وقد ذكرنا فيما سبق وصول الشيخ إبراهيم حاشي محمود إلى مدينة مقديشو في عام 1949م وقد عانى خلال وجوده في المدينة معانات اقتصادية بحيث لم يكن لدى الشيخ معارف وأقرباء يعرفها، وخاصة في الشهور الأولى والتي لم يتمكن من معرفة الناس في المدينة، حتى وجد زميلاً له من بلده يدعى أحمد شيخ حسين عدي سبقه إلى المدينة لنفس الغرض الذي جاء صاحبنا لأجلهوهو طلب العلم، فاتفقا على السفر إلى منطقة كسمايو، فسافرا إليها في طريقهما إلى بادية جوري على بعد مائة وخمسين كيلو متر تقريباً من كسمايو لزيارة بعض الأقارب للشيخ هناك بزعامة السلطان نقييه محمد علي ، ومكثا عندهم ثلاثة أشهر يشربان الحليب والشاي اللذان يعتبران معيشة الأهالي الرئيسية في البلاد بالإضافة إلى اللحم.
كما أكلا البن المقلي والسمن على الطريقة المعروفة لدى الصوماليين هناك، وكانت هذه الفترة الوجيزة التي قضاها الشيخ في جوري أصعب فترة في حياته الصحية، حيث أصيب فيها نتيجة بالملايا حمى الربع، والدسنتاريا والبلهارسيا مما اضطر إلى التعالجمدة طويلة في مستشفيات مقديشو والقاهرة فيما بعد،وبعد أن حصلا من القرابة بعض المساعدات المالية رجعا إلى مدينة كسمايو، فلما وصلا إليها ذهب زميله إلى قرية أفمدو على مسافة مائة وخمسة عشر كيلو من كسمايو، أما الشيخ إبراهيم حاشي محمود فقد حزم متاعه للعودة إلى أرض الوطن في مقاطعة أجادين مارا بمقديشو ، وجوهر وبلدوين في طريق عودته إلى بلده قبردهري، وكان ذلك في شهر أبريل عام 1950م نفس الشهر الذي عادت فيها الإدارة الإيطالية الوصية إلى صوماليا تحت إشراف الأمم المتحدة.
محاولاته الأولى في الحياة الاجتماعية:
كان الشيخ إبراهيم حاشي محمود قد عقد قبل سفره إلى مقديشو بفتاة صومالية حسناء من أهالي عيل طيك عندما كان في غرب الصومال، فلما وصل إلى بلده ذهب ببعض المواشي ، والأقمشة إلى أهلها للزفاف، ولكنه لم يتمكن من ذلك بناء على طلب أهلها لتأجيل الزفاف بعض الوقت حتى يستعدوا لذلك، وكان ذلك سببا لعودة صاحبنا مرة أخرى إلى قلافة ومنها إلى مقديشو عام 1952م للعلاج من ناحية ، وللوقوف على صحة الأنباء التي ترددت حول وصول مشايخ أزهريين إلى مقديشو، وإجرائهم الامتحان على بعض التلاميذ في مسجد عبد القادر وغيره.
ومن هنا رجع الشيخ إبراهيم رجع مرة أخرى إلى مقديشو وذلك عام 1952م فبدأ أمر البحث بالطبيب فتقدم لطبيب إيطالي كان يعمل في وحدة حمروين الطبية، وأجرى الكشف عليه فقرر الطبيب أن مرضه يستدعي البقاء في مقديشو مدة أربعين يوما تحت العلاج، وكان ذلك فرصة سانحة لبعض الطلاب الذين عرفوه في مقديشو في المرة الأولى عام 1950م ومدى قدرته العلمية ، وطلبوا منه تدريس كتاب جوهر المكنون، ومن هنا عقد الشيخ بعض المجالس العلمية حيث التف حوله بعض طلبة العلم ، ومن الكتب التي قرأها الشيخ إبراهيم حاشي محمود كتاب ” جوهر المكنون” وبعض أجزاء تفسير القرآن واستقر في مقديشو على كنف صديقه معلم حسن أحمد الذي رحبه وأحسن نزله في بيته.
رحلته العلمية:
ولم تتوقف هموم الشيخ إبراهيم في مواصلة طلب العلم ، غير أنّه في هذه المرة أراد الرحلة الخارجية وأن يكون ضمن أول بعثة صومالية رسمية تسافر إلى الخارج وخاصة مصر للتعليم، عندما أعلن الأزهر قبوله عضواً منها، علماً أنّ هذه البعثة كانت تتكون من ثلاثة وعشرين طالباً، وقبل سفره إلى مصر نعى إليه بوفاة والده من ابن عمه عبد القادر حاج فارح الذي يسكن في مدينة قلافة، واستمر الشيخ رحلته العلمية إلى القاهرة بعد أن حصل على مساعدات طائلة من الأصدقاء لأنه فترة وجوده في مقديشو اكتسب الشيخ محمود سمعة طيبة لدى الأهالي، وهذا المبلغ من المال مكنته من السفر إلى مصر.
وفي 28 سبتمبر عام 1952م سافر الشيخ إلى مصر على ظهر الباخرة الإيطالية تريبتانيا فوصلت ميناء السويس في 10 أكتوبر عام 1953م وكان ذلك عند ابتداء العام الدراسي 1952 – 1953، وكان الشيخ إبراهيم في ذلك الوقت لا يحمل أي مؤهل علمي يمكن به تقدير المرحلة التي يستحقها، وكذلك كان زملاؤه الآخرون ، فقرر الأزهر امتحان قبول لهم ووضع كل في المرحلة والسنة التي يستحقها في القسم العام.
