سبق أن تناولنا في الحلقة الماضية أحد العلماء الزيالعة المشهورين في مجال الفقه وأصوله الحافظ الشيخ فخر الدين بن عثمان بن علي الزيلغي.
أما في هذه الحلقة سوف نتحدث عن أحد الزيالعة الذين اشتهروا في مجال الحديث وعلومه ، وهو الإمام الفاضل البارع المحدث المفيد الحافظ المتقن، جمال الدّين أبو محمد عبد الله بن يوسف بن محمد بن أيوب بن موسى الحنفي الزيلعي، علماً بأننا تناولنا بهذين العالمين الجليلين بشكل مستفيض ومركز في كتابنا الثقافة العربية وروادها في الصومال في فصله الخامس.
وعلى كل حال ينسب الحافظ جمال الدين أبو محمد إلى مدينة زيلع الساحلية الواقعة في بلاد الصومال قبالة سواحل اليمن، والتي تعتبر مهدا لكوكبة من أهل العلم الذين اشتهروا بالدراية، وعرفوا بعلو الكعب، وسمو المكانة، وسعة الطلاع، وهؤلاء ينتسبون إلى مدينة أو بالأحرى الي منطقة تشمل أجزاء واسعة في اقليم القرن الإفريقي والذي كان يطلق عليها يوماً من الأيام سلطنة الزيلع والدول الطراز الإسلامي ، غير أنّه ليس بالضرورة أن يلقب كل من عاش فيها وسكنها بـ« الزيلعيّ “، حيث أحياناً كثيرةً يطلق عليهم الجبرتيّ، وتارة الحبشيّ ، وكل هذه الألقاب والأسماء لها دلالتها التاريخية والاجتماعية والثقافية ، إذ أن ألقاب الزيلعي والجبرتيّ وكذا الحبشي كانت تطلق على كل قادم من جهة منطقة القرن الإفريقي، بما فيها بلاد الصومال وجيبوتي وإثيوبيا وأرتريا، في حين أن هذه البلدان كانت تعرف عند المؤرخين والجغرافيين القدامى (ببلاد الحبشة) حينما يأتون إلى بلاد اليمن والحجاز ومصر وغير ذلك. غير أنّ لقبي الزيلعيّ والجبرتي يتميزان عن لقب الحبشيّ بحيث أن لقبي الزيلعي والجبرتي يشيران إلى شخص مسلم قادم من جهة الحبشة إلى الجهات العربية الإسلامية الأخرى. أما لقب الحبشي فلم يكن بالضرورة أن يكون هذا الشخص القادم من هذه المناطق مسلما، ربّما كان غير ذلك . كما أنّ بعض من ينسب إلى مدينة زيلع ليس بالضرورة بأنهم سكنوا وعاشوا فيها ، مثل العديد من الأسماء التي ينسب إليها ولم يعيشوا فيها ولم يروها قط ، بل ربّما من ينسب إليها لم يعش في الصومال فضلا عن زيلع . وسبق أن ذكرنا إلى من ينسبون إلى مدينة زيلع كالعلاّمة الشيخ جمال الدين فخر الدين عثمان الزيلعي صاحب كتاب : ( تبيين الحقائق) .
ومن هؤلاء أيضاً أبو عبد الله محمد بن عيسى الفقيه أحمد عمر الزيلعي وهو سليل الفقهاء والعلماء وأسرته من أهل قرية اللّحية في اليمن . ومن علماء الزيلع الذين اشتهروا بالعلم وضروبه الفقيه البارع أحمد بن عبد الرحمن بن عمر بن محمد الحبشيّ الزيلعيّ وشهرته شملت إلى جوانب أدبية من شعر وغيره من العلوم ، إضافة إلى علمه وفضله وفقهه .
إذاً فجمال الدين الزيلعيّ أبو محمد الذي نحن بصدد ترجمته ليس وحده الذي ينسب إلى مدينة زيلع الساحلية، لكن يختلف عن بعضهم بأنه من مواليديها وساكنيها رغم أنّه لم يتوفر لدي سنة ولادته وكذا المدة التي قام فيها قبل أن يرحل إلى مصر .
شيوخه وجهوده العلمية :
أما الحديث عن شيوخ جمال الدين أبي محمد عبد الله الزيلعي الذين أخذ عنهم العلم والمعرفة ، فلا شكّ أنّ ذلك يتطلب تتبع رحلاته العلمية سواء حينما كان في زيلع موطنه الأصليّ ، أو عبر طريقه إلى مصر أو حتى حينما انتقل إلى الديار المصرية ووصل إلى القاهرة . كما يتطلب الأمر كشف الأساليب والطرق التي تلقى بها الزيلعيّ العلم من حيث أخذ العلم والسماع من الشيوخ أو القراءة عليهم أو الانشغال معهم .
