ترجمة الشيخ محمد الهادي بن قاضي محمد الصومالي

بعد معاناة طويلة مع المرض ودخوله المستشفى (في المدينة المنورة بالمملكة العربية ) وبقائه في العناية المركزة توفي الوالد العظيم والشيخ الجليل والد الجميع الشيخ محمد الهادي قاضي الحاتميكهذا أعلن نجل المرحوم الكاتب الأديب الأستاذ محمد الأمين بن الشيخ محمد الهادي برحيل والده بالأمس الخميس 26 رجب 1439ه الموافق 12 أبريل 2018م، عند ما سطر تلك الكلمات الصابرة والتي هزت مشاعرنا ممن كان يعرفه من أصحاب الأقلام العربية والمنتديات الأدبية في بلاد الصومال وغيرها من البلدان في العالم.

وقال الأستاذ محمد الأمين مسترسلاً في ذلك الحدث الجلل: ” .. ولقد أرانا الله علامات القبول في وفاته إذ حقق له فيها كل ما تمنى ودعا به، أن يتوفى في المدينة في ليلة الجمعة وليلة السابع والعشرين من رجب الأصب ليلة المعراج، ويصلى عليه عند حبيبه مع صلاة الجمعة ويدفن في البقيع. فأي علامة قبول أكبر من هذه. لقد دعا بذلك وخرج من ممباسا قاصدا الديار المقدسة مودعا كل الناس ومحيرا إياهم أنه غير راجع إليهم وأنه سيتوفى في المدينة المنورة، كأنه كان متحققا من ذلك.. ألخ “.

لم يكن مخفياً بأنني كنتُ أهتم ترجمة الشيخ محمد الهادي وجهوده العلمية مثل غيره لأضيف ضمن قائمة معجم المؤلفيين الصوماليين في العربية، غير أنّ الله لم يكتب لي أن التقي بفضيلته ولكن الله أراد أن يحقق لي هذا الأمل في الربيع عام 2014ه عند ما التقيتُ بالأستاذ القدير والأديب الأريب محمد الأمين بن محمد الهادي على هامش مؤتمر ملتقى الثقافة الصومالية في الكويت، وكان لي شرف كبير اللقاء معه حيث وجدتُ بغيتي بل واستفدتُ منه كثيراً في أكثر من ميدان ولله الحمد والمنّ.

فماذا نعرف عن سيرة المرحوم وجهوده الدعوية والعلمية؟

نسبه ونشأته الدينية والعلمية:

هو الشيخ محمد الهادي قاضي محمد قاضي حبيب محمد أبوبكر بن محمد الهادي الملقب بشيخ نورچاندي الحاتمي، ويتصل نسبه بالشيخ الأكبر والكبريت الأحمر الشيخ محي الدين محمد بن علي بن محمد بن عربي الحاتمي الطائي الأندلسي المولود في مرسية في الأندلس في شهر رمضان الكريم عام ٥٥٨ هـ الموافق ١١٦٤م والمدفون في دمشق في الحي الذي سمي باسمه (حي الشيخ محيي الدين)، والذي ينتهي نسبه إلى حاتم بن عبد الله الطائي فارس العرب وأجودهم. من مواليد مدينة براوة الساحلية في جنوب الصومال في التاسع من جمادي الثانية ١٣٥٣هـ (١٩٣٤م)، وانتقل إلى مدينة بارطيرا من إقليم جوبا العليا ولما يناهز عمره ١٤ عاما وكان قبلها في بلدة فرحان لمدة شهر تقريبا، وكان انتقاله إلى بارطيرا بعد زيارة سيد أحمد

بن شيخ أباشيخ إلى براوة، فأشارت جدة الشيخ لحفيدها بأن يذهب ويتعلم على يد السيد أحمد فطلب سيد أحمد من والد الشيخ (قاضي) أن يأخذ ابنه إلى بارطيرة، فأجابه الأب على أن يسبقه السيد أحمد ويأخذه والده معه، والذي كان يعمل في التجارة في بارطيرا كذلك. ومنذ ذلك الحين بقي الشيخ في بارطيرا ثمانية عشر عاما ما عدا السفريات التي كان يقوم بها إلى مدن من داخل المنطقة نفسها (ساكو، جاجورا) إلى ١٣٨٨هـ (١٩٦٨م) تقريبا حين انتقل منها إلى مقديشو بحي حمروين حيث فتح محل أقمشة. وكان أثناء إقامته في بارطيرا مع والده بينما كانت أسرته في مدينة براوة التي كان يزورها كل فصل تقريبا، وعندما انتقل إلى مقديشو نقل أسرته، وهو متزوج من اثنتين أسكن الأولى في حمروين والثانية في حي المدينة (ودجر).

