بعد عقدين من الزمن كان الشعب الصومالي حزين النفس شاحب الوجه مكبل القدرات تائه الحال، تفرك الأمراض بطونه وتلتهم المجاعة أجساده وتمزق المدافع أعضاؤه، حتي اصبح هيكلا عظميا بلا لحم ولا دم كأموات يمشون علي أقدامهم، بدأت ثقافة الندم والتمجيد بالماضي تطبق أطنابها عليه، وأصبح الحنين إلي الماضي رغم جبروت الحكام وقسوة الجلادين والإستبداد الذي كمم الأفواه وصادر الحريات هو الخيار الأمثل لمعظم الشعب، بعدما فقد دولته وهيبته وبالتالي ضاع كيانه وفقد الإحترام والتقدير بين البشر.
وجأت الإفاقة المتأخرة بعدما سكب الصوماليون الملح في جرح كرامتهم بنزق وجنون قادتهم إلي الدونية والمجاعة والفساد، ونسج خيوط الأسي والألم علي صفح الذكريات في خضم الحروب ودياجير الصراعات العبثية التي عصفت كل المقومات، ودمرت الحضارة والتاريخ والمقدرات، وأهلكت الحرث والنسل وجرحت القيم والأصالة الصومالية وشوهت التربة والجغرافيا ولطخت العراقة والتاريخ.
تزداد الحسرة ويكثر تأنيب الضمير والبكاء علي الأطلال وبصرخة أكثر كلما يتغول السفاحون في إراقة الدماء وإذلال الشعب وإرهاقه مما لاطائل من ورائه، وكلما ارتكب السياسيون البلهاء حماقات سياسية تورث الشعب خيبات متتالية ومزيد من العناء والإهمال، اوعندما يقوم من إنتظره الشعب بقدومه لكي يخرج من أتون الحرب إلي فياح السلام وشاطئ السعادة بافعال غير مضمونة العواقب وحركات صبيانه لا تليق رجال الحكم والدولة.
ومع كل ومضة ظن الشعب أنها تغير حركة الواقع وتعيد أمجاد الماضي إلي سابق عهده، وكل حلم أجهضه عنجهية الحكام وغطرسة القادة، ومع كل أمل براق تبخر قبل أن يرى النور وكل أمنية عالية سطرها الواقع بالورق الكربونية، يرتفع ترمومتر الشقاء والمعاناة في جوف الشعب.
الشعب تجرع مرارة الهزائم وملّ عن السياسيات الجوفاء التي تحشر الناس في جوف اللهب ، أو في الزوايا الضيقة التي لا تستحق أن يكابدها الشعب المشقة من أجلها، ولوكنا نعرف مسبقا هندسة النتائج والحصيلة النهائية لخطواتنا الغبية وتصرفاتنا الساذجة ووبال ما قمنا بفعله في بداية سنة تسعين الميلادية، لم نكن نتجرأ أن نقوم بذالك الفعل المستهجن والحرب التي لم نكن نعرف ـ وإلي الآن ـ من سينهيها، ولم نكن نؤسس الجبهات المسلحة التي كان هدفها إسقاط الحكومة الصومالية وضياع أحلام الأمة بأي وسيلة سواء كانت مشروعة او غير مشروعة، ولو قامت اليوم مؤسسة إعلامية أو مركز ا للإستطلاع بآراء الصوماليين حول العودة إلي الماضي لأ قرعوا أجراس الندم، ولقال 99% أو أكثر من الشعب أنهم نادمون بما آل إليه الوطن، ولذرفوا الدموع من أجل الماضي الجميل.
ولكن يجب أن ندرك أن المشكلة ليست ان تبدأ الحروب أو أن تقع التجاذبات السياسية أوسوء التفاهم أو حيف في التعامل، أوالّا نجد العدالة الإجتماعية والتمثيل المناسب في الطيف السياسي والقبلي للمجتمع، ومن البدهي أن تمهد هذه الأفعال المشينة للمشاحنات والحقد الذي يتطور بدوره إلي الحروب والصراعات المسلحة، ولكن تكمن المشكلة عدم إيجاد أرضية مشتركة للتفاهم للأمة الواحدة، وأن يتقاصر العقل الذي أخترع مليون ألة وآلية للدمار والدماء والدموع أن يخترع آلة واحدة للتفاهم وآلية واحدة للتشاور والتناصح، ورؤية جيدة للخروج من عنق الزجاجة وفكرة نيرة للم الشمل ونبذ العنف والتحاكم إلي منطق العقل، وعدم خلق فرص مواتية وبئية صالحة للحوار.
ومعظم البلدان مرت تجارب مريرة وصراعات رهيبة ، ومعارك طاحنة أذكتها المصالح الضيقة والمحاولة البائسة لإستحواذ المراكز الأساسية لصنع القرار وإيثار السلطة والثروة، وصد الباب علي وجوه الآخرين، والممارسة في نهج الإقصاء وإبعاد الشركاء من كعكعة السلطة الشهية ومن إدارة البلد، وعدم تقاسم السلطة والثروة بشكل عادل تتجلي فيه العدالة والإحترام المتبادل بين المجتمع بكل أطيافه وشرائحه المتعددة.
