فور صدور الحلقة الأولى التي خصصناها لأخبار الشريف محمود عبد الرحمن في موقع مركزنا الفريد “مركز مقديشو للبحوث والدراسات” في رسالته الإسبوعية الإعلامية، اتصل بي أكثر من شخص من القراء الكرام هنا وهناك ، وكلهم أبدوا اهتمامهم وإعجابهم الكبير بهذه الأخبار المتعلقة بذلك العبقري المجدد في زمانه، وعلى رأس هؤلاء البرفسور محمد حاج مختار المتابع دائما لرسالة المركز الأسبوعية، وكم كنت مسروراً بهذا الاتصال من هذه الشخصية العملاقة وقد جرى بيننا حديث طويل أفادني البروفسور خلاله أنّ أحد أبناء الشريف محمود وهو الأستاذ عبد الرحمن الشريف محمود عبد الرحمن أصدر حديثاً كتاباً خصصه للحديث عن أبيه باللغة الإنجليزية بعنوان:
ONE MAN`S INFLUENCE ON SAMOLIA
The Life Of Sheikh Al-sharif Mahamud
Author: Abdurahman Sharif Mohamud.
وفي الوقت نفسه اعتذر الدكتور محمد حاج عن عدم إضافته هو ترجمة الشريف محمود وأخباره ضمن من تناول ترجمتهم في كتابه المذكور في الحلقة الأولى، وذكر أنّ هذا الأمر لم يقتصر فقط على الشريف محمود، وأنّما شمل أيضاً شخصيات كبيرة من الطراز الأول في تاريخ بلادنا مثل الشيخ عبد الله محمد البغدي مؤسس المنظمة “الحزبية ” HDM وأول من نادى بالفيدرالية الصومالية في الخمسينات، خلافاً للفيدرالية الحالية التي تجعل بين مجتمعنا حدوداً وحواجز، وكذلك أخبار الأستاذ عثمان محمد حسين رئيس هذا الحزب قبل اغتياله.
وممن اهتم بأخبار الشريف من أهل العلم الشيخ حسن عبد الرحمن المقيم بسويسرا، وقد أعطاء وأبدى رغبته في الحصول على معلومات عن مرافقة الشريف محمود مع أمير البيان شكيب أرسلان وزيارته لمقديشو، وذكرتُ له أن ذلك تمّ في عام 1384ه/ 1964م مشاركاً في مؤتمر العالم الإسلامي السادس في العاصمة برعاية الرئيس آدم عبد الله عثمان رحمه الله بحضور كبار علماء الإسلام، وقد عقد المؤتمر بمقر سينما حمر التي كان يمتلكها الحاج محمد إبراهيم أونلاي Ibrahim Uunlaay .
وإذا كان الشريف محمود عبد الرحمن غادر الصومال وهي تحت احتلال الاستعمار الأروبي، فإنّه وصل إلى مصر كنانة الله في أرضه وقد حدث فيها تغيير سياسي كبير في ظلّ اندلاع الثورة المصرية الكبرى والتي كانت بداياتها فى عام 1919م، وتوجت بإعلان استقلال مصر فى عام 1923م، ولم يكن الشريف محمود يمر عليه هذا الظرف السياسي مرورا عاديًّا، بل كان يحيي في نفسه الأوضاع التي تعيشها بلاده من وطأة الاستعمار ويقرأ في الثورة المصرية ووقائعها محاولات أهله في التحرر والتغلب على الذل والمهانة التي يمارسها الاستعمار عليهم، ومن هنا كان يتابع شأن مصر ولاسيما الثورة المصرية وأحداثها بشغف واهتمام، كما يقرأ ويستمع إلى كتابات وخطب قادتها، ولاسيما دور علماء الأزهر القيادى والتحريضى فى دفع الشعب المصرى إلى الالتفاف حولها، مما ساهم فى تشكيل وعيه السياسي. وقد كون صداقات حميمة مع علماء الأزهر، وخاصة مع الشيخ مصطفى المراغى ، الذى أصبح فيما بعد شيخا للأزهر، وظل يراسله بانتظام حتى بعد رجوعه إلى الصومال كما ورد ذلك في كتابات محمد شريف محمود.
رجوعه إلى الصومال:
رجع الشريف محمود عبد الرحمن إلى بلاده الصومال فى الثلاثينيات، ولم تتحرر بعد من الاستعمار الأروبي. وكان يحمل أثراً عظيماً من مصر ليس من النواحي العلمية والثقافية فحسب، وإنّما بالسلوك والذوق الإسلامي ورفض الاستعمار وأخلاقياته المهينة التي كانت ضد الإنسانية والتقدم الحضاري، وقد تأثر بطبائع أهل مصر كثيراً وخاصة العلماء الذين كان معهم على علاقة متينة، وقد سبق أن أشرنا إلى أنّ علاقة حميمة كانت بينه وبين الشيخ مصطفى المراغي شيخ الأزهر في ما بين 1928م – 1930م، وكذلك ما بين 1935م – 1945م، ولما عاد الشريف محمود عبد الرحمن إلى أرض الوطن لم يدخر جهداً في رفع معنويات الناس وحماسهم تجاه تحرير البلاد، لأنّه كان يضيق صدراً بتصرفات المستعمر وخاصة ما كان يمارسه النظام الفاشستى الإيطالى من التفرقة العنصرية ونظام العمل بالسخرة فى المزارع الإيطالية، ناهيك عن تطبيق العقوبة الجسدية بالكرابيج لأتفه الأسباب وفرض التحية الإجبارية لدى مشاهدة الرجل الأبيض وخلع الأحذية عند دخول المكاتب الحكومية وفرض خلع الكوفية والعمائم فى الدوائر الحكومية، وقد رفض الشريف محمود هذا التصرف المهين كسائر المجتمع الصومالي. وكانت كل معارضته عبر وسائل سلمية، وقد انطلقت معارضته في أول الأمر من المسجد، حيث ساهم بالوعظ والإرشاد وإلقاء المحاضرات الحماسية فى المساجد لنشر الوعى بضرورة الاحتجاج ومقاومة هذه القوانين والإجراءات المهينة وكل التصرفات التي ترمز للاستعباد.
وكان من الصعب أن يقبل الشريف الخضوع والانحناء لغير الله مهما فرشت له بسط الحرير، كما كان صاحبه شيخ الأزهر الشيخ مصطفي المراغي الذى رفض الخضوع والانحناء للملك جورج الخامس ملك بريطانيا عند استقبال باخرته، وكان البروتوكول يقضي بأن لا يصعد إلى الباخرة أحد غير الحاكم الإنجليزي، أمّا بقية المستقبلين فمكانهم الأرض بمحاذاة الباخرة، وعلم الشيخ المراغي ذلك الترتيب فأخبر الحاكم الإنجليزي بأنه لن يحضر لاستقبال الملك إلا إذا صعد مثله إلى الباخرة لملاقاته، وبعد قبول شروط الشيخ المراغي صعد السفينة وقابل جورج الخامس، حيث رفض انحناءة البروتوكول وقال: ” ليس في ديننا الركوع لغير الله “.
كما كان الشريف يقود القيادات الدينية والتقليدية والعشائرية فى تنظيم احتجاجات جماعية وتقديم مطالب سياسية.
وبسبب نشاطه السياسى تعرض للنفى إلى أقصى شمال الشرق للبلاد وبالتحديد مدينة بندر قاسم (بوصاصو) التى كانت حينئذ تعتبر مدينة نائية وقاحلة وقائظة ومعزولة.
وكان الشريف محمود أحد القلائل من أهل العلم الذين كانوا يتابعون القضايا الدينية والسياسية والاجتماعية في المنطقة، وعلى حذر تام مما يحوك الاستعمار للأمة من المكر والكيد، جريئاً في المصارحة بالحق وكشف المغالطات وتبيين الحقيقة حتى ولو كان في المغالطة تحقيق بعض المصالح. وقد برزت موهبته في تمييز الأمور فى المناسبات التي تتعرض السلطة الاستعمارية لأزمات ومآزق، كالذي حدث عند ما عارض الشريف نصرة المستعمر الإيطالي في حربه ضدّ الحبشة رغم العداء القديم بينها وبين الصومال، وذلك عام 1935م، علماً أنّ الجيش الإيطالى كان يضمّ فرقة من الصوماليين، حيث طلبت منه الحكومة مستغلة العداء التاريخى بين الصوماليين والاِثيوبيين إصدار فتوى تجيز الإفطار فى شهر الصيام إذا كان المقاتل المسلم فى حالة حرب، وهو أمر تجيزه الشريعة الإسلامية في نظر الحكومة الإيطالية، فما كان منه إلا أن رفض ذلك، مشيرا إلى أن هذا لا ينطبق إلا على حالة الحرب بين المسلمين وغير المسلمين، دفاعا عن حياض بلادهم، والوضع في الحرب بين اِيطاليا المسيحية وإثيوبيا المسيحية غير ذلك، وحض العلماء على مقاومة استغلال الدين لخدمة المصالح الاستعمارية، كتصوير الحرب ضد إثيوبيا على أنها جهاد يفرضه الدين على المسلمين، مما أثار غضب وسخط السلطة عليه مراراً، كما ذكر نجله سعادة السفير محمد الشريف محمود عبد الرحمن حفظه الله وأطال بقاءه.