى رأينا عفرة إبطيه، ثم قال: «اللهم هل بلغت، اللهم هل بلغت» البخاري
وقد قال صلى الله عليه وسلم عن الرشوة التي هي من أوسع أبواب الفساد: “لعنة الله على الراشي والمرتشي” صحيح الجامع الصغير.
وتحقيقا للنزّاهة والابتعاد عن تلطخ أيدي المسئولين بالفساد جعل الأمانة من الشروط الأساسية في اختيار المسئول.
وهكذا تربى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والأجيال من بعدهم على مبدأ النزاهة والشفافية ومحاسبة المسئول لأدنى شبهة, فها هو سلمان الفارسي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعمر بن الخطاب الخليفة: ” لا سمع لك علينا اليوم ولا طاعة“.
قال عمر: ولم ؟
قال سلمان :من أين لك هذا البرد الذي ائتزرت به وقد نالك برد واحد كبقية المسلمين؟
لم يستثر هذا غضبَ عمر رضي الله عنه الذي تربى على يد محمد ومدرسته النزيهة العفيفة, وإنما نادى ابنه عبد الله بن عمر وسأله: نشدتك بالله أهذا البرد الذي ائتزرت به أهو بردك ؟ قال: نعم, والتفت إلى المسلمين فقال: إن أبي قد ناله برد واحد, كما نال بقية المسلمين, وهو رجل طوال لا يكفيه برد واحد؛ فأعطيته بردي ليتزر به.
فقال سلمان: الآن نسمع ونطيع.
هنا لاحظْ أن سلمان رضي الله عنه لا يسأل عن حق خاص له, ولا يشتكي من ظلم مالي ناله من دولة عمر، وإنما يقوم رضي الله عنه بدور وواجب الفرد من المجتمع المسلم الذي هو مقاومة كل عمل وسلوك لا يتوافق مع المبادئ الإسلامية، سواء من المسئولين أو غيرهم.
الصومال والفساد
لا يستبعد أن يوطّط الفساد أركانه، ويرسي أوتاده في بلد منهار مثل الصومال؛ فإن الانهيار الشامل يذهب بكل المؤسسات والشروع التي تضمن سلامة المجتمع من ظاهرة الفساد, كما يستجلب كل الأسباب المؤدية إلى انتشار الفساد.
والصومال في العقدين الماضيين كان يتصدر قائمة الدول الأكثر فسادا في العالم, ولعل ذلك كان مفهوما ومبرراً؛ فالصومال كان رمز ومثال الدولة الفاشلة في تلك لفترة, ولكنه كان من المفترض والمنتظر مع استعادة الدولة شيئا من عافيتها، وخروجها من طوق المرحلة الانتقالية أن يقل حجم الفساد وتخف وطأته على المجتمع, وأن تأتي حكومة 2012 بإجراءاتٍ لمقاومته.
وبدلا من ذلك فإن مسئولي هذه الحكومة وبعد انقضاء فترةٍ لأربع سنوات يصرحون بملء فيهم أن محاربة الفساد إنما تتم عن طريق مؤسسات وقوانين خاصة به، ويعتذرون بأن تلك المؤسسات والشروع لم تعد جاهزة بعد! كأن بناء تلك المؤسسات ووضع تلك الشروع والقوانين لم تكن من ضمن مسئوليتهم.
ومن المؤسف أيضا أن المراقبين يؤكدون أن حجم الفساد بلغ مؤخرا في أثناء الانتخابات البرلمانية الأخيرة والرئاسية التي يجري الإعداد لها, ويحمي السباق إليها إلى أعلى مستوى له منذ الاستقلال، يتحدث البعض عن صفقات حول شراء المقاعد البرلمانية قدرت بنصف مليون دولار وأكثر،وأخرى منتظرة حول شراء أصوات النواب خلال الانتخابات الرئاسية ويقال عن قيمتها إنه قد يبلغ في اللحظات الأخيرة من السباق المحموم إلى مئات الآلاف من الدولارات.
كل هذا والشعب يمر بظروف معيشي صعب في ظل القحط والجفاف الذي عمّ أكثر المناطق، وفي ظل ارتفاع الأسعار وهبوط العملة الوطنية إلى أدنى مستويات لها.
ومقابل هذا كله غفلةٌ شعبية تجاه هذه الظاهرة، فلم نسمع صيحاتٍ لمسئولي المجتمع المدني، ولا المنظمات الحقوقية، ولم نشاهد ولا مظاهرة احتجاجية واحدة للتعبير عن رفض المجتمع لما يشاهده من انتشار هذا الوباء.
إن بلدا مثل الصومال يُنتشل من ركام الانهيار، ولم يستفق بعد من صدمة السقوط المدوي لا يتحمل فسادا بهذا الحجم، وبدلا من ذلك كان الوطن يحتاج في هذه المرحلة من يعملون له بإخلاص في كل الدوائر الرئاسية والحكومية والبرلمانية وغيرها وبدون تقاضي أي رواتب حتى يتعافى الوطن الجريح.
والشعب الصومالي لا ينبغي له أن يسكت عن مثل هذه الظواهر التي تهدد كيان الأمة ومستقبلها. إنه أصلا لا يملك حاليا الكثير؛ فلا يعقل أن يتقبل العبث بالقليل.
ومعلم الأجيال (التاريخ) يؤكد أنه لا حظّ ولا حقّ لشعب من الشعوب في التقدم والنهوض إلا إذا نهض لمقاومة الفساد والمفسدين، ومحاسبة الحكام والمسئولين.
وهل أقعد شعوب العالم الثالث عن التحرك إلى الأمام في طريق التقدم والرقي في عصر النهضة هذا؟ وهل أبقاهم في مستنقع الفقر والجهل إلا سكوتها عن حقها وتقاعسها من محاسبة حكامها ومسئوليها, وتعاميها عن شعار الحكم الرشيد (وان اعوججت فقوموني)؟.
وتقول لنا سطور التاريخ والتجارب الإنسانية صادقةً : إن الشعوب ما إن تتنازل عن حقها في السيادة والمحاسبة إلا وتأخذ دور العبودية والخدم ، ويصبح الحكام عليها أسياداً، يرعون الشعوب بسياط التّهميش والتجويع .
وراعي الضأن يحمي الذئب عنها **** فكيف إذا الذئاب لها رعاة