وخاض الشعوب معارك أهلية طاحنة دارت رحاها فوق كل ذرة من تراب الأوطان التي حظيت بقسم وافر من الحروب الدامية، بسب المشاكل التي أودت حياة الملاين من البشر وشردت الملايين وبسببها ضاقت الأرض بما رحبت، وفي فترة من فترات الحياة بدا الوطن وكأنه قطعة من اللهب يحرق الجميع، وفي كل مرّة كان العدو الخارجي هو المستفيد الأكبرمن التناحر الداخلي والإقتتال الذي يضعف نسيج المجتمع ويغذي الجهل ويضرم نار الفتنة بين أفراد الشعب وفي أوساط الأشقاء.
وأكتوى الجميع نيران الأصدقاء وسهام الأقرباء، وبعد معاناة ونكد في الحياة وضيق في المعيشة وتردى في الأوضاع السياسية، أقر الجميع تحت وقع الراجمات وهدير المدافع وأزيز الصواريخ التي لم تستطع تغيير الواقع وخلق وضع جديد بموجبه تتغير أبجديات السياسة والحكم وخارطة القوى، ان لا منداحة من التعايش السلمي ووقف نزيف الدماء ووضع السلاح جانبا، والمساهمة الفعالة لتطوير البلد وتحريك عجلة الإقتصاد للوصول إلي الإكتفاء الذاتي وبناء سمعة الوطن بدون إقصاء أي طرف أو المحاباة أوالوصولية، والتعامل علي الشفافية والمبدأ المشهور “لاغالب ولا مغلوب”.
والجميع سواسية كأسنان المشط تحت عَلم ينتمي إليه الأمة وفي وطن يسع للجميع، وأمام قانون يصون الكرامة ويحفظ الثقافة والتاريخ ويحترم التعددية الفكرية والثقافية والعرقية- إن وجدت-، ويعزز القيم النبيلة والتداول السلمي للسلطة والإحتكام النزيه إلي صناديق الإختراع لمن يرغب أن يتربع علي عرش الوطن ويتلمس الكفاءة المطلوبة في نفسه.
وعلي ضوء هذا الفهم المتقدم للتعايش السلمي والمدنية والتفكير الإيجابي للعقول المنتجة تنشأ الدول والإمبراطوريات وينتزع الشعب الحياة الكريمة من براثن الموت الكريهة وفي رحم المعاناة، وتحت أنقاض الدمار وفي وسط البرك التي تفور دما قانيا لم يندمل جرحه بعد، وبهذا تقفزالدول كالمارد إلي رحاب الحياة والعيش الكريمة والعدل والمساة بين أفراد الشعب، مما يقود الجميع العدالة الإجتماعية والرفاهية الحياتية والكرامة الإنسانية.
ولكن من المؤسف جدا أن العقل الصومالي غير قادر علي تجاوز المحنة ، والإدراك أن الدراسة المستفيضة للواقع المؤلم والفهم الجيد لما مر عليه الشعب والإرادة الحقيقية والعزم الثابت للمصالحة الوطنية، وإنهاء كافة مظاهر العنف والعودة إلي حظيرة القانون ودولة العدل والمساواة هي التي تعيد البسمة إلي الوجوه وتعيد للوطن مكانته وللشعب كرامته المفقودة، ولكن ـ ومن المفارقات العجيبة ـ أصبحت هذه المفردات غير موجودة في قاموسنا الصومالي،! بل تشبه الفاظا حالمة في مدينة أفلاطون الفاضلة التي يعيش فيها نبلاء ومواطنون صالحون في كنف دولة يديرها فلاسفة وعباقرة القانون والعدالة القاصدة.
كم نتألم وتجتاحنا موجة عارمة من البكاء عندما نسمع أنين المفجوعين وعويل المصابين وبكاء الأرامل التي تشق الجيوب فوق جثة عائلها الوحيد في مشهد ميلودرامي حزين، وكم نتألم عندما نري إنسداد الأفق في السياسة الصومالية وإلهاء الشعب بخطب أفلاطونية فارغة ذات بلاغة زمخشرية لا تطعم الجائع ولا تكسي العاري ولا ترفع الظلم عن المظلومين ولا تحسن مستوى المعيشة ولا تساهم ضبط الأمن وإعادة هيبة الدولة وبسط نفوذها في قلوب المواطنين قبل الوطن، وكم نتألم بشدة عند قرآتنا للخارطة السياسية الصومالية التي تسير في منطقة كثيرة الألغام بلا وعي وبدون معرفة، سوى الإبتسامة العريضة والحس البارد والرقص علي الرماد وفوق الأشلاء المتناثرة والأجساد الهزيلة والبطون الضامرة، ورشف القهوة علي شفير الهاوية وهز البطن فوق جرح الوطن وجثة البسطاء.