وأجريت الامتحانات عليهم فوضعت لجنة الامتحان الشيخ في السنة الرابعة من المرحلة الثانوية، وهي آخر سنة يمكن أن يلتحقها الطلاب المقتربون في الأزهر،وبعد أسبوعين حضر فيها الشيخ على دروس السنة طلب التحويل إلى كلية اللغة العربية ، على اعتبار أنها أقوى كلية تدرس فيها الآداب والعلوم العربية في مصر ، وساعده في ذلك بعض أساتذة السنة الرابعة فوافق الشيخ الأزهر على ذلك ودخل في الكلية بامتحان جديد في 3 يناير عام 1953م فنجح في الامتحان وانتسب بالسنة الأولى في الكلية ، وفي السنة الثالثة تخصص في شعبة الفلسفة، واختار من اللغات الشرقية الفارسية والشيجة باللغة العربية وآدابها.
وخلال وجود الشيخ إبراهيم حاشي محمود كان طالبا مجدا في دراسته لهذا كان النجاح حليفه في الأدوار الأولى ولكن كانت أحوال المعيشة صعبة عليه، فقد كان يتقاضى من الأزهر إعانة شهرية بسيطة قدرها ثلاث جنيهات ، أصبحت فيما بعد ستة جنيهات، منها يسكن ويأكل ويشرب ،ويلبس بيد أنه كان يقتصد ويتحمل المشقات مع زملائه الآخرين في سبيل الوصول إلى غرضه إلى أن كمل تعليمه في الكلية عام 1956م.
وفي أثناء دراسته في الكلية كان له نشاط اجتماعي وسياسي، فقد كان عضوا في اللجنة الرئيسية لاتحاد الطلاب المسلمين فيمصر، وهو الاتحاد الذي انضم فيما بعد إلى المؤتمر الإسلامي بعد إنشائه عام 1954م وكان عضوا في البعثة الكبيرة التي أرسلها المؤتمر الإسلامي إلى كراتشي عاصمة الباكستان لحضور مؤتمر الشباب العالمي الإسلامي الذي عقد في كراتشي في مطلع عام 1955م ،كما كان نائبا لرئيس اتحاد الطلاب الصوماليين في مصر.
تخرج الشيخ إبراهيم حاشي محمود من كلية اللغة العربية عام 1956م ، وتقدم فيما بعد للالتحاق بمعهد التربية العالي للمعلمين بجامعة عين الشمس الذي سمى فيما بعد كلية التربية بجامعة عين الشمس ضمن مائتين طالب مصري وشرقي من كليته تقدموا جميعا للامتحان فكان الشيخ واحدا من 37 طالبا نجحوا من هذا العدد في الاختبارات الشخصية والصحية والعلمية.
غير أن الشيخ إبراهيم حاشي محمود واجهته مشكلة اقتصادية مرة أخرى ، بحيث قطعت الأزهر إعانته كما هو النظام في الأزهر من قطع الإعانة من الطالب بمجرد إعلان نتيجة الامتحان النهائي في الأزهر، ولكن الشيخ لم يتوقف همه التعليمي فذهب إلى المؤتمر الإسلامي لدفع الرسوم عنه في كلية التربية بعد قبوله منها، وتقرير إعانة شهرية له لمدة عام دراسي فقط سيبقى في الكلية، فوافق المؤتمر على ذلك بشرط أن يوافق هو أيضا أن يشتغل في الصومال لحساب المؤتمر الإسلامي مدة خمسة سنوات يكون له الخيار بعدها أما أن يبقى في العمل أو أن يستقيل، فقبل الشيخ هذه الفكرة اضطراريا إذ كان أمامه أحد أمران إما القبول أو العودة إلى الصومال لعدم وجود مصدر آخر للرزق له في مصر، فوافق الشيخ على ذلك رغم أنّ المبلغ المصروف لم يكن يكفي كل ما كان يحتاج إليه الشيخ من المعيشة وشراء الكتب والمأكولات فضلا عن الملبس، ومن هنا طلب من السفارة الإيطالية الوصية للصومال إعطاءه من الإعانة المالية من المبلغ 500 جنيه التي أرسلته الحكومة الصومالية بعد العدوان الثلاثي على مصر لمساعدة المرضى والمحتاجين من الطلاب الصوماليين في مصر، ومن هنا قررت السفارة صرف مبلغ خمسة جنيهات له مدة ستة أشهر هي مدة العام الدراسي في الكلية.
وبعد شهرين من أخذ الشيخ هذه الاعانة من السفارة حضر إلى مصر ملحق صومالي بالقنصلية الايطالية في مصر وهو السيد محمد شيخ حسن فحولت السفارة شئون الطلاب الصوماليين إليه ، فقرر محمد شيخ حسن وقف الإعانة عنه، وكانت مفاجأة على الشيخ لأنه لم يكن يتوقع من مسئول صومالي أنه يفعل ذلك. ومهما كان فإن الشيخ إبراهيم استطاع تكملة المرحلة التعليمة التي أرادها في مصر ، ثم قرر العودة الى الوطن وذلك يوم 18 أكتوبر عام 1957م بطريق الجو إلى الصومال ونزل في عدن ، وبات فيها أربع ليالي، وذلك لأنه تأخر عن طائرته ، غير أنّه واصل رحلته إلى الوطن في الطائرة التي تليها ووصل مقديشو يوم 23 أكتوبر عام 1957م.