عن القبيلة والدولة في الصومال

القبيلة والدولة في المجتمعات الحديثة  نقيضان لايجتمعان، فمنطق القبيلة لايتصل بصلة ولايتقاطع أصلاً مع مفاهيم الدولة الحديثة تأسيساً جذرياً ونظاماً مستقلاً، فالنظام السياسي المبني على القبيلة لايصلح للبقاء، حتى وإن امتد لسنوات مديدة وقرون عديدة، فالأجيال التي تتربى على الفلسفة القبلية كنظام حكم يتوارثونه جيلاً بعد جيل، لاشك أن مصالح القبيلة والاستئثار بالنفوذ على حساب أخرى سيتقاتلون سياسياً وعشائرياً، وهو مايعطي المجال الأوسع لجدلية مازالت فصولها قائمة حتى الآن، التي مفادها أن القبيلة والدولة أيهما أصلح للمجتمعات كنظام حكم مستقر، حتى أن النظام الملكي السائد في وطننا العربي لايعدو كونه مجرد انعكاس لقبيلة قوية استأثرت بنفوذ الحكم على حساب قبائل أخرى، وتحارب من أجل البقاء على الحكم طويلاً، حتى لو كلف هذا دماء الأبرياء و أعراض المحارم .

في المجتمع الصومالي، انبثق النظام السياسي من تحت عباءة شيخ العشيرة و رجل القبيلة، فأصبح منطق القبيلة والاحتكام تحت لوائحها المجحفة في أغلبها كصوت يعلو ولايعلى عليه، وعلى هذا الأساس، نال الصومال استقلاله من المستعمر الغربي دون أن تترسخ مفاهيم الدولة كنظام حكم سياسي في مجتمع قبلي من الدرجة الأولى، ولم يستوعب الغرب خطورة هذا النظام القبلي مستقبلاً ضد الكيان السياسي الوليد، فأصبحت الأحزاب السياسية بالصبغة العشائرية تطفو فوق المشهد السياسي، ولم تفسح مجالاً للدولة الديمقراطية الوليدة، حتى تضع بنيان دولة صومالية حديثة، فأصبحت القبيلة المسيسة تجول وتصولاً في النظام السياسي، حتى انقلب  الجنرال سياد بري على النظام السياسي في البلاد .

في فترة حكم الرئيس الراحل سياد بري (1969-1991) تبنى النظام العسكري سياسة لمواجهة نفوذ القبيلة المتعاظم في نظام الحكم، فأعلن “بري” آنذاك وفي مناسبة عامة دفن ” القبلية” في مشهد حضره الآلاف من سكان مقديشو، لكن ذلك لم يكن نهاية للقبلية في البلاد، فأصبحت كقوة بارزة مع نهاية حكم الجنرال، حتى إن البعض من الخبراء يعتقدون أن بسبب استشراء القبلية والواسطة المعرفية في هرم السلطة أدت إلى نفور الكثير من نظام سياد بري العسكري، فأصبحت القبائل تشكل جبهات مسلحة في الداخل، وهو ما أدى إلى سقوط الدولة المركزية عام 1991. 

مع بداية التسعينيات من القرن الماضي، تقاتلت القبائل في الصومال شمالاً وجنوباً، لأسباب كثيرة، ولعل أبرزها الانتقام من القبائل الأخرى التي استأثرت بنفوذ الحكم لمدة عشرين عاماً، ونهبت تحت ذرائعها مكاتب الحكومة المؤسسات الرسمية، وكأنها أملاك لابد أن تذهب مع الزمرة الحاكمة المنتهية صلاحيتها، لأن النظام العسكري لم يضع أسس دولة صومالية، تكون القضية الوطنية هي الخط الأحمر الذي لايمكن تجاوزه للمجتمع الصومالي، فبدلاً من ذلك، كان الأطفال يتلقون في المدارس أغاني تمجد النظام العسكري، على عكس غرس روح الوطنية والقومية في نفوسهم كشعار بديل، للدفاع عن دينهم ووطنهم، والتضحية من أجل الحفاظ عليه، فبعد سقوط النظام العسكري تعززت مكانة القبيلة في المجتمع الصومالي، كآخر حصن يبقي المواطن البسيط طوق النجاة من بطش القبائل الأخرى، رغم أن قبائل كثيرة تعرضت للظلم والبطش وسفكت دماء أبنائهما ظلما وعدواناً، وما زالت تداعياتها مستمرة حتى الآن . 

في فترة ما بعد الحرب الأهلية في البلاد، مازال وزر القبيلة يطارد الكثير من أطياف المجتمع، وتحت  سقفها يستظل بها الكثير، فالأسر الصومالية، تلقن أطفالها أسماء أجدادهم ونسب قبيلتهم، تقاليد وأعراف قبيلة قد تصبح أكثر شيوعاً في بعض الأمصار وخاصة شمال الصومال، وهو مايعني أن القبيلة ظاهرة اجتماعية وإرث سياسي لا ينفصل عن النظام السياسي في البلاد، مهما كان، نظام شبه مستقل أو النظام المركزي، فرجال وأعيان القبائل لهم السلطة في حسم بعض الخلافات السياسية، وهي حقيقة ماثلة أمام كل متابع وخاصة فيما يتعلق بنظامي بونتلاند وصومالاند، فمجلس العشائر لتلك المناطق هو مايبقي للنظام الإداري فيهما الكثير من الهيبة والاستقرار سياسياً وأمنياً . 

بينما في الجنوب الصومالي، تأتي عوامل التقسيم داخل التركيبة القبلية نفسها متجذرة في النسيج الإجتماعي والسياسي، ما يعني أن تركز القبائل الكبيرة في الجنوب تجعل من الصعوبة بمكان إيجاد توافق سياسي أو اجتماعي لتلك القبائل، وهو ماجعل الكثير من الحكومات الانتقالية والفيدرالية لاتعقبها نيات جادة لدفع البلاد نحو الأمام، وانجاز الكثير من المكاسب الأمنية والسياسية والاقتصادية، بل أصبح تأثير القبلية واضحاً في النظام الفيدرالي المقنن والذي لم بات غير قادر على نقل الصومال من حال إلى حال أفضل له، وهو ما أجج روح القبلية والعصبية في نفوس القبائل الصومالية، على شكل أنظمة فيدرالية لاتستمد قوتها من الشارع، بل تفتقر لأبسط مقومات النظام السياسي للدولة الرشيدة، بسبب عدم توافر فقه سياسي ونظام اداري من خلالهما بناء أرضية صلبة لنظام اداري لايمت القبلية بصلة أو التعصبات المذهبية الأخرى الجارفة في أرض غنية بالموارد الطبيعية براً وبحراً . 

حالياً، يحاول المجتمع الدولي بناء دولة صومالية جديدة منذ عام 2011، وتجاوز مرحلة ما بعد الحرب القبلية التي بسببها اختلط الحابل بالنابل، واشتعلت الحروب من أجلها، لكن الانتقال بوتيرة سريعة من خندق القبيلة إلى نظام سياسي رشيد، لا يمر من دون عقبات، رغم أنها محاولة متأخرة من الدول الراعية للمسألة الصومالية، وخاصة الاتحاد الأروبي والأمم المتحدة، لكنها أثبتت نجاعتها أخيرة، بعد انتقال سلس لنظام الحكم في الصومال منذ عام 2012، لكن المرحلة الاصعب التي تمثل تحدياً بالنسبة للمجتمع الدولي تكمن في امكانية تنظيم انتخابات شعبية عام 2020 تشارك فيها أحزاب سياسية تمثل فيسفساء المجتمع المحلي، والتقليل من إرث القبيلة السياسية؛ حيث كان رجال الأعيان لهم دور كبير في اختيار أعضاء البرلمان الصومالي، إلى جانب نظام المحاصصة القبلية لتقاسم السلطة التنفيذية والتشريعية، فهل يتجه الصومال المرحلة المقبلة نحو التحرر من شرك القبلية إلى نظام سياسي يلملم فتات شعبه في الداخل والخارج ؟ . 

الإجابة على هذا السؤال، ربما قد تحتاج إلى سنوات ضوئية من الصبر والمثابرة لمقاومة عوارض وآثار نبذ القبيلة في مجتمع قبلي بحت، ولم تفلح الحكومات الصومالية من المدنية والعسكرية والانتقالية والفيدرالية، الحد من إرثها السياسي في المجتمع، لكن عندما يتعزز الوعي الجمعي القائل أن سلطة الدولة تبدأ من حيث تنتهي سلطة القبيلة، بعدها يمكن أن يتحقق للصومال حلم دولة رشيدة ستنعم بالرخاء والأمن والآمان.

 

زر الذهاب إلى الأعلى