الأزمة السودانية،  “رؤية خليجية”

أرسل لي أحد الأخوة السودانيين الرسالة التالية هذا نصها : “ما الذي يدفع دول الشرق إلى إستقبال حميدتي؟ كينيا أوغندا إثيوبيا وغيرها؟ الجميع يعلم يا دكتورة أن الجيش السوداني اليوم هو الجناح المسلح للأخوان المسلمين، هذه الجماعة التي سعت إلى تقويض أمن هذه الدول، السودان مؤثرا  أفريقياً، ولو عاد الأخوان سيخربون المنطقة وقادة الدول يعلمون ذلك”

ورغم ضيق وقتي إلا إنني لم أستطع تجاوز تلك الرسالة، أولاً ، ليقيني بأن هناك الكثير من النقاط التي يجب إيضاحها وتفنيدها إعتباراً ومراعاة لحالة الإحتقان الشعبي في السودان التي تجاوزت مرحلة الغضب الإنتقامي إلى مرحلة لا يمكن وصفها  وإن كان ممكناً تحديد وجهتها والتي قطعاً لن تكون شبيهة بتلك الوجهة التي عهدتها كافة الأطراف في سودان ما قبل ٢٠١٩ ، ولا لوم على الخرطوم في ذلك فحجم النيل من كينونة الدولة السودانية التي شاركت به الأطراف الداخلية وداعميها من الخارج أكبر من أي محاولة للغفران، وثانياً ، تجاوزاً لموقف القيادات السياسية الخارجية المنخرطة في المشهد السوداني والتي قطعاً لا يمثل موقفها موقف الكثير من شعوبها التي ما زالت تجهل تعقيدات المجتمع السوداني الداخلية ذات الأبعاد التاريخية والعرقية والدينية، ولا تعلم عن السودان إلا إسمه ولم تتعرف على ملامح أرض المقرن إلا من خلال أطراف دأبت منذ إستقلال السودان ١٩٥٦ حتى هذه الساعة إلى تصدير صورة تغالط الواقع السوداني وتسفه تاريخه العريق  وتنتقص من تأثيره السياسي والديني في القارة الأفريقية ولم تكتفي بذلك بل وصل الأمر بها إلى إغراق المكتبات والمؤسسات التعليمية الخليجية بمؤلفات تجبر القارىء الخليجي “تحديداً ” على رؤية السودان وأفريقيا كلها من خلال منظورها الخاص الذي يتوافق مع مصالحها وهذا هو الفخ التاريخيّ الذي وقعت فيه القيادات السياسية الخليجية وأن الأوان للخروج منه.

عودة إلى موضوع الرسالة التي أرسلها لي أحد الأخوة السودانيين إختصرت ردي عليها في النقاط التالية:

تحية طيبة الأستاذ الفاضل، جميل أن تطرح تساؤلاتك في إطار علمي، ودعني أجيبك عنها بالتفصيل ولك حق الرد فأنا شخصيًا أرحب بالنقاش الموضوعي وأحترمه حتى وإن إختلفت معه.

‏1️⃣ الجولة التي قام بها قائد مليشيا ⁧‫الدعم السريع‬⁩ لبعض دول ⁧‫الشرق‬⁩ الإفريقي مؤخراً هي جولة تسويق وترويج لشخص حميدتي، جولة مدفوعة الثمن لمن إستقبلوه ولكنها قطعاً لا تؤسس لمرحلة سياسية قادمة في ⁧‫السودان‬⁩ وهذه حقيقة يدركها ⁧‫حميدتي‬⁩ رغم تدني وعيه السياسي، ولا تحتاج لدليل ليدركها أقل مواطن في تلك الدول ناهيك عن قيادته، فالرئيس الأوغندي موسفيني رغم أنه ينفي دوره في تسهيل وصول العتاد العسكري للمليشيات إلا إنه في ذلك شأنه شأن الرئيس التشادي محمد كاكا الأعلم بخطر تصاعد دور تلك المليشيات في المحيط الجغرافي الإفريقي، الفرق بين موسفيني وكاكا أن موسفيني مطمئن بعدم وجود حاضنة شعبية مؤيدة لحميدتي في الأراضي الأوغندية ولكن مشروع حميدتي السياسي العابر للحدود سيسمح للعرقيات الإفريقية المستميته بالمطالبة بمشاريعها التاريخية كدولة “التوتسي الكبرى” و “الفولاني العظمى” وبالتالي ستعيد كمبالا حساباتها الأمنية ورؤيتها المستقبلية لعلاقتها بالخرطوم، فهي في النهاية مرتبطة أمنياً وإقليمياً بدول البحيرات التي تمثل عمقها الإستراتيجي، ناهيك عن تدهور الأوضاع السياسية في كمبالا وتصاعد سيناريو تغيير نظام الحكم فيها في ظل تنامي قوة المعارضة “بوبي واين” وأتباعه والتي باتت تلاقي دعماً استخباراتيًا غربياً يسعى لإحتواء ذلك حتى لا تخرج الأمور عن السيطره في البحيرات كما خرجت في ⁧‫الساحل‬⁩ الإفريقي.

