السلطان يوسف علي ومنطقة مجريتنيا…الحلم الذي كاد أن يتحقق (6-10)

 يوسف علي وأيطاليا (1)

ضبابية المشهد السياسي في مجيرتينيا  في الفترة التي أعقبت إعلان الحماية الإيطالية عليها وصعوبة إدراك مدى تأثيرها سلبيا على العملية الاستعمارية،  إضافة إلى  الخلافات المعقدة والمتجددة ذو صبغة عشائرية ومناطقية في مشهد تتداخل فيه المصالح الشخصية والمؤامرات السياسية، والمطامع الخارجية، والسيطرة والنفوذ، يقف خلفها ويغذاها من وراء الكواليس يوسف على” كينديد” من هبيو ، الرجل الذي صنع سلطنة وثروة من العدم، عبر شبكة من أقربائه وشخصيات متنفذة  تربطه بمصالح تجارية ومالية في علولا مسقط رأسه والتي يعتبرها من ممتلكاته الخاصة، وضع هذا المشهد إيطاليا أمام اختبار صعب، وازدادت الأوضاع صعوبة في ظل اقتراب المعارك بين بريطانيا  والسيد من حدودها (مجيرتينيا وهبيو) وحتمية المشاركة في القتال ضد  السيد محمد عبدالله حسن الجار غير المرغوب ويخشاه جميع جيرانه.

إن الأزمة المجيرتينة الإيطالية المتعلقة بتهريب السلاح من جيبوتي عبر مجيرتينيا إلى السيد محمد عبدالله حسن استمرت أكثر من سنتين وتطورت  بشكل سريع، لتُحوِّل الوضع  ليس فقط نحو مزيد من التعقيد داخل المنطقة التي يشارك فيه القادة السياسيون ورجل الشارع في صناعة المشهد ، ولكن أثرت أيضًا بالسياق الجيوسياسي المحيط بهم، حيث تمثل دور الجهات الدولية مثل بريطانيا وايطاليا وفرنسا، اللاعب الرئيسي والقوة المحركة لقضايا المنطقة حسب مصالحها بإعتبارها تتحكم قواعد اللعبة السياسية والعسكرية في المنطقة. وإيطاليا تعتبر العنصر الأضعف في هذه القوى، فهي تحاول البقاء في الملعب وبأقل كلفة ممكنة سياسيا وعسكريا، وإظهار نفسها أنها ما زالت تملك زمام المبادرة، وتستطيع مواجهة التحديات الصومالية رغم تجربتها المؤلمة فى إريتريا وإثيوبيا. أما بريطانيا فكانت تسعى إلى توريط إيطاليا  في بوتقة الحرب مع السيد محمد عبد الله حسن، لكي تخفف عنها الضغط العسكري الذي تواجهها من قبل ثورة السيد الذي يعتمد إمداده العسكري الأسلحة التي تأتي عبر مجيرتينا.  وهكذا وجدت إيطاليا نفسها فجأة وبلا سابق إنذار في موقف لا يحسد عليه،   فهي من ناحية، تقع عليها المسؤولية السياسية والأخلاقية في المحافظة على سلامة محمياتها (سلطنة هوبيو ومجيرتينيا) من تهديدات السيد والحبشة وبدون تدخل عسكري. ومن ناحية أخرى تتوالى عليها شكاوي بريطانيا حول استمرار تدفق السلاح على مجيرتينا ووصوله إلى السيد عبر هذا الإقليم. وبالتالي كان عليها إيجاد حلول يرضى الجميع إما بالمال والسياسية أو بالقوة. وبالطبع ستختار  الخيار الأول والذي يضمن لها حماية محمياتها وتنفيذ التزاماتها تجاه بريطانيا على ضوء اتفاقية وتفاهمات  برلين وبروكسل، ومن بين بنوده منع بيع وإدخال السلاح في محمياتها أو تهريبه إلى خارج مناطق نفوذها -وطبعا منع وصوله إلى السيد- فضلا عن ايجاد حلول للمشاكل الحدودية بين ما بات يعرف بالصومال الإيطالية والحبشة.   نظرا لعجزها واستحالة النزول على الأرض في تلك الفترة بالتدخل العسكري وفرض سيطرة ميدانية ، لجأت أيطاليا إلى اللعبة التي تتقنها؛ الحيل والخدع الدبلوماسية، وتجنب الصدام المسلح المباشر، كما سنرى في الفقرات القادمة. 