أما رحلته العلمية فبعد إتقانه القرآن على يد جدته لأبيه (دادا آمنة فونزي) التي كانت معلمة للقرآن، بدأ الدراسة الابتدائية في مدرسة مكارم الأخلاق التي سميت المدرسة الوطنية فيما بعد، استمر في طلب العلم الشرعي من الفقه واللغة خلال سفراته ورحلاته التجارية من براوة وبارطيرا ومقديشو ومصر. ففي براوة، تلقى مبادئ الدين على يد الشيخ عبديو والشيخ ولي، وتلقى الفقه ولا سيما علم الفرائض والمنهاج على يد الشيخ محمد الأمين الحاتمي، والتوحيد وغيره من العلوم على يد الشيخ معلم نور، وتلقى الفقه والتجويد وعلوم اللغة على يد السيد أحمد حسين السقاف والذي كان مدرسا في المدرسة أيضا، كما درس كتاب فتح القريب شرح الغاية والتقريب لأبي شجاع، وجزءا من لامية الأفعال على يد ابن شيخ والده سيد أحمد بن شيخ أباشيخ بن حاج طلحة. وواصل في بارطيرا تلقي العلم إلى جانب عمله مع والده في التجارة. فدرس المنهاج على يد الشيخ معلم عثمان وأعاد المنهاج على الشيخ حسن حرين. أما علوم اللغة فقد درس الصرف من لامية الأفعال على يد الشيخ محمد يوسف، ودرّسه الشريف يوسف محمود النحو والصرف وعلم الكلام والعقيدة، أما التفسير فقد تلقاه على يد الشيخ علي نور. وفي مقديشو درس كتاب رياض الصالحين على يد الشيخ محمد أحمد محمود الشاشي المقديشي المعروف بشيخ أبّا، كما تلقى دروسا في أحاديث الأحكام على يد الشيخ علي بن عبد الرحمن الصوفي. وتلقى مع الشيخ أبا الحكم العطائية على يد الشيخ محمود عبدالمتجلي أحد أعضاء البعثة الأزهرية في الصومال. وأخذا على يده الإجازة في الطريقة النقشبندية مع مجموعة من رفاقه، ثم التقاه في مصر مع الشيخ نورين إمام وذهب بهما إلى المركز وأخذا الإجازة مرة أخرى على يد الشريف الكردي، هذا غير الدورات التي تلقاها في الصومال وتنزانيا والأزهر في مصر.

ثمراته التربوية:

والشيخ محمد الهادي اجتهد في تربية أولاده حيث ربى أولاده تربية حسنة وحثهم على طلب الحلال، وكان يبذل جهدا كبيرا في إخراج أولاده أحسن

تخريج قبل المدراس بحيث لم يكن يعول على غيره في تعليم أولاده فيما يتعلق بعلوم الشرع من الفقه والتفسير والحديث وعلوم الآلة وتقوية اللسان العربي، وهو أبو الأستاذ محمد الأمين محمد الهادي الإعلامي والشاعر المعروف في أوساط أهل الأدب والثقافة والإعلام في الصومال، والشيخ عبدالفتاح محمد الهادي الفقيه والمجود الذي حاز إجازات القرءات السبع بأسانيدها في مصر والسعودية وغيرهما، ويدير مدرسة الإمام الشاطبي في مدينة لندن، وهو مثل أخيه شاعر لكنه مقل، ويقوم بجهد دعوي كبير في أوساط الجالية البراوية و غيرهم من أهل الصومال هناك.

الشيخ محمد الهادي شاعراً:

وكان الشيخ محمد الهادي الحاتمي شاعرا ومنشدا للشعر في الاحتفالات الدينية، وكان له دفتر كبير جمع فيه أشعاره في المدائح النبوية ومدح الأولياء والتوسل بالله، وكانت معظم أشعاره في الروحانيات والتصوف والإخوانيات، ولم يكن يثبت في دفتره الأشعار التي كان يتراسل بها مع أنداده من العلماء. وأول قصيدة كانت في رثاء شيخه سيد أحمد بن شيخ أباشيخ الذي وافته المنية في عرفات وكان عمر الشيخ حينها ثمانية عشر عاما ووصله الخبر وهو في بارطيرا، ومن يطلع على شعره وبعضه ينشد في حوليات العلماء في براوة، يجد أنه كان شاعرا متمكنا. وكان يكتب الشعر الديني باللغة البراوية الساحلية أيضا، وقد كتب في ذلك الكثير ومنها قصيدة مطولة في سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، ينشدها معظم نساء براوة. وأخذ ذلك عن شيخه معلم نور الذي كان شاعرا لا يشق له غبار في اللغة البراوية وكتب الكثير من القصائد في حياة كبار الصحابة وفي الأحكام الفقهية حيث أفرد لكل ركن من أركان الإيمان والإسلام بقصيدة، وترجم منظومة متن الزبد في الفقه الشافعي إلى البراوية، حتى ييسر الفقه على النساء.