نشعر بمراراة قاتلة وغصة في الحلقوم ومغص في المعدة ووخز في الضمير عندما نشاهد إغتيال الأمل في رحم الغيب وإجهاض الحلم قبل تكوينه، وإنشغال القادة بأتفه الأسباب والجنوح نحو تعميق الجراح وزيادة الرصيد المادي وإيداع عرق الأمة ولقمة الجائع في بنوك العالم، والسباق المحموم لرأس الهرم في تقسيم الأرض وأسثمار ه لصالح جهات مشبوهة .
تعتصرني النوستالجيا فأتلوي كالملدوغ حينما أنظر إلي الدمار الحاد الذي طال جميع مكونات الوطن! وكأنه ملك للشعب السومري الذي درسنا تاريخه في بطون الكتب او الشعب المادري، مما اوجب – وفي منطق غريب وتفكير ينم عن قصر في النظر وخواء في الفهم وسطحية في التفكير وسذاجة في الرؤى- تشويه معالمه وإبادة سكانه ونهب خيراته حتي ينقرض الوطن ويتبع لشعبه المغلوب.
أشفق لغباوة هؤلاء القتلة الذين يهدمون الوطن وكأنهم لم يستظلوا بسمائه ولم يقلوا بأرضه ولم يشبعوا بخيراته ولم يتنفسوا بهوائه الطلق ولم يرتوو بمائه العذب الزلال!، وتكثر شفقتي ويغوص الألم في لب عظامي حينما أري شبابا في عمر الزهور يقتلون المواطنين بلارحمة ويغتصبون الحرائر بلا شفقة ويبصقون الحضارة بلا حياء، بل يواجهون الموت بحماسة منقطعة النظير وجرأة نادرة تدبر دمارا حادا تعف الوحوش عن فعله!، وهم يحلمون الإسترخاء في أريكة الجنة والورود في حوض المصطفي (ص) في منطق غريب ومعاكس للحقية ومغاير للواقع!
وعندما أنظر الإنفجارات التي تزهق الأرواح وتفني سواعد الأمة وقادة الغد، وتجعل الرصيد الشعبي والسند الحقيقي لكل أمة وقودا للصراعات وأشلاء متناثرة وأعضاء متقطعة وأنفاسا طاهرة تصعد إلي بارئها، بسبب الإنفجارات التي تحمل البصمات الوراثية لشباب لو وُجهو إلي الدروب الصحيحة وأخضعو لفحوصات فكرية كثيرة وجلسات تفاكرية ونقاش مهذب وعلاج مناسب، لأصبحو اليوم بناة الوطن ورواد المعرفة وليس هادمي صرح الحضارة ومفتتي طوب التاريخ.
أشعر بأكتئاب ونوبات من الإحباط من الدرجة التاسعة عندما أري وأشاهد بأم عيني سياسيين وقادة ليسو علي قدر المسؤلية، بل هم في الحقيقة وجوه تحولت إلي أقنعة فاسدة لا يتعدى فكرهم في الرومانسية السياسية والهرطقة الدبلوماسية، ولايحملون أدني فكرة عن الدولة وسياستها وقيادة الشعوب والحكم الرشيد، ومع ذالك يتمتعون بحصانة دبلوماسية لا يفقهون معناها وألقابا رنانة إفتقدت مضمونها ومحتواها في متاهات جنونهم وصخبهم وهم يتقلبون بكرسي وثير ويتصدرون المشاهد ويديرون أكثر الملفات سخونة وأكثر المناصب أهمية وأشدها حساسية في جسم الدولة الصومالية المنهك.
أكره من صميم قلبي كل من يحمل لقب العسكري ورجال الأمن الذين في الحقيقة ليسو سوى مرتزقة وشلة فاسدة فاقدة الوعي والضمير، وتزيد كراهيتي لهم عندما أشاهد أمتي وهي تحولت إلي سرادق للعزاء وناد كبير للمعاقين والمشردين وجريحي الوجدان، بسبب ضعف المنظومة الأمنية وهشاشة القوى المسلحة وجهل مارشالات الجيش مع كثرة نياشينهم المخبته وأوسمتهم الفاشلة.
أقرع اجراس الندم للماضي الفخيم وأصرخ ضد الخلايا النشطة لإفساد الوطن والمسئين لتاريخه الذين يجيدون ذرالرماد في العيون ولعبة طق الحنك والسير باتجاه الغلط ووضع الحل في كف عفريت وكب الزيت في نار الكرامة وإضرام لهيب الصراع المتفاقم يوما بعد.
وفي قمة صراخي الهستيري المؤلم أترحم علي رواد الصحافة والإعلام في الزمن الجميل، وممن كنا ننتظر بصوتهم العذب وإطلالتهم الرائعة عبر الأثير يوميا، عندما أرى بعض المنسوبين في السلك الصحفي وقادة الإعلام الذين دأبو زيادة الحزازيات القبلية والجهوية والصيد في المياه العكرة، واستخدام المهنة كخمير عكننة للسياسة القبلية والإغتراف من قاموس بذئ يفوح منه رائحة البالوعات ودورات المياه.