أظهر يوسف على كينديد براعة فائقة في تعامله مع الكبار واستطاع التجاوز بكل ثقة وجدارة أكثر المواقف صعوبة التي واجهته من قبل الأوروبيين والصوماليين على حد سواء. فاتصالاته الطويلة والمتكررة بالأوروبيين في عدن وزيلع وبربرة اجتذبت إليهم، وعلم بمكره الطبيعي وحسه العملي انه بموالاتهم وصداقتهم يستطيع كسب كل شيء  وبمعاداتهم يخسر كل شيء، حسب Gustavo chiesi.

حاول يوسف كسب ودّ إيطاليا، ووضع نفسه تحت تصرفها وأبدي استعداده بمساعدتها وخدمتها  في أي مهمة تريدها بغية الحصول على السلاح والمال وبسط سيطرته العسكرية والسياسية على مناطق جديدة، وهو من أقنع بدهائه ومكره كذلك السلطان عثمان محمود قبول الحماية الإيطالية، ولم يكن أمرا سهلا و استغرقت أشهرا لكي يقنع أن ما سيربح أكثر مما سيخسر. ولا ننسى أيضا أن سلطان عثمان محمود ومستشاريه لم يبدوا حماسة في التعامل أو التعاون مع أيطاليا مما أدى إلى تدهور العلاقات بين إيطاليا وسلطان محمود في وقت لاحق، وليس مستبعدا أن يد يوسف على كينديد الخفية أججت النيران من تحت الرماد ووقفت وراء تدهور العلاقة بين الطرفين، ورفض عثمان محمود أو تراخيه عن تنفيذ أهم بنود اتفاق الحماية وهو منع تجارة السلاح وإدخاله في مجيرتينا أو بيعه للسيد محمد عبدالله. 

