لا يخفى على من يتابع شئون الحكومة الصومالية أنها تتعثر في الطريق، وتتخبط خبط عشواء في إرساء قواعد الحكم الرشيد، ووضع اللبنات الأولى نحو دولة المؤسسات. فتصرفاتها على أرض الواقع إن لم تدل على فقدان السيطرة وزمام المبادرة فانها لا شك ترسل على الأقل إشارات سلبية وتؤكد على حيران الحكومة في إدارة شئوون البلاد؛لأنه إنتهى عام ونصف تقريبا على تولي الرئيس حسن شيخ إدارة البلاد، ولم ينجز حتى هذه اللخظة جزءا من حزمة الوعود التي قطعها للامة أثناء ((حملات الإنتخابات الرئاسية)) وبعدها، سواء في مجال الأمن والعدالة أو الإقتصاد والتنمية الإجتماعية،ويعود السبب في هذا الفشل مايلي:
١- غياب مبدأ فعل الممكن
الحكومة في وضع اقتصادي لا يحسد عليه، وما في ذلك من شك، تواجه مشاكل اقتصادية جمه تنوء بالعصبة أولي القوة، فهي غير قادرة على توفير ميزانية لكل مكاتبها داخل العاصمة وخارجها، بل تتعثر في ضمان رواتب الجهاز الأمني، لأن مصادر الدولة محدودة- بالرغم من وجود مؤسسات دولية بدأت تدفع رواتب موظفي الدولة- والمصارف كثيرة وهذا مبرر معقول لكن، لا يعني ذلك بأي حال من الأحوال أن تلك المشاكل هي التي تقف دون فعل الممكن و تنفيذ المستطاع الذي يكون نواة للمشروعات الكبيرة في المستقبل ويشكل أيضا فارقا كبيرا بين النظام الحالي والأنظمة السابقة، كما يكون إنجازا حقيقيا يحسب للنظام الجديد، بدلا من أن تنحصر أنجازاته في إثبات الذات، ونيل إعتراف الولايات المتحدة وعرض الإنجازات المنظمات التركية وشركات القطاع الخاص في البلاد.
فقد زار أحد المواطنين مكتب الجوازات قرب المطار في مقديشو للحصول على بعض الخدمات، فرأى مبنى الجوازات متداع، وماكتبه مبعثرة، لا يوجد فيها أثر التنظيم، غرفة أو غرفتين يجلس فيها العاملون والموظفون معا. لم يكن هناك مسؤول حقيقي ينظم أو يراقب سير الأعمال غير واحد يدخل مرة ويخرج مرة أخرى الي فناء المبنى وسماعة الموبايل على أذنه.
من المسؤول عن هذا الإهمال؟ لم لم يضع المدير الهيكل الوظيفي للمكتب وإن وضعها لم لم يتم العمل وفقه؟ والأعجب من ذلك رأى الزائر كوخ القهوجية داخل المبني، وحراس سيئوا المنظر والهندام. يجلس فريق منهم أمام البوابة وأخرون أمام القهوجية يأكلون القات، وحديقة مهملة لم تجد الرعاية المطلوبة منذ عدة سنوات.
٢- الانشغال بالنشاط العاجل غير الهام
يلاحظ المراقب بأداء النظام الحالي يجده مشغولا بإمور عاجلة غير مهمة، كالزيارات الإستعراضية، ومقابلة شيوخ القبائل، وفض نزاعاتهم القبلية، والمكالمات العابرة، فمثلا زار رئيس البرلمان الحالي، إديس أبابا وجغجعا والنرويج….. فما الجدوى من لذلك في هذه المرحلة، كان الأولى أن يجتمع مع القانونيين الصوماليين فيتباحث معهم القوانيين الضرورية لسير أعمال البرلمان والحكومة، فعندما تفتتح الدورة الجديدة للبرلمان بات الرئيس يملك حزمة من القوانيين واللوائح التي يعرضها لأعضاء البرلمان للإجازة وبالتالي يكون وضع هذه القوانيين وإجازتها إنجازا مهما يكتب في سجل البرلمان. بالله عليكم، فهل تحتاج مثل هذه الأعمال الي أموال كثيرة أم تتطلب الإرادة والوقت فقط؟ وهذان متوفران لدى رئيس البرلمان..
٣- غياب مبدأ المحاسبة
في هذه المرحلة، يعتبر كثيرون أنها من أنسب المراحل في إحداث تغيير فعلي في نظام الحكم في البلاد، ويبدأ هذا التغييرمن إقالة كل من لا يتمتع بقدرة عقلية وكفاءة علمية تتماشي مع رغبات وطموحات الشعب الذي يتطلع الي نهاية سريعة لهذه للأزمة المزمنة. كان ينبغي ان يكون هناك آلية لمحاسبة ومكافأة المسؤولين بحيث يعزل كل من تثبت فشله في أداء المهام المنوط به ويكافأة الآخرين الذين يواصلون ليلهم بنهارهم لإنقاذ البلاد والا ستنتهي فترة ولاية الرئيس محمود شيخ، ولم ينجز شيئا يذكر،ومن ثم يبدأ في نهاية فترة حكمه يبكي على ما فات، ولات حين مناص، كما فعل الرئيس السابق شيخ شريف.
