تمهيد :
إن قضية تجديد الفكر الإسلامي من المسائل الحيوية ذات التأثير البالغ في حياتنا، فما نراه اليوم من صخب وتجاذب وصراع في الساحة الإسلامية ما هو إلا تجليات لظاهرة التجديد الإسلامي.
إن تجديد اللفكر الإسلامي عملية لا تعرف التوقف لأن طبيعة الإسلام الخالد تستدعي هذا التجديد كضمانة أساسية لخلوده واستمرار دوره، بل إن ظهور المجددين من لوازم حفظ الله لدينه (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)[ الحجر/9 )إلا أن الإسلام لا يبقى على حال واحدة، وهو دائما في حاجة إلى حرَّاس وقيمين ومدافعين يردون عنه الغوائل وينمون فيه عناصر التميز والنهوض، وإن أعداء الإسلام تحركهم رغبة شديدة في استئصال الإسلام نفسه وليس المسلمين، لأنهم إذا قضوا على الإسلام فقد قضوا على أهله.
إن عملية التجديد ما هي إلا صوت أو أصوات مدوية تنبعث من داخل الأمة المسلمة تهيب بهم للعودة الصادقة لدينهم، وتفتح عينهم على مواضع الثغرات التي يجب سدها، وتنفخ فيه روح العزة واستعلاء الإيمان ، وتنفض عنهم غبار الجمود الفقهي الذي عطل التشريع الإسلامي عن مواكبة عصره وحل مشكلاته المتدفقة ،وتشحذ عزيمة أبناء الإسلام التي عراها الفشل ، وهذا يعني أن التجديد يأخذ صورا شتى يجمعها مصطلح (التجديد).
وفي عصرنا نجد شيوع مصطلحات مثل ( الصحوة الإسلامية) و( اليقظة الإسلامية ) مع أن المسلمين في تاريخهم الطويل شهدوا دورات للضعف والقوة، والنهوض والانحطاط ، والانتصار والهزيمة، لعوامل داخلية وخارجية، فمرة غزت عليهم جحافل الفلسفات الوافدة فتعكرت المنابع الأصيلة لهذا الدين ، وفسدت أذواق المؤمنين به من جراء ذلك، ومرة استباحت جيوش التتار الحاقدة بيضة المسلمين وتجرَّع المسلمون ذلا أنساهم لذة العيش، وثالثة استولت جحافل النصارى القادمة من عقر أوربا بيت المقدس ودام هذا الاستيلاء أمدا طويلا، وفي أحايين أخرى هبت عليهم لوثات البدع المزخرفة تتزيا –كذبا- ثوب الإسلام، وجثم عليهم سلطان الجهل، وقد أثرت في تعامل المسلمين مع مصادر دينهم ، ومنبع عزهم مما أسلمهم إلى الضعف ، وأطمع فيهم الأعداء وفي العصر الحديث غفل المسلمون عن الأخذ بأسباب الرفعة وعوامل النهوض فذلوا ورقي غيرهم لأخذهم لأسبابها .
وبتأمل يسير في مسيرة التاريخ الفكري والسياسي للمسلمين نجد أن أية نهضة للمسلمين من كبوتهم، واستعادتهم لقوتهم وحيويتهم، واسترجاعهم لأرضهم المسلوبة، وهويتهم الضائعة إنما كان يتم بسبب صيحة (مصلح) عظيم ، وهذا المصلح قد يكون شيخا زاهدا يردهم بقوة يقينه إلى الثقة بالله، والتوكل عليه، وقد يكون فقيها فذا حباه من قوة الاستنباط ما مكنه من ردهم إلى كتاب الله وسنة رسوله بعد أن ساد حياتهم الجمود في الفكر ، وقد يكون مجاهدا ينفخ الهمة الإيمانية العالية في نفوس أضعفتها الشبهات والشهوات، وأذلهم حب الدنيا وكراهية الموت فتعود الشجاعة في القلوب الخاوية، وتتقوى الإرادة الواهنة، فيستعيد المسلمون ما سلبوا من أرض وردوا الأعداء من بلادهم ( نور الدين زنكي، وعماد الدين زنكي ، وصلاح الدين الأيوبي) وقد يكون هذا المصلح صاحب سنة وأثر يدعو إلى ترك المحدثات التي علقت بمصادره عبر العصور والعودة إلى المنابع الأولى عهد الصفاء .
