لطالما ردد الإداريون والخبراء في مجال التنمية مقولة «وضع الرجل المناسب في المكان المناسب»، تأكيدا لأهميتها وكونها جزء لا يتجزء من مشروع التنمية وارساء قواعد الحكم الرشيد إلا أن الأمر في الصومال مختلف عما هو سائد في العالم، لأن هذه المقولة لا ترقى حتى إلى مستوى الشعارات العادية، بل يعتبر قائلها عند عامة الناس مجنونا ، أو غائبا عن الوعي القائم ، إذ تتجه عيون الرفق نحوه رثاءا لحاله أو اشمئزازا عن غبائه المفرط، في حين ان الحال بالنسبة لكثير من الساسة يبعث القلق واليأس، ووصل بهم الأمر لحد الكفر بابجديات السياسة ومفهوم الدولة الحديثة، لا يتورعون عن وصف تلك المقولات التي اثبتت التجربة أهميتها وضروريتها في بناء الدولة وتحقيق التنمية بشعارات رانانة وعناوين فضفاضة تجاوزها الزمن.
أتذكر عبارة قالها بعنجهية احد الساسة الصوماليين في حوار تلفزيوني قائلا: ” التمس العذر لمن يخدع بالوطنية وعمره أقل من 40 عاما، أما الذي يغترّ بها بعمر فوق الأربعين فإنه مصاب بالجنون وليس له إلا أن يودع في المستشفى العقلي”.أي وربي قالها وبكل فخر، متظاهرا بسمو الوعي وعمق الإدراك للقضية الصومالية بحذافيرها.
رحم الله أياما كانت الوطنية أسمى شعار يتباهى بها الموطن، ولم يكن احد يتوقع أنها ستتحول يوما ما إلى أعراض أو سمة لمرحلة متقدمة من الجنون، لكن لا غرو في ذلك عندما تشاهد الأوضاع الحالية التي تمر بها الصومال من اقصاء الكفاءات ووضع المثقف الصومالي في زنزانة القبيلة.
كيف لا وقد أصبح رؤساء العشائر يسيطرون على مقاليد صغائر الأمور وكبائرها بدءا من اختيار نواب البرلمان، مرورا بترشيخ الوزراء، وانتهاءا بتعيين الوظائف المتواضعة في الحكومة الصومالية، والغني عن التساءل ماهية تلك المعايير التي يتم من خلالها اختيار أو ترشيخ أو تعيين هؤلاء السادة من المسؤوليين الذي حملوا على عاتقهم مسؤولية انقاذ بلد عانى من الحروب والتشرذم طيلة ربع قرن من الزمن.
وهنا لست بحاجة الى جمع مزيد من البراهين والحجج بأن الكفاءة لا تعتبر من المقاييس المطلوبة لتولى المناصب العالية؛ وإلا فأني تكون لرؤساء العشائر تحديدها في حين الأغليية الساحقة منهم لا يعروفون المدرسة إلا اسمها، ناهيك عن الجامعات والدراسات العليا!!!.
وهكذا طال الفساد كل مجالات التنموية والإدارية والأمنية والفنية، فالمحسوبية والرشوة منتشرة لحد لا يصدقه العقل، ولا عجب في ذلك لأنها نتيجة طبيعة تأتي عند اقصاء الكفاءات ووضع معايير مغلوطة لأختيار الموظفين دون احترام متطلبات المهنة، وليتجلى الأمر أكثر دعني –عزيز القارئ- أسوق لك مثالين في أهم المؤسسات الحكومية وكيف تأثرت بالوضع القائم وتم اقصاء ذوي الكفاءات فيها.