وهذا الأمر ينطبق أيضا على مجالس سائر محافظات البلاد التى تقع تحت سيطرة الحكومة وعلى المسؤولين المقصرين في أداء واجباتهم، أو الذين تعودّوا على إثارة الغبار وإحداث الجعجة من أجل إثبات الوجود أو للإستهلاك الإعلامي- وكذلك النواب الغائبين عن جلسات البرلمان بدون مبرر معقول- فهولاء دائما تجدهم في كل المناسبات، تجدهم في المطار عندما يغادر الرئيس او رئيس الوزراء او رئيس البرلمان أو يعود احد منهم الي البلاد، تجدهم في حفلات التخرج وفي المؤتمرات الصحفية، وحتى خلال مناسة عرض مسلحين قيل انهم من حركة الشباب للصحافة، لماذا يشارك القائد العام لشرطة البلاد في مثل هذه المناسبات، أليس له عمل أهم من ذلك ،كالإتصال لنظرائه في العالم، ومراسلتهم وطلب يد العون منهم أوالتخطيط للمستقبل أو التفكير لإيجاد حلول للمشاكل المراكمتة في قطاع الشرطة؟ أم انه لايعرف ماهي واجباته كما يقول بعض المراقبين لأداء الحكومة الجديدة.
يوجد مثل هؤلاء المسؤولين الذين تعودّوا تضيليل الراى العام في جميع مرافق الدولة، يتحدثون أمام وسائل الإعلام أكثر من اللازم عن إنجازات وهمية، يتحدثون عن الإعتراف، ومشاركتهم في مؤتمرات دولية، كمؤتمر اقليمي لإختيار أجمل وأنظف مدينة في أفريقيا أو في الدول العربية! فما مغزى مشاركة هذا الوزير في مثل هذه المؤتمرات …! وآخر يعدّد إنجازاته الكثيرة، ويذكر من ضمنها مشاركته في مؤتمر لتحديد النسل في جنيف أو مؤتمر لتطوير كابلات الإنترنت في البحر!. اليس هناك أعمال كثيرة تنتظر هؤلاء المسؤولين، والشعب الصومالي بأمس الحاجة اليها ؟ولا ينبغي بأي حال من الاحوال الإشتغال بأمور تافهة على حساب الواجبات المهمة التي نستطيع من خلالها أن تقيّم المسؤول ونقول له إن أحسن أحسنت وإن أساء فشلت.
يسافر رئيس محكمة القوات المسلحة الي منطقة فلانة، فيفٍح فيها فرعا جديدا للمحكمة ويبقى فهناك ساعات يفض نزاعات، ويقضي أحكاما، ويسافر نائبه الي بلدوين، فتقف أمامه جموع من المتهمين فيحكم هذا بالإعدام وهذا بالسجن وآخر بالبراءة، ما هذا المهزلة ياجماعة ؟ فتلك ترّهات، وذر الرماد على العيون، ولا أساس لها في النظام المؤسساتي والعمل المهني ، وإن ساهمت في كبح جماح قوات الحكومة.
أين وزير العدل الذي تقع عليه مسؤولية إنشاء ووضع القوانين التي تنظم مثل هذه الأعمال المهمة في إرساء قواعد الحكم الرشيد؟ يبدوا أنه أهمل هذه المسؤولية وغيرها. تقلد وزير العدل الحالي- الذي أكن له وللفريق الذي يحكم البلاد حاليا،كل الإحترام والتقدير، تقلد هذا المنصب مرتين، فماهي الإنجارات التي حققها خلال تلك الفترتين؟ في الحقيقة يخيب آمالي وآمال كثير ممن تعلموا بيده في داخل البلاد وخارجه، وبدأنا نتسائل ماذا حل بهم؟ ام أننا نستعجل ولكنهم قادمون ولا يرضون غير الإنتصار الساحق، بطيئ ولكن أكيد المفعول.