إن هذا المصلح أشرب في قلبه حب أمته، وأدرك مصدر خيريتها وعزها، فحمل هما عظيما لرفعتها، فهو يبحث عن مخرج من ضعفهم ، وعن فرج لكربتهم منطلقا من استعلاء الإيمان الذي يمنع الاستكانة لعدوها، والاستسلام له( ولا تهنوا ولاتحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين) [ آل عمران\139] ( إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله، وتلك الأيام نداولها بين الناس) [ آل عمران/140] (إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون)[ النساء/104]. بقيت الإشارة إلى إن هذا المصلح ( المجدد) له من سنة الأنبياء نصيب ؛ لأن مهمته في التغيير غالبا تكون شاقة ، بل في غاية الصعوبة وإن الطريق أمامه لن يكون مفروشا بالورود بل يتعرض من الابتلاء والمحن ما يتناسب وحجم مهمته وثقل مسئوليته.
إن مصطلح (التجديد) يشير إلى وجود اندراس معالم الدين، وانطماس آثاره ؛ فالتجديد بمثابة الكشف عن هداياته، وترميم ما بلي من بنيانه، وصقل ديباجته حتى يصير كالشمس ليس دونها غمام بينما تشير مصطلحات ( الصحوة) و( اليقظة) التي شاع استخدامها في عصرنا إلى سبق سبات عميق أو إغفاءة يسيرة ألمت بهم فأفقدتهم الوعي ، وشلت حركتهم عن مواكبة التاريخ، ولكنها بحمد الله لم تبلغ بهم مبلغ الموت ، ولم تؤد بهم إلى اجتثاث شأفتهم ، وغسل أدمغتهم بالكامل، بل مجرد إغفاءة أو نوم أعقبه ( صحو) و ( يقظة) بفعل (صيحة) مدوية أطلقها (مصلح) عظيم ، فإذا بالمسلمين يتململون ويفتحون أعينهم على جسامة التحدي الثقافي والعسكري من حولهم، ويبصرون ذاتهم الواهنة، ويرون عدوهم قد أحاط بهم من كل حدب وصوب ، وقد تسلح بأسباب القوة والمنعة، واستعد بأعتى أنواع السلاح والعتاد متضلعا من العلوم التسخيرية التي مكنته من تسخير قوانين الكون وسننه لصالح الحياة وتلطيف شدائدها…
هنا يبدأ المسلمون يتلمسون الطرق الصحيحة لاستعادة هويتهم المسلوبة، يتقدمهم في المسيرة نفر من ( المصلحين) وهؤلاء المصلحون بشر لا يحيطون علما بكل شيء وهم محكمون ببيئاتهم ، والمشاكل التي تؤرقهم، وتقض مضاجعهم ، وهم أيضا مختلفون في خلفياتهم وتخصصاتهم، وهؤلاء المصلحون مع اتحاد هدفهم العام وتناغم أغراضهم لكنهم يختلفون في تحديد أنجع الوسائل لتحقيق (النهضة) ويختلفون في الأولويات في زمن ( التيه ) وعهود الضعف ، وإذا اختلفوا في تفاصيل التشخيص ، فهم لا بد يختلفون في تفاصيل العلاج، بيد أن الذي يهوَّن علينا مشكلة الاختلاف هو أنهم جميعا يرمون إلى غاية واحدة، وهي تحقيق عزة الإسلام والمسلمين، وارتفاع شأنهم واسترجاع هيبتهم.
تأصيل قضية التجديد
إن الحديث عن ( التجديد) ليس بدعا في ثقافتنا ، وليس مصطلحا غامضا يستعصي عليك كشف جوانبه أو تحاول أن تمسكه فيتسلل من بين أصابعك كما يتسلل الماء ! بل إن ( تجديد) أمر الإسلام قديم قدم النبوة ، وتنبه لخطورة شأنها المسلمون في عصورهم الخيرة، أخذا من قول رسول الله –صلى الله عليه وسلم- في حديثه ” إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها ” والحديث أخرجه أبو داوود عن أبي هريرة في أول كتاب الملاحم، باب ما يذكر في قرن المائة، حديث رقم (4284، عون المعبود) وهو في سلسلة الأحاديث الصحيحة رقم (599). وفي عون المعبود:(7/356) ط، دار الحديث / القاهرة.