نرى أنّ الشيخ جمال الدين الزيلعيّ أخذ العلم من شيوخ وعلماء مختلفة ، وتتبع في سبيل ذلك طرقا وأساليب متنوعة ، ومن بين تلك الأساليب والطرق التي اتبعها الزيلعي من خلال رحلته العلمية الطويلة أسلوب السماع . وعلى هذا الطريقة أو أسلوب السماع فقد سمع الزيلعيّ من بعض شيوخ أصحاب النجيب الحراني . والسماع الذي نتحدث عنه نقصد به سماع الزيلعي الحديث وعلومه ، وكذا الفقه وأصوله .
ومن شيوخ الزيلعي بهذا الأسلوب :
١- الشهاب أحمد بن محمد بن فتوح التجيبي ” مسند الأسكندرية ”
٢- الشهاب أحمد بن محمد بن قيس الأنصاري ” فقيه القاهرة والأسكندرية ”
٣- محمد بن أحمد بن عثمان بن عدلان ” شيخ الشافعية ”
٤-جلال الدّين أبي الفتوح علي بن عبد الوهاب بن حسن بن إسماعيل بن مظفر الفرات الجريري – بضم الجيم –
٥- تقي الدّين بن عبد الرزاق بن عبد العزيز بن موسى اللخمي الأسكندري
٦- وتاج الدّين محمد بن عثمان بن عمر بن كامل البلييسي ، الكارمي الأسكندري
٧- جمال الدّين عبد الله بن أحمد بن هبة الله بن البوري ، الأسكندري .
من ناحية أخرى فإن الزيلعي اتبع أسلوباً آخر ، وهو تلقي العلوم مباشرة والجلوس أمام الشيخ والسماع منه ، ومن بين الشيوخ الذي تلقى منهم العلوم مباشرة:
١- الشيخ فخرالدّين أبي عمر الزيلعي صاحب شرح كنز الدقائق المذكور آنفاً
٢- القاضي علاء الدين ابن التركماني وغيره .
٣- ابن عقيل وغيره كما ذكر السيوطيّ في ذيل تذكرة الحفاظ .
وكذلك اتبع الشيخ الزيلعيّ طريقا أخرى وأساليب شتى مغايرة عمّا ذكرنا سابقاً في سبيل التحصيل العلمي وإنماء قدراته المعرفية ، ومن هذا الطرق، المطالعة والقرآءة الكثيرة الذي جعلته يكتسب خبرةً واسعةً وعلماً غزيراً . وممّا يرفع قيمة هذه الطريقة – أعني طريقة مطالعة الكتب وقراءة الصحف–كان الزيلعيّ يرافق في مطالعة الكتب لأحد العلماء الأجلاّء وهو الحافظ أبو الفضل ابن الحسين العراقي صاحب كتاب ( الألفية في علوم الحديث)، وكان بين الحافظين (الزيلعي والعراقيّ) تفاهم وتعاون ،حيث كان كل واحدّ منهما يعين الآخر ، وهذا مما أكده الحافظ ابن حجر العسقلاني في درره .
وينبغي أن نشير الي أن الحافظين الحافظ جمال الدين الزيلعي والحافظ أبو الفضل بن الحسين العراقي كانا يشتغلان في فن واحد، وهو فنّ علم التخريج الذي يعدّ من أهم الفروع في علم الحديث ودعائمه ، وهو ثمرته في قواعده المتينة ، حيث كان الحافظ جمال الدين الزيلعي يعمل في تخريج أحاديث كتاب الهداية للإمام الرافعيّ ، وكذا تخريج أحاديث الكشاف للزمخشري ، في حين كان الحافظ أبو الفضل ابن حسين العراقيّ يشتغلّ في تخريج أحاديث كتاب أحياء علوم الدين لأبي حامد الغزاليّ . وهذا مما صرح به الحافظ أبو الفضل العراقيّ نفسه وأخبره به أحد طلابه وهو الحافظ ابن حجر العسقلاني الذي قال مخبرا عن ذلك : ( ذكر لي شيخنا العراقيّ الذي كان يرافقه في مطالعة الكتب الحديثية لتخريج الكتب الذي كانا اعتنيا بتخريجها ، فالعراقيّ في تخريج أحاديث الأحياء والأحاديث التي يشير إليها الترمدي في الأبواب. والزيلعي في تخريج أحاديث الهداية وتخريج أحاديث الكشاف، فكان كلّ أحد منهم يعين الآخر) .