من أجل التجاوز أو التخفيف من المأساة الصومالية التي لم يوجد لها حل منذ ربع قرن من الزمان ، تقرر إجراء عملية انتخابية غير مباشرة، في مدن بعض الأقاليم الصومالية، لاختيار أعضاء المجلس النيابي في البرلمان الفيدرالي البالغ عدده مائتين وخمسة وسبعين عضوا، والذي سيكون مقره في العاصمة مقديشو .
وهذه التصويت ليس لعموم الشعب بل لفئة معينة ومختارة، لأن كراسي البرلمان موزع ومقسم على أساس قبلي صِرف، لا يعتمد على إحصاء رسمي لتعداد القبيلة بل على مبدء المغالبة والشطارة ، والقرب من صانعي القرار العشائري ، فبعض القبائل تحوز مقاعد في البرلمان بينما الأخرى لا يجوز لها مجرد التفكير في هذا الموضوع ، لأن قانون الغابة هو المسيطر في الساحة .
وإن كان هذا الانتخاب الذي لا يتماشى مع أبسط قوانين الانتخابات المتعارف عليها دوليا ، ولا يبني مجدا ولا دولة ، ولا يستعيد شرفا، ولايحمي حرمة ، إلا أنه أفضل وأحسن بكثير من بقاء البلد تحت رحمة مليشيات النهب ولصوص مقدرات الوطن والشعب ، لأن إرتكاب أهون الشرين لتفويت أعظمهما، قاعدة شرعية، يجب إعمالها عندما يتعذر الإصلاح ، ويكثر الشر .
وليس معنى ذلك الإقرار أو الموافقة على التجاوزات الشرعية والقانونية التي صاحبتها العملية الانتخابية غير المباشرة ، بل كل أمر أو تصرف خاطئ يجب رفضه ونهيه وبيانه حتى لا يتمادى الباطل ولا يستخدم النظام في مصلحة فئة معينة من الناس دون غيرهم .
وقد صاحب هذه الانتخابات مخالفات قانونية وأخلاقية قد تضاعف المشكلة المستعصية في المكون الصومالي ، وتأجج نار العداوة بين المجتمع بل بين القبيلة الواحدة وأبناء العمومة ، وتجعل مستقبل الوطن في كفِّ عفريت ، وتنذر شؤم عودة البلد إلى الاحتراب الداخلي والتنازع القبلي .
ومن هذه الظواهر المخالفة للتصويت الصحيح ، وتضع النتائج المترتبة عليها موضع الشك ، ويجعل النائب البرلماني في وضع لا يحسد عليه، ويبدو كلابس ثوبي زور، وتزيد الشرخ الموجود في جسم الأمة المعلول ، وتدمي أكثر في الجرح غير المندمل ، التالي :
١- استخدام المال السياسي والرشوة الجماعية في شراء الذمم وأصوات الناس جهارا نهارا من غير خوف ولا وجل ، حتى وصلت أسعار بعض الكراسي في بعض المناطق على ما يربو على نصف مليون دولار ، وقد تناقلت الأخبار بأن بعضها بيعت أكثر من ذلك .
وهذا الأموال المدفوعة في سبيل الفوز في معقد برلماني لا يتجاوز راتب صاحبه بثلاثة آلاف دولار شهريا ، لا يعرف من أين جاءت ولا من يمول هذه الكارثة ، ويكاد يتفق كثير من الصوماليين أنها مسروقة من مقدرات شعب يعاني أكثر من ٩٥٪ من أبناء من فقر مدقع وعوز مشاهد .
ثم إن هؤلاء النواب الذين جاءوا بطريق الغش والرشوة لا يخدمون للشعب ، بل يعملون لمصالحهم الشخصية ولمن مولهم ودفع عنهم المصاريف ، ولا يتوانون من بيع البلد في سوق النخاسة والتبعية ، وتنفيذ أجندة لا تصب في مصلحة الوطن .