وقد تناول العلماء القدامى من شراح الحديث قضية (التجديد) فقد جاء في كلام الإمام أحمد –رحمه الله-إالإمام أحمد أشار إلى التجديد في خطبته ” الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم” كما نقل البيهقي في المدخل بسنده إلى الإمام أحمد: إنه كان في المائة الأولى عمر بن عبد العزيز، وفي الثانية الشافعي..) اهـ
معنى التجديد عند القدماء
وقال المناوي: ” يجدد لها دينها: أي يبين السنة من البدعة، ويكثر العلم وينصر أهله، ويكسر أهل البدعة ويذلهم ” قال العلقمي في شرحه : معنى التجديد: إحياء ما اندرس من العمل بالكتاب والسنة، والأمر بمقتضاهما ” اهـ وقال المباركفوري تعليقا على كلام العلقمي :” فظهر أن المجدد لا يكون إلا من كان عالما بالعلوم الدينية، ومع ذلك من كان عزمه ،وهمته آناء الليل والنهار إحياء السنن ونشرها، ونصر صاحبها، وإماتة البدع ومحدثات الأمور ومحوها، وكسر أهلها باللسان، أو تصنيف الكتب والتدريس أو غير ذلك. … ومن لا يكون كذلك؛ لا يكون مجددا البتة وإن كان عالما بالعلوم مشهورا بين الناس ” إهـ .
وبما أن مجالات التجديد كثيرة ومتعددة فقد تنبه بعض الأئمة إلى أن ( التجديد) لا ينحصر في شخص واحد في كل قرن ، بل المجتهدون قد يتعددون حسب مجالاتهم فيتآزون، وكلمة (مَن) في الحديث لا تعني مجددا واحدا، بل تعني عشرات، ومئات، وألوف المجددين، على طول الزمان وعرض المكان، والتجديد يكون لأمر الدين لا للدين نفسه ، قال في فتح البارئ ( 13/354) عند شرحه لحديث ( لا يزال طائفة من أمتي.. الحديث) قال النووي: فيه أن الإجماع حجة، ثم قال يجوز أن تكون الطائفة جماعة متعددة من أنواع المؤمنين، ما بين شجاع وبصير بالحرب وفقيه ومحدث ومفسر وقائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وزاهد وعابد، ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين في بلد واحد، بل يجوز اجتماعهم في قطر واحد وافتراقهم في أقطار الأرض، ويجوز أن يجتمعوا في البلد الواحد ، وأن يكونوا في بعض منه دون بعض، ويجوز إخلاء الأرض من بعضهم أولا فأولا إلى أن لا يبقى إلا فرقة واحدة ببلد واحد فإذا انقرضوا جاء أمر الله، انتهى ملخصا مع زيادة فيه، ونظير ما نبَّه عليه ما حمل عليه بعض الأئمة حديث ” إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها ” أنه لا يلزم أن يكون في رأس كل مائة سنة واحد فقط بل يكون الأمر فيه كما ذكر في الطائفة وهو متجه، فإن اجتماع الصفات المحتاج إلى تجديدها لا ينحصر في نوع من أنواع الخير، ولا يلزم أن جميع خصال الخير كلها في شخص واحد، إلا أن يدعى ذلك في عمر بن عبد العزيز، فإنه كان القائم بالأمر على رأس المائة الأولى باتصفافه بجميع صفات الخير وتقدمه فيها، ومن ثم أطلق أحمد أنهم كانوا يحملون الحديث عليه، وأما من جاء بعده فالشافعي وإن كان متصفا بالصفات الجميلة، إلا أنه لم يكن القائم بأمر الجهاد والحكم بالعدل، فعلى هذا كل من كان متصفا بشيء من ذلك عند رأس المائة هو المراد سواء تعدد أم لا. اهـ من الفتح .
وللبحث بقية.
إعداد: محمد عمر أحمد، باحث صومالي