شريحة كبيرة من المجتمع تعيش تحت وطأة العوز، يغرس الفقر مخالبه في ظهورهم، يهدد الجوع مهج نفوسهم، يتكسدون في حافات الشوارع، تلفحهم وهج الشمس الحارقة، يفترشون الغبراء ويلتحفون السماء، لا يجدون مأوى يبيتون فيه، يتقون فيه عن صقيع الشتاء، ولا لقمة عيش يسدون بها الرمق، إلا بعد شق الأنفس وفي بعض الأحيان فقط.
متسولون يمدون الأيادي يطلبون النجدة ويتضرعون إلى الآخرين لعل أحدا منهم تأخذه الشفقة والرأفة، فيتبرع عليهم ويمد يد العون إليهم، وفي الغالب لا تجد أنّاتهم واستغاثاتهم آذانا صاغية، بل تذهب في أدراج الرياح يتضورون جوعا.
ونسبة هؤلاء ليست ضئيلة بل يشكلون أربع مليارات من أصل ستة ممن يدبون على ظهر البسيطة، يعيشون –كما تقول الإحصائيات- على دولار واحد، أو أقل وأكثرهم في الدول النامية.
بينما يموت بعض الناس ضحية للجوع، ويتساقطون في حمأته يحتضرون في حضنه، يعيش آخرون في ترف مفرط ويعانون من التخمة، ويشتكون من البدانة والسمنة، وكثرة الدهون في أجسامهم، مما يشكل مصدر قلق على حياتهم، ينفقون المليارات في توفير حاجاتهم ويهتمون بالتحسينات، ولو تفضلوا ما يرمون به في القمامات والمزابل من فضلات الطعام على إخوانهم المحتاجين، لأنقذوا حياة مهددة بالحتف ولقدموا للبشرية صنيعا إيجابيا.
فهذه الطبقية وهذا التباين في طريقة الحياة، يصاحبه فوقية واستعلاء وازدراء للفقراء مما يزرع في طويتهم بذور الحقد والكراهية والمقت، لكل ما يمت بصلة إلى المجتمع الذي يعيشون فيه، حتى تمتلأ قلوبهم بالضغائن، فلا يألون جهدا في إيذاء الأثرياء ولا يتردد غالبهم في السرقة، وغير ذلك لأن الجوع-مع الكراهية التي نجمت منه- يدفعانهم على هذه المعامع، والجائع لا يفكر قبل أن يسد رمقه، وإن فقد ما يأكل فلا يستبعد أن يأكلك، لكن الأغنياء يتغاضون عن هذه الحقيقة، فيحدث ما لا يحمد عقباه، فكلما ازدات نسبة الفقر ازدادت نسبة الجرائم.
وبعض التصرفات التي تنم عن الإستعلاء والنظرة الدونية للمعوزين مثيرة للدهشة، أتذكر قصة كنت شاهد عيان فيها، قبل سنوات، وقف أحد المتسولين بعد الإنتهاء من الصلاة يتسول منوها بعض الظروف المحيطة به ليستميل بها القلوب، وقد تزامن ذلك مع وقوف أحد العلماء المشاهير ليلقي كلمة للحضور، فلما سمع المتسول وكان معاقا مقطوع الأيدي رث الثياب آثار الفاقة عليه بادية، قال الشيخ: لا تعطوا أموالكم لهؤلاء الذين يتعاطون نبتة القات، فغضب المتسول المعاق، ونهر الشيخ ودنا منه يعاتبه على التعريض به في المحفل، فصفعه الشيخ صفعة مدوية، وكان الشيخ مفتول العضلات، وأصيب الناس بالذهول وكثر اللغظ في المسجد، رجل من المنظومة الدينية يلطم الفقير المتسول بعد التعريض به ومنع الناس من التفضل عليه، كل هذا أثارت علامات الإستغراب وأماطت اللثام عن أن بعض رجال الدين بفتقدون إلى الأخلاق والقيم بله غيرهم.
والشريعة الحنفية السمحاء قد ركزت على توطيد العلاقات وتأكيد وشائج المحبة وأواصر المودة بين المجتمع الإسلامي، وحرصت على إزالة الطبقية، وحثت الأثرياء على مساعدة المحتاجين، ولها اليد الطولى في هذا الصدد، لكن الأمر الذي أدهشني أن كثيرا من أثرياء المسلمين من بينهم من له إلمام بالدين، أو المحسوبون من عداد العلماء ينفقون مبالغ هائلة، على زخرفة المساجد وتوسيعه وترميمه والإسراف في بناء طوابقه وقبابه ومآذنه وفرشه بالبسط الفاخرة، والمفروشات ذات الجودة العالية والتكاليف الباهظة، وغير ذلك من التحسينات التي نحن في غنى عنها إذ لا حاجة ماسة إليها، في حين لا يكترثون بالمعوزين المتكدسين على عتبات المساجد وغيرها، أليس من الأولى انتشال الفقراء من براثن الجوع ومخالب الموت، بدل الإسراف في هذه التحسينات، جتى إن هناك مؤسسات لها ارتباط وعلاقة مع المحسنين العرب يأخذون منهم التبرعات الجمة لتشييد المساجد وزخرفتها وإضافة الطوابق والإنارات المضاعفة في حين يبيت بعضنا على الطوى والجوى، فإنقاذ حياة الناس وإطعام الجوعى أولى بكثير من هذه التحسينات، بل لا حاجة لبناء مساجد إضافية أكثر مما في مدينتا، فإنها تعج بالمساجد، وبعضها خالية، ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :إني لم أؤمر بتشييد المساجد، والصوماليون من أفقر الناس وتشهد في أقاليمهم نكبات ومجاعات وجفاف، وبعضهم في مخيمات اللاجئين تحت رحمة منظمات الإغاثة، فلا بد أن نضع نصب أعيننا أن أولى أولوياتنا هو مد يد العون إليهم والتكاتف في انتشالهم من براثن الفقر، فالذي دفعني على هذه السطور هو أنّي سمعت أن مسجد الجامع في مدينة قاريسا سيتم بناءه على طوابق زخرفته وتوسيعه، والفقر يهدد حياة الكثير ممن يعيشون بين أظهرنا، فمتى نفقه أن مكافحة الفقر أهم من هذه الأمور؟!