‏2️⃣ أما ما يتعلق بأديس أبابا فهناك “تخوف تاريخي” منذ أيام الزعيم الراحل “مليس زيناوي” من وجود نظام إسلامي حاكم في ⁧‫الخرطوم‬⁩ وتسبب ذلك بتوتر العلاقات بين الطرفين سرعان ما إنتهى، فأثيوبيا وإن كانت أبدت الحذر في التعامل مع نظام الإنقاذ الحاكم في السودان إلا إن ذلك لم يمنعها من التعامل معه والإنخراط في مذكرات تعاون بدليل موافقة الخرطوم عام ٢٠١٨ على إعطاء ⁧‫اثيوبيا‬⁩ حصة في ⁧‫ميناء‬⁩ بورتسودان لتنويع منافذها، أما ما يتعلق بزيارة حميدتي الأخيرة لإثيوبيا فأراها جاءت في إطار المقايضة السياسية “دعم حميدتي مقابل دعم دولي وإقليمي لحصول إثيوبيا على منفذ بحري على ⁧‫البحر الأحمر‬⁩”

‏3️⃣ آما نيروبي فشأنها في ذلك شأن أديس أبابا، الفرق أن كينيا لا تفتقر لإطلالة بحريه تعزز دورها ولكنها تفتقر للدور السياسي الفاعل في إفريقيا بإعتبارها أحد أهم العواصم الأفريقية الصاعده والأكثر تقدمًا، ويكفي أن يستشعر المرء منا بالتطورات السياسية المقبله على السواحل الكينية في ظل تصاعد موجة الصراع الدولي على المحيطين الهندي والهادىء، والتي فسرت لي شخصياً كافة الأنشطة التي قام بها سابقاً الجنرال الفرنسي “Stéphane Dupont” القائد السابق للقوات الفرنسية في جيبوتي، صاحب المقوله الشهيرة

‏  ” De Djibouti à l’Afrique de l’Est, un rêve devenu réalité”، وتعني باللغة العربية “من جيبوتي إلى شرق إفريقيا، حلم يتحقق” والتي أصبحت متداولة بين منتسبى الإستخبارات العسكرية الفرنسية المرابطين في جيبوتي منذ سقوط نظام الإنقاذ في السودان (ونستطيع أن نستشف من ذلك الكثير من المقاصد والأبعاد الأمنية لرؤية تلك الأطراف للمؤسسة العسكرية السودانية).

‏4️⃣ أما ما يتعلق بالسودان فمن الظلم أن أحكم على منتسبي مؤسسة وطنية بأنهم جميعهم تابعين لتنظيم الإخوان، فالمؤسسات الوطنية في جميع أنحاء العالم تجد من منتسبيها من يدعم حزب على حساب آخر ومن يعتنق أيديولوجيا قد لا تتوافق مع أيديولوجيا أقرانه وهم في ذات المؤسسة ولكن ما يجمعهم هو ⁧‫الوطن‬⁩ وخدمته، فهل من المنطق أن أستبعد وأقصي مواطنين من خدمة أوطانهم لمجرد أنهم ينتمون لرأي أو لأيديولوجيا لا تتوافق مع الأغلبية؟ هل هذه هي المواطنة الحقيقية التي سيتم تكريسها في شعوب حيه إستوعبت فكرياً وسياسياً كينونة الوطن!

‏5️⃣ نظام الإنقاذ حكم السودان ثلاثون عاماً وأعلم ما فعله في السودان وفساده كبير لا يمكن تجاوزه إلا بإجتثاثه هذا صحيح، ولكن الإجتثاث لايكون من خلال مليشيا حميدتي وأذرعه الداخلية والخارجية، ومن ناحية أخرى خلال حكم الإنقاذ الممتد لماذا لم يتقوض الأمن الإقليمي في ذلك الوقت “وأنا هنا أتحدث عن الآمن الإقليمي”الإفريقي” والعلاقات السودانية الإفريقية” !! فلنكن منصفين في إبراز الخطايا والمحاسن لكافة الأنظمة حتى وإن إختلفنا معها، فلا يوجد نظام حاكم ملائكي منذ تاريخ البشرية حتى اليوم ولن يأتي، كل نظام حاكم في هذا ⁧‫العالم‬⁩ له أخطاؤه التي لا تغتفر وله محاسنه التي لا تُنسى.

‏6️⃣ القضية في السودان الآن ليست قضية كيزان وفلول و ⁧‫البرهان‬⁩ وحميدتي، الوضع في السودان يفرض أن يكون الشعب كله مع الجيش الوطني ضد هؤلاء المغول، السودان ليس الكيزان، والجيش هو جيش السودان ليس جيش البرهان، ثورة ديسمبر ثارث ضد الظلم في حق المواطن وليس ضد بقاء المؤسسات الوطنية، فبقاء الدولة السودانية مرتبط ببقاء تلك المؤسسات وبالتالي يجب الإتحاد مع الجيش الوطني ودعمه لبقاء الدولة السودانية وبعد ذلك يتم تطهير مؤسسات الدولة من الإخوان والكيزان والجن الأزرق، القضية قضية وطن وليس قضية أشخاص.

د.أمينة العريمي 

باحثة إماراتية في الشأن الإفريقي

د.أمينة العريمي

أمينة العربمي باحثة إماراتية في الشأن الأفريقي
زر الذهاب إلى الأعلى