العودة إلي مرفأ الذاكرة لها ألف إيقاع أوهكذا خيّل إليّ وأنا علي متن الطائرة التي هبطت علي مدرج مطار كسمايو الذي لبس أبهي الحلل بعد ترميمه والعناية الفائقة التي لقيها مؤخرا …إستقبلتني المدينة بطريقتها الخاصة وتفردها المميز وحنانها الأمومي الطافح، صيف رائع تجود به السماء دمع المآقي بحاتمية عجيبة، سحب مجلجلة رسمت علي جبين السماء قوس قزح بديع تداعب المزن وتلتف حولها بدفء ورومانسية موغلة في إنسجام الكون، أغصان وفروع مزهرة، وأوراق لولبية تعانقت وأتّحدت، وأشجار باسقات وكأنها تتسابق إلي عنان السماء، وهديل الحمام وتغريد القمرية يزين المكان ويضفي بهاء الزمان ألحان الحب والحياة، رعشات متواصلة للأعشاب التي غطت الأرض بخضرتها الداكنة، وأجواء بانورامية مترعة بألق الطبيعة ومحاسن القوم، وهدير الرعد الصاخب، والنضرة الواضحة علي الأفق تبدو وكأن كل شئ يحتفي بقدومي.
رذاذ المطر كان يبلل الطبيعة الخلابة، والثكنات العسكرية لقوات حفظ السلام التابعة للإتحاد الإفريقي والمروج الخضراء المحيطة علي المطار كإحاطة السوار بالمعصم جعلا المطار قرية إفريقية بإمتياز أو مدينة تشرف علي السهول الساحيلة المكتظة بالسكان في القارة السمراء، ومما زاد بهجة الأجواء وسحرية المكان الأمواج الهادرة التي لاتبتعد عن مسامعنا حيث المطار يقع علي مرمى الحجر للمياه الزرقاء وعلي حضن الساحل الغربي للمحيط الهندي.
المدارج القديمة والعماراة العتيقة للمطار وبدائية الوسائل المستخدمة فيه لم يعرقل سير الإجرآءت ولم يعوق كثيرا عن سلاسة الخدمة وسرعة التنفيذ، بل كان اليسر والسهولة عنوان الخدمة،نزلت عن سلالم الطائرة وأتجهت فورا إلي الداخل، وقفت شباكة جانبية هروبا عن الزحمة، حيث كانت الطائرة ملئية بالركاب الذين عادو إلي كسمايو في زمن العودة إلي العش الجنوبي، بعدما هدأت العاصفة وسكنت الحروب العبثية التي كانت تجري في كسمايو قرابة عقدين ونيف من الزمان.
في الداخل صالة متواضعة جدا رغم الجهود المبذولة من الحكومة الإقليمية، الشباك الأيسر من كابينات المطار كانت تجلس فتاة في مقتبل العمر فاتنة المحاسن كحلاء الجفون هيفاء القوام رشيقة القد إذا ابتسمت تجتاح في أوصالك حمى الإعجاب والتعلق عن قصد وبغير قصد، وبعد إبتسامة برئية ونظرات غير مركزة كانت قد انتهت الفتاة الإجرآءت اللازمة وخرجتُ إلي بهو المطار وتحت الأشجار الكثيفة المحيطة علي المطار، وهنا إلتقيت صديقي الذي كان في إستقبالي مع موكبه المهيب وحراسته الشخصية التي تقترب إلي فيلق عسكري كامل!.
خرجنا سويا من المطار والجمال يغفوا علي محيّا القوم والإبتسامة تطفوا علي جبينهم، وفي الطريق القصير بين المطار والمدينة أو قل إن شئت الغابة الإستوائية التي تربط نبض المدينة والرئة التي تتنفس المدينة بجسمها الرحب، كانت اللافتات الدينية بارزة والآيات القرآنية المزركشة علي اللوحات الجانبية تجذب الأنظار، قطعنا الطريق بالضحكات المجلجلة، والظرائف المعلبة، والطرائف الطائرة، والنكات التي عفى عليها الزمن، والإبتسامات العذبة، والألحان الكلاسيكية لرقصة الطانتو التي كانت تصدح مشغل الراديو للسيارة الفارهة التي كان زميلي يتبختر بقيادتها، ويقال أن سعرها يتجاوز أكثر مبلغ حصلته في حياتي وبأضعاف كثيرة جدا.
