قبل أن ترفع معول الهدم !

 

فى الواقع المعاش، كنت على مدى عشرات السنين، ولا زلت، أسمع من كبار السنّ فى المنتديات الإجتماعية المشهورة فى الصومال يردّدون بحسرة أن وجود هيكل دولة بنظام سيئ وإدارة ضعيفة أفضل بكثير من اللّادولة! .

لم أكن أفهم كنه ومدى أهمية هذا الكلام حتّى توالت الأيّام لأشاهد حياة المجتمع الصومالي تصنع وتدارمن خلال جهود أفراد رياديّين خاصة فى حقلي التعليم الأهلى والتّجارة الحرّة يؤدّون أدوار ووظائف دولة لم تكن موجودة! . مع كلّ هذه الجهود، لم يكن بالإمكان أن  تسدّ قلّة قليلة العدد إحتياجات المواطنين. فنظام التشغيل والعمل مثلا فى ظلْ إنعدام الدّولة الصومالية  كان يقوم على أساس الولاء العرقى وليس على أساس الكفاءة والقدرة.

 كنت شاهدا على المأساة فى الصومال وعشت معها منذ البداية، ورغم قتامة تلك المرحلة فإنّى أشعر بنوع من الإرتياح! فقد كانت المرة الأولى التى تتصدّى نخبة من الشعب  (أعنى رواد التعليم الأهلى فى البلاد ومؤسساتهم؛ بدء من مؤسسة العون المباشر “لجنة مسلمى أفريقيا سابقا” ومؤسسة الإمام الشافعى، مرورا بهيئة الإغاثة وإنتهاء بمنظمة الدعوة وغيرها.. على سبيل المثال لا الحصر) لمثل ذلك الظرف الصعب وخاضت مواجهة شرسة معه لكن رغم ذلك لم تستطع أن تحل محل الدولة.

هذه المرحلة و بالذّات أوائل التسعينيات ، كان الجرح نازفا والفوضوى في أوجهاا؛ الحيرة خيمت على الجميع؛ و موجات المجاعة تحيط بالبلاد إحاطة السوار بالمعصم. أمّا الوجع والهلع و الموت البطيء فقد كان يسري فى العظام كالطوفان و كانت الضرورة تقتضى ان يوجد أحد……أشخاص.

يقول الريسونى فى كتابه ( قواعد المقاصد) “الخير كلّه ياتى عبر تولية الأخيار الأكفّاء، والشرّ كلّه ياتى عبر تولية  الأشرار والضعفاء” على ضوء هذا المعاير، يصعب الحديث عن موضوع بناء الدّولة، خاصة فى الدّول المغلوبة على أمرها  فى الوطن العربى والإسلامي والأفريقي.هذه الدّول غالبا ما تفتقد الى منظومات قيم يؤمن بها أفرادها ويجسّدها حراك شعبى يحرص عليها. فالسؤال هنا ماذا يكون الحلّ إذا تربّع على سدة الحكم في البلاد أفراد دون مستوى الأهلية؟ فهل تصفيتها من الأساس أولى من بقائها دون أخذ الإعتبار بما ستؤول إليه البلاد؟

غالبا ما أتساءل كيف يجب أن يعيش الإنسان على هذه الأرض خاصة فى هذه الفترة الصعبة؛ كيف يجب أن يتحمّل المسؤلية و كيف يتحدّى الصعاب بما فيها شتّى أنواع المأسى و الآلام ويستطيع أن يقدّم فى النهاية شهادة عن عالم عاصر  تقلباته وأنغمس في أوحاله حتّى اللحظات الأخيرة من حياته.

أن تعمل في الصومال التى لم تعرف منذ سنوات سوى لغة الدم……مهمّة كبيرة و خطيرة ….. ليكن الله  فى عونك يا وطنى… ومع  ذلك فهي تستحق المجازفة؛ لأن أهمّ مشكلة تواجه البلد بأسره فى الوقت الحاضر هي مشكلة إراقة الدم البرىء………!

مادامت المشكلة قائمة مع مرور سنوات طوال؛ يبقى الانسان الصومالي مكبّلا عاجزا مهدور الكرامة فى أيّ مكان وجد.

أمّا الوطن بالتالى فمجرد مساحات جغرافية خاوية على عروشها؛ و البشرية مجرّد أرقام تماثل الأشباح… كلّ هذا يشكّل خسارة للمواطن و الوطن؛ ليس فقط فى الوقت الحاضر  و انّما  فى المستقبل أيضا لأن وطنا بلا بشر أحرار لا يعنى شيئا هامّا فى مقايس الزمن الذى نعيشه.

وأخيرا، المشاهد المؤلمة التى عشناها فى العقود الثلاثة المنصرمة إن دلّت على شيئ فإنّما تدلّ على أهمية عدم رفع معول الهدم قبل الإتيان بحجر البناء. كذلك، هذه المشاهد ستبقى دروسا وعبرا لمن يعتبر. فهل ستتنفس الأجيال القادمة حبّ الوطن بدل الهواء لتحميه من أيدى العابثين؟ حفظ الله الوطن من كلّ مكروه، وردّ عنه كيد الكائدين.

عبد النّاصر معلّم نور ( عميرى)

cumeyri@yahoo.com

زر الذهاب إلى الأعلى