طبيعة العلاقة بين يوسف على كينديد والايطاليين كانت سياسية في المقام الأول ولها أيضا بعدين،  البعد الأول ازاحة خصمه وغريمه عن الساحة والرجوع إلى “علولا” والتربع على عرش سلطنة مجرتنيا الموحدة مع ضم سلطنة هوبيو لها  ومن ثمّ السعي إلى تحقيق الهدف الأكبر والأهم والحلم الكبير وهو أن يصبح يوما سلطانا على كل الصومال، والبعد الثاني هو الحصول على الغطاء السياسي الإيطالي وحمايتها من أعداء الخارج مثل إثيوبيا التي تجاوره من الغرب (اوغادينية)، ومن السيد محمد عبدالله حسن والدراويش من الشمال، ولا يمكن كذلك إغفال البعد المالي والعسكري.  لم يكن يوسف دمية تحركه إيطاليا بيدها حسب رغبتها. صحيح أنه قدم لإيطاليا خدمة جليلة ولكنها لم تكن  بطبيعة الحال بلا عوض أو ثمن، فخدمته لإيطاليا كانت تحقق له مصالح سياسية وعسكرية ومالية معتبرة يوظفها لبلوغ أهدافه.  والجدير بالإشارة إلى أن ولاءه وإخلاصه لإيطاليا لم يكن نابعا عن حب وحسن نية وإنما نفاقا و مكرا وخداعا وهي حيل يتقنها أيما إتقان كالثعلب البري في الروغان، فعندما تعارضت مصلحته مع مصالح بريطانيا وإيطاليا، عارضها ورفض الانسياق والإذعان، وتنفيذ ما اسند اليه، وقد أثبته الحوادث والوقائع ذلك،  مثل ما حدث في الحملة البريطانية الثالثة ضد السيد محمد عبدالله حسن حين طُلب منه قبول نزول قوات بريطانية على هبيو والمشاركة عسكريا وتجهيزها لوجيستيا، لتطويق السيد من كل الجهات،  ورفضها وكلفته كثيرا وكانت سببا في نفيه إلى إريتريا، حيث بقي هناك ثلاثة أعوام، وسنذكر تفاصيلها لاحقا. والإيطاليين كانوا مدركين ذلك ولكنهم كانوا مجبورين بالتعامل معه والتغاضي أو غض الطرف عن بعض تصرفاته وتلبية رغباته وإن كانت مزعجة. وأبدى كثير من الموظفين الإيطاليين  مخاوفهم وعدم ثقتهم بيوسف، والشك في مدى صدقه وإخلاصه وولائه لهم مع إقرارهم بأنه مفيد لهم ولقضاياهم بقدر ما يستفيد هو منهم،  ومنهم القنصل بستالوسا الذي تعامل مع يوسف في مهمات صعبة وقضايا شائكة، ليس لكونه حليفا مخلصا ولكن لأنه(بستلوسا) يعتقد علي أنه يمكن استخدامه وتوظيفه من أجل القضية الإيطالية كقوله: يوسف على كينديد كان مفيد لنا ويمكن أن يكون ويستمر كذلك في المستقبل إذا تعاملنا معه بصبر ولباقة، ونلتمس له العذر في أخطائه،  ونقوِّمه رويدا رويدا. انتهى. وأظهر بستالوسا دفاعا  وتعاملا حمائية زائدة تجاه سلطان هبيو معتقدا أنه عنصر أساسي لتوازن القوى في المنطقة الشمالية في الصومال. وكذلك دوليو (Dolio) حاكم بنادر من قبل شركة بنادر التجارية التي تدير شؤون بنادر ما بين 1896-1905، لم ير في يوسف ما يبعث الإطمئنان ويتهمه بـأطماع توسعية تهدف الوصول والسيطرة على نهر شبيلي(بلدوين) وعلى حساب قبائل الهوية في الحد الشمالي  لبنادر وأعمال العنف والنهب التي تقوم به عساكره في تلك النواحي. ناهيك عن الأعمال الدعائية السلبية التي يقوم بها السلطان عثمان محمود ضد يوسف على كينديد. وعلق الكاتب الإيطالي والبرلمان السابق في عهد الاستعمار Gustavo chiesi على ملاحظاتهم بقوله:  ان يكون يوسف كما يصفه البعض رجلا ماكرا وجشعا وغيورا على سلطنته هذا لا يعني، ولا يمكن لأحد أن يتوقع من أن يخدمنا كرامة وحبا لأعيننا الجميلة، وأن يرهق ويهين نفسه أمام شعبه من أجل حفنة من المال، ومع ذلك يجب علينا أن نأخذ بالحسبان وبعين الاعتبار على أنه أظهر لنا الولاء والإخلاص وهي صفات ليست شائعة بين السود أو ذوى البشرة الفاتحة، ومن خلال خصاله الحميدة وحبه للمال وغروره كحاكم ومع قليل من الصبر والنصيحة ستتمكن إيطاليا من جعله أداة مفيدة وسهلة الانقياد في العملية الاستعمارية في الصومال. ويرى كذلك في أن الحادثة التي تسببت بنفيه إلى الخارج لم يكن هو السبب ولم يرتكب خطأ يستحق نفيه، وكان(النفي) عملا متسرعا وخطأ من الإيطاليين، وإذا أردنا أن نبدأ عملا حقيقيا وفعالا في التوغل الإقتصادي يتعيّن علينا اولا ان نعتمد على تعاون هذا الرجل. انتهي .

خالد إبراهيم

باحث في تاريخ الصومال
زر الذهاب إلى الأعلى