كان من أهم ما كنا نتظر من وزير العدل، إرساء قواعد العدالة في البلاد من خلال سن القوانين ووضع الآليات المتعلقة بها وإعادة بناء وهيكلة نظام القضاء في البلاد من المحكمة الدستورية الي محكمة الديرة، لتحول هذه القوانين أن يكون رئيس محكمة القوات المسلحة قضيا في كل محافظات الجنوبية في البلاد. فهل عجزت الصوماليات أن يلدن قضاة تقوم بهذه المسؤوليات؟ في الجامعات السودانية وحدها، يتخرج في كل عام عشرات من الطلاب والطالبات من شتى القبائل الصومالية يحملون أعلى الدرجات والعلامات، متخصصين في شتى المجلات وخاصة الشريعة والقانون. لماذا لا نشغل هذه الأيادي الماهرة، واذا صار المبرر غياب الميزانية، أعرف أن كثيرا من هؤلاء الخريجين مستعدون للعمل بدون مقابل – وقد تعلموا هذه التضحية في السودان – حتى يستتب الأمر وتعود المياه الي مجاريها الطبيعية، لذلك ينبغي على الحكومة أن تضح هذه الدماء الجديدة في شرايين الدولة وتضع مفاصل الدولة في قبضة تلك القوة الفتية المثقفة، وبعدها نرى كيف تتغير الأمور.
لا ينبغي في القرن الواحد والعشرين أن تحكمنا العقلية السابقة التى نتهمها بالوقوف وراء المشاكل التى نعاني منها وكما يقول الإداريون: لاتستطيع أن تحل المشاكل بنفس طريقة التفكير التي خلقتها، وبنفس الأشخاص التي تسببتها. لكن أرى أن شيوخ القبائل والمسؤولين والساسة التي تحكم البلاد حاليا لا تريد أعطاء الفرصة للدم الجديد،بل يضع البعض منهم العراقل تلو العراقل أمام العقول المثقفة، كما قال لي أحد الشباب. ترشح هذا الشاب الذي يحمل شهادة الماجستير في علم الإجتماع للبرلمان الحالي فرفضوه، ولمجلس الوزراء فرفضت الجهات المعنية ذلك، يريد حاليا أن يكون محافظا لإحدى المحافظات في البلاد فيضعون العقبات أمامه ومن أهم أسباب الرفض وعدم قبوله، أنه صغير، وعمر هذا الشاب فوق الثلاثين. فهذا رأي العقول المتحجرة التي توقف الزمن بها عام 1991م.
الشعب يريد تغييرا حقيقيا ولا يريد في هذا المرحلة مسكنات أو كلاما معسولا، يبتغي صاحبه من وراء ذلك إثبات الذات وإثارة الغبار ومن ثم الإختفاء به، لا نقبل ذلك من القريق الحاكم الذي كان ولا يزال مثلا أعلى في العمل والإنجاز لكثير من الشباب الصومالين الذين تعلموا بايديهم وباقي المجتمع الذي إستفاد من خدماتهم. ولا يرضى هؤلاء لهؤلاء السير على درب السلف الطالح بل مستعدون لمحاسبهم وإنتقادهم بكل صراحة وشفافية.
ليس معنى ذلك أننا نعيش في كوكب غير كوكب الصومال، نبحث المستحيل ويثير الزوابع، بعيدا عن حقيقة الاوضاع المعقدة في البلاد.. لا، ونعرف الحقائق في الداخل، كالمشاكل الأمنية والتعقيدات القبلية والإجتماعية التي يمكن أن تعتري طريق الإصلاح الذي يدعوا اليه الحكام الجدد، لكن لنعترف أن كثيرا من هذه المبررات لم تعد موجودة، فقد زالت أو إختفت وتختاج من يتخلص الباقي منها ويقتلع الجدور من أساسها. إنتهى دور القبيلة المسلحة والزعيم الأوحد في ظل وجود قطبين أساسين في البلاد؛ حركة الشباب التي لا تقبل غيرها وأميصوم التي لا تريد الإفراط في إنجازاتها،ومن يعتقد أن القبيلة المسلحة لا تنفك تهدم، وشوكة زعماء الحرب لا تزال نافذة، فهو واهم، يخاف من الأشباح، ولا يريد العمل، ويبرر إخفاقاته بظروف أمنية وتعقيدات إجتماعية غير موجودة، وهذا هو المسؤول الوزير الذي يقضي جل ووقته في مكتبه المتواضع تحت حراسة مشددة وإذا خرج يذهب لمشاركة مؤتمر صحفي ليس له فيه ناقة ولاجمل أو مصاحبة الرئيس الي أسفاره أو لزيارة مبنى ترممه شركة تركية ويعقد مؤتمرا صحفيا مع أحد العاملين في الشركة.
أما المسؤول الذي يريد أن يصنع المستقبل لهذه الأمة الغلبانة، لا ينشغل بهذه التوافه بل تبدو منه أمارات الإنجاز، فهو يريد أن ينجز على الأرض شيئا خلال مدة زمنية وجيزة وهذا ممكن.ويقول حكيم:” الإنسان الذي يصمم على النجاح ويؤمن به ويسير في طريقه متفائلا- دون أن يربكه أو يضعفه الفشل – يصل غايته ويجد عونا كبيرا من عقله الباطن على تحقيق هدفه”.