دخلنا في العمق السريالي للمدينة وبدت العاصمة الثالثة للجمهورية وكأنها مدينة للرفاهية والإستجمام لكثرة السيارات وبمودبلات مختلفة. عدم وجود رجال المرور المدربين وزحمة الطرقات وقلة النظام يفاقم الإختناق المروري للمدينة مما يصعب علي التنقل في عز الظهيرة، وقبل أن توغلت في المدينة تعرفت علي وجوه لم يندثر الزمن علي ملامحها، ورسبتُ أن أتذكر أشخاصا كنا نقسم الصحكة قبل البسمة إجتمعتنا الظروف وفرقنا الزمن ومسح النسيان أسمائهم في خانة الذاكرة، إقتربنا إلي العمق التجاري للمدينة الذي يبدو عليه تغيرات جذرية كثيرة.
واصلت السير نحو الهدف، هنا كان تذكار الحرية شامخا وبأنفة الصومالية الواضحة قبل أن تهدمه الحركات التائهة، وهنا كان رمز الأنوثة الصومالية وهي ترفع علم البلاد بادئا للعيان قبل أن تجرف عليه هوس الهدم، وهناك كان مجسدا للصداقة الصومالية الإماراتية كان يربض قرب حديقة الحرية قبل أن تشوه معالمه البارزة أعداء الجمال والتاريخ، شغرت فاهي من أجل هذا العبث المقصود لمعالم المدينة والدمار الهائل الذي لحق بعض البنايات التي كانت في الماضي عنوان الأناقة والجمال.
ولم يخلو المشهد التراجيدي بعض الإ نبهار الممزوج بالإستياء من أجل العشوائيات التي إجتاحت المدينة بطريقة مذهلة جدا، والكم الهائل من العمارات الجديدة التي بنيت في المدينة، وخاصة الأماكن التي كانت سياحية أو أثرية أو مناطق حيوية أو ثكنات عسكرية محظورة في الماضي، أمثال المنطقة السياحية الواقعة علي شرق القصر الرئاسي والثكنات العسكرية للبحرية الصومالية علي محاذات الساحل الشرقي للمدينة.
إقتربنا كثيرا إلي بيتنا الواقع علي مشارف مصنع اللحوم الرئيس للمدينة، أو بالأحرى قرب أطلاله وآثاره بعدما أصبح أثرا بعد وعين، رغم أنه لقي إهتماما من نوع خاص حيث تم ترميم المصنع مؤخرا وتحول من مصنع إنتاجي يصدر اللحوم محليا وعالميا إلي ثكنة عسكرية مهمة تتحكم التحركات العسكرية والمدنية لكسمايو!.
ذهب الصبا وتوالت الأيام وبهدوء وصمت تغيرت الملامح وتبدلت المعالم وشاخت الذكريات،! تجولت في الأحياء والأزقات المؤدية إلي بيتنا فلم أعرف سوى الطرق الترابية وأعمدة الكهرباء التي هرمت وتآكلت، والبيوت التي صدأت وقاومت الإندثار وزخات الرصاص وأزيز المدافع وغدر الزمان، ولولا الجدات الطاعنات اللآئي يجلسن خارج البيت وتحت الأشجار الوارفة لم أكن أتعرف عليه!، وبعدما دخلت بيتنا الذي عرفته بعد لأي وتعب وجلست فوق حصير الذكريات وفي وسط جدران الغرفة التي يعتبر الصندوق الأسود لسرى وإنكساراتي وأفراحي وأيامي الملئية بالذكريات التي قضيتها بين جنباته، كانت رائحة الماضى تملء أركانه، ورذاذ العطر الذي أهدتني الحبيبة قبل 8 سنوات عندما كان حبنا يافعا قويا تفوح عنه رائحة العشاق الفواحة مازالت ترطب الأجواء، وأوراق الحب التي طالما أنتظرتها في الأمسيات المتألقات قرب سوق ياسين وأمام الكافتيريا الوحيدة لحيّنا تجمل الغرفة وتجعلها ذات رونق وبهاء.