المجال العسكري:
المهنة العسكرية من أصعب المهن وأكثرها أهمية بالنسبة للدول؛ لأن الجندي يعتبر الدرع الواقي للوطن ، وسياجه الحامي عند المحن، لذلك لا يمكن ان تستهين الحكومات الراشدة أمر الجانب العسكري، إلا أن الناظر في شأن الصومال اليوم وكيف تتم ترقية الجنود ، يرتجف قلبه خوفا على مصيرنا، لأن المحاصصة القبلية وصلت حتى النخاع ودخلت في المؤسسة العسكرية ؛اذ لا تتطلب ترقية بعض أفراد الجيش لمرتبة الفريق(الجنرال) إلى كثير من العناء والتفاني بالعمل، بل يتم ترقيتهم دون أي انجاز أو استحقاقات أخرى ، لأن عشيرتهم تضغط على الرئيس من اجل منح ابنائها في الجيش أ على مراتب المؤسسة العسكرية. وعندما سئل بعضهم الى اي حد تنتهي الممحاصصة القبلية؟! قالوا: من الرئاسة الى منظف المكاتب.
المجال الدبلوماسي:
المجال الدبلوماسي ليس أقل أهمية من المجال العسكري، لأن الدبلوماسية تعد من أهم أدوات المعاصرة لحماية مصلحة البلدان، لذلك تكون لها مراتب مثل الجيش تماما، وليس هنا انسان يقفز الى درجة السفير بصدفة ، اذ يبدأ الدبلوماسي الناشئ من أدنى درحة في سلك الدبلوماسي (السكربير الثالث) ويرتقي شيئا فشئا حتى يصل الى مرتبة السفير في رحلة طويلة عبر المراتب المختلفة (السكرتير الثاني والسكرتير الأول والمستشار ووزير الموفوض ثم السفير) صحيح أن هناك شخصيات يتم احيانا ترقيهم الى مرتبة السفير بصورة مفاجأة إلا أن هذا الأمر لا ينطبق إلا على اصحاب الإنجازات العظيمة من جنرالات الجيش احيانا وتأتي ترقيتهم على مرسوم رئاسي.
أما نحن فشأننا في تعامل الوزارة الخارجية والسلك الدبلوماسي التابع لها فحدث ولاحرج، لأنها ليس اكثر حظا من المؤسسات الأخرى، فاختيار السفير يأتي عبر المحاصصة، ولا يحتاج السفير عندنا إلى معرفة عمل السفارة والإلمام بواجباته كسفير ، فيتخبط حتى في أداء أول مرسوم (تقديم أوراق الإعتماد) الى رئيس الدولة المعتمد، وبعدها يدخل في عزلة تامة ، بينما كانت من أوجب واجباته أن يتواصل مع سفراء الدول الأخرى ويتولى بتسويق سياسة بلاده في هذا المحفل،وقس على ذلك في كل المجالات.
إلى هذا الحد وصل ضياع الأمانة ، ودفن مصير مجتمتنا تحت ركام الفساد والمحاصصة القبلية، وهذه هي الطامة الكبرى التي يحذر منها ديننا الحنيف، بل هي من امارات الساعة ، إذ يقول صلى الله عليه وسلم “إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة قال كيف إضاعتها يا رسول الله قال إذا أسند الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة.
والجلي أن عقول شعبنا الحبيب والمثقفين منهم في غياهب سجون القبلية والقصد هو اطالة الأزمة، واعطاء الفرصة للسماسرة كي يعم الفساد في ربوع الوطن ، واذا كانت هناك منظمات حقوقية دولية واقليمية تسعى لحقوق الأسرى واعادة الحرية لهم فليس هناك من يرفع شكوى ضد الحرية المسلوبة من المثقفين واصحاب الكفاءات، ذلك لأنهم في سجون معنوي إلا أنها أتعس سجون على مر التاريخ.
مع كل هذا نرفع أصواتنا عالية في كل المحافل بأننا في حاجة إلى عود الأمن والاستقرار والنهوض بالبلد وايجاد مخرج للأزمة التي عايشناها ردحا من الزمن، وهذا ضرب من الخيال وأعدها أبو العتاهية ضمن المستحيلات بقوله:
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها ان السفينة لا ترجري على اليبس