٢ – حرمان بعض المرشيحن : ومن الثغرات والمخالفات القانونية التي شابتها هذه الانتخابات غير المباشرة ، حرمان ومنع بعض من رشحوا أنفسهم ودفعوا رسوم التسجيل والتي بلغت خمسة آلاف دولار أمريكي ، وسبب حرمانهم يعود إلى رغبة بعض مسؤولي الدولة الكبار الذين لا يريدون رؤية من لا يشاطرهم في الرأي في مقاعد البرلمان، لأن ذلك قد يكون حجر عثرة أمام مصالحهم الشخصية ، لأن النائب يبقى مرهونا تحت نظر من أوصله إلى قبة البرلمان .
٣ – تزوير أسماء بعض مندوبي القبائل أو تبديل أسمائهم بآخرين ، أو إشراك بعض من لا ينتمون إلى القبيلة في لوائح المنتخبين ، من أجل التأثير على مسيرة الانتخاب وإختيار مرشح السلطة .
٤ – عدم السماح لمندوبي المجتمع المدني بمراقبة سير الانتخابات ، وتأكده من سلامة ومراعاة النظام الانتخابي.
٥ – استخدام مرافق الدولة وممتلكاتها، وسوط السلطة وصولجانها في تأييد بعض المرشحين ومعارضة الآخرين .
٦ – قد أججت هذه الانتخابات غير المباشرة العداوة والتباغض بين أبناء القبيلة الواحدة ، لأن المتنفذين في العلمية السياسية تعمدوا لانجاح مرشحهم بدلا من مرشح القبيلة مما أثار الفتنة بين أفراد القبائل .
وهذا غيض من فيض من المخالفات والانتهاكات التي صاحبت العملية الانتخابية غير المباشرة في الصومال ، وقد تم اختيار رئيس البرلمان ونائبيه ، ثم تختم هذه المسرحية سيئة الإعداد والإخراج بانتخاب رئيس للجمهورية الصومالية في الأيام القادمة .
وقد ترشح لهذا المنصب عند كتابة هذه الأسطر قرابة عشرين شخصا ، يتقدمهم الرئيس المنتهية ولايته، ورئيس سابق ، وثلاثة رؤساء حكومة سابقين ، وعدد من نواب البرلمان وغيرهم من كبار موظفي الدولة والمجتمع المدني .
وهي معركة ومنازلة يكون ميدانها في داخل قبة البرلمان، ويكون وقودها عنصري القبيلة والمال السياسي، لأن العلمية السياسية في الصومال تأسست على المحاصصة القبلية أولا ، ثم من يدفع أكثر ،
فمن فاز بالمنصب فليس له همُّ إلا كيفية استرجاع ما خسره في المعركة ، ثم تسخير مقدرات الوطن لحاشيته، وأقاربه، ومن دار في فلكهم .
وليس معنى ذلك بأن الكل في سلة واحدة ، بل هناك فضلاء وأخيار ونواب ورؤساء يؤلمهم الحالة التي هوى بها البلد ، ويقدمون كل غالى ونفيس في انتشار البلد من المستنقع الذي يقبع فيه ، ولا يساومون في مبادئهم ، ولا يغيرون ولائهم من أجل حفنة من المال الحرام ، وهم كثيرون ، ولكن ينقصهم الترابط والتكاتف ، وهم أمل الأمة بعد الله تعالى .
وأخيرا يجب على الشعب الصومالي التخلي عن القبلية والعصبية والمناطقية، التي حولت بلدهم ومجدهم وسمعتهم إلى أطلال وركام ، وفرقتهم إلى كيانات ومجموعات تعادي بعضها ببعض ، وجعلت الصوملة ماركة وشعارا للخسة والنذالة والتخلف والبؤس ، والعودة الصادقة إلى الله تعالى ، لينعموا بأمن وإيمان وإصلاح .
عبد الباسط الشيخ إبراهيم
الجمعة ٢٣ ربيع الأول ١٤٣٨هـ ، ٢٣ ديسمبر ٢٠١٦م