وعندما دخلت غرفتي التي عشت فيها وأمضيت فيها أنضر سنوات عمري وجدت فيها ذاكرة حية، مكتبة متواضعة كنت جمعتها بعرق الجبين أتلذذ بقرآتها، وقصاصات للورق وكراسات بالية وجدران تحمل تواريخا للأحداث كتبتها قبل عقد أو أكثر، حقائب مدرسية عتيقة وكتب ومراجع قرأتها كثيرا، ومجلات قديمة كنت أتصفحها وعلا علي أوراقها هالة صفراء بعفل السنين وأصداء الزمان، وصناديقا مغلقة ملئية بذكريات شجية وتواريخا مهمة تتعلق بالتكوين الجسدي والنفساني وحتي الوجداني، أسماء كثيرة للأصدقاء الذين مازال بعضهم نتواصل رغم بعد المسافة وطول الزمن وصعوبة الحياة وبعضهم طواهم النسيان أو أرداهم الموت، أحداث مهمة مرّت وولّت، وأخرى تافهة أقبلت بسكون وذهبت بسكوت، وأحداث عادية كانت كبيرة في عيني في ذالك الزمن، وعناوينا مهمة للدرس وأبيات من عيون الشعر كنت أعشق قرآتها وحفظها، ومعادلات حسابية صعبة أجلتها حين يصفوا الذهن وتنعش الذاكرة، ولكن تركتها في طيّ النسيان وفي غياهيب الزمن، وهمسات قشعريرية تذكرتها علي عجل وأنا أرتشف قهوة الصباح في مقعد الطفولة، ووميض الذكريات الذي يجعل مداد الحبر لكراستي في الأولى المتوسط وكأنها لم تجف، وشريط الذاكرة تجعل تغنجها في تلك الظهيرة وكلماتها الندية قبل بضعة ثواني وليس قبل عقد من الزمان.
وعندما جلست في الغرفة التي عهدت النشأة الأولي في حياتي وترعرعت فيها وكتبت علي جدرانها الحروف الأولي التي تعلمت من المدرسة تبحرت طوفانا من أقضية الذكريات، لأني عشت في هذه الغرفة الناعسة فوق ربوة صغيرة في مقتبل العمر وأيام الصبا الجميلة، عندما كانت أحلامنا بسيطة ولا تتجاوز الألعاب الطفولية وأرجوحة المدرسة، وسقف البيت وشباكها التي تتعالي كالسنديان لتقابل زرقة المحيط الصافي.
كما عشت بين جدرانه الأربعة وأنا لا افهم لغة الضاد إلا النزر اليسير، والمعاني البسطية لبعض الآيات القرآنية وبعض الأحاديث الشريفة، وشهد جدرانه بداية شيّقة ومتعبة لحكاية طويلة والفهم الأولي لتعابير اللغة وحروف العربية ومعاني المفردات، حينما كان أستاذي في اللغة والقراءة الحرة عبدالله دلب يجبرني قرآءة الكتب التي لا أفهمها شئيا، وعندما أبوح تذمري الشديد وعدم فهمي لها كان يطلب مني وبكل ودّية أن أجعل تحت كل كلمة مستعصية عليّ شطبة ليفسر ويزول عني الجهل والغباء المعرفي، وحقيقة لم أر في حياتي قارئا نهما مولعا بالكتب والقرآءة مثله، كما كان شعلة من النشاط والإخلاص، وأستاذا يحب العلم ويحاول رفع همتي وشحذ إرادتي، وأن أتذوق لذة القرآءة والنكهة الأدبية الفواحة لمواصلة المشوار.
كنت في مقتبل العمر ولم أفهم بعد قيمة القرآءة، لذا كنت أعبث الحروف وأسطر تحت كل كلمة خطا أحمرا ليكلّ الأستاذ ويملّ عن مواصلة المسيرة، ولكن بنظرته الثاقبة وعلمه الغزير وتفرسه القوى لشخصيتي كان يفسر الكلمات بطيبة قلب وأريحية كبيرة، وبمرور الزمن عشقت اللغة وتعلقت جمالها الباهر ورنق كلماتها وتناسب حروفها وتناسق معانيها وعذوبة مضمونها وجمالية محتواها، وأصبحت مدمنا للقرآءة حتي وصلت إلي درجة لا استطيع النوم ليلا ونهارا إلا بعد القرآءة ولو صفحة واحدة، وبعدها إرتقيت إلي درجة الكتابة رغم أني لم أتجاوز عتبتها والسطور الأولي لقصة التدوين.