جهوده الدعوية:

أما جهود الشيخ محمد الهادي في مجال الدعوة فنشير هنا بأنّه بذل جهودا مثل شيخه معلم نور في نقل العلم الشرعي إلى اللغة البراوية المحلية لتيسير العلم للنساء فكتب العديد من القصائد باللغة المحلية، وعمل في التدريس الديني والخطابة. وإلى جانب ممارسته التجارة، فقد تولى الإمامة في بارطيرا في المسجد الذي كان يتلقى العلم فيه، ومارس الدعوة إلى الله وطلب العلم حيث كان خطيبا مفلقا لأحد أشهر المساجد في العاصمة مقديشو، مسجد مرواس، وبدأ الخطابة فيه عام ١٣٩٥ه الموافق ١٩٧٥م وتزامن هذه الفترة في أيام محنة العلماء ومقتلهم في مقديشو وذلك بعد أن واجهو الرئيس محمد زياد بري، رغم ذلك استمر الشيخ ودعوته وخطبه فيها حتى بعد انتقاله إلى كينيا حيث انتدب للخطابة في أول مسجد جامع في ممباسا (مسجد باشيخ) في حي كيبوكوني.

وفي عام ١٤٠٠هـ (١٩٨٠م) وصلت كوكبة من العلماء أوفدتها رابطة العالم الإسلامي وأقامت دورة تدريبية في الدعوة لمدة شهر شارك فيها الأئمة والخطباء، وانتظم فيها ما يقرب من ٣٦٠ عالما تقريبا من أنحاء الصومال، وقبل بدء الدورة امتحن العلماء الموفدون علماء الصومال، وكان من أوائل من امتحنوه الشيخ محمد الهادي، وبعدها قال الممتحن لجمع العلماء إذا كان مستواكم بنفس مستوى الشيخ محمد الهادي، فنحن سنحزم حقائبنا ونرجع لأنكم لا تحتاجون إلى دورتناوبعد انتهاء الدورة اختبر العلماء وكان منهم من حصل على تقدير ممتاز، ومنهم من حصل على جيد جدا، وجيد، ومقبول. وكان الشيخ محمد الهادي الثاني من ضمن ثمانية علماء حصلوا على تقدير ممتاز، والأول الشيخ إبراهيم محمد علي سولي. ومن هنا وبعد هذه الدورة اختارته رابطة العالم الإسلامي ليكون داعية مبعوثا للرابطة في مخيمات قريولي للاجئين في الصومال وبدأ العمل معها عام ١٤٠٢هـ.(١٩٨٢م). وقد بذل في ذلك جهودا مخلصة ودرس أولاد اللاجئين العلم الشرعي واللغة العربية وانتظم العلماء الذين كانوا من بين اللاجئين إلى دراسة أمهات الكتب على يديه وتخرج على يده الكثير، ثم سمع بوجود مخيم خاص بالأثيوبيين من قبيلة سدام في قريولي، فوجه جهدا مبرزا إليهم لدعوتهم إلى الإسلام فأسلم على يديه في حدود ٣٠٠ شخصا ودرسهم مبادئ الدين والأخلاق الإسلامية، وبعض اللاجئين من الصوماليين أو الإثيوبيين تبعه إلى مقديشو ليكمل تلقي العلم في بيته بعد عودته من هذه المخيمات. وتخرج على يده العديد من طلبة العلم في براوة ومقديشو وبارطيرا وممباسا. ومن العلماء المشهورين في الصومال والذين درس لهم الشيخ مريدي حاج معو الشاشي والشيخ أحمد عثمان الشاشي (إحمد إيمان)، حيث درس لديه متن الغاية والتقريب في الفقه الشافعي (معروف في الصومال باسم كتاب أبي شجاع). ومن الطلاب المبرزين على يده الشيخ عبدالرزاق بازي غزالي الذي درس على يده فتح المعين، والياقوت النفيس، وأحاديث الأحكام، وجوهرة التوحيد وغيرها من الكتب. وبعض طلبته فتحوا مدارس في براوة لتدريس القرءان ونشر العلم. بالإضافة إلى هذا الاجتهاد العلمي والدعوي كان يحرص على الصلوات الخمسة حتى عندما يكون في السفر كما حدث ذلك مرارا وخاصة عندما كان يقيم في قريولي بحيث كان يتردد على العاصمة مقديشو.

انتاجه العلمي:

والشيخ محمد الهادي قاضي الحاتمي، عالم مبرز من علماء الصومال وفقهائها، وقد بدأ التأليف في عمر مبكر، كما كان أديبا شاعرا إلى كونه من أهل التأليف والدراية بحيث كان يلقي بعض الأبيات والأشعار وخاصة فيما تيعلق بالروحانيات يميل إلى التصوف ومدح النبي صلى الله عليه وسلم، بحيث أنّ معظم شعره كان في الصوفيات والمدائح ، وكالحق أنّه رحمه الله

كان شاعرا متمكنا ولغوياً بليغاً ذات لسان فصيح. وقد أنجز بعض الرسائل العلمية مثل:

أمالي شريف يوسف بن شريف محمود الحسني في شرح لامية الأفعال بالعربية

مجموعة خطب الشيخ محمد الهادي قاضي الحاتمي

الكتاب الأخير عبارة عن الخطب التي ألقاها الشيخ محمد الهادي قاضي محمد الحاتمي في مناسبات مختلفة وأغلبها في خطب الجمعة والعيدين، ويعطي ابنه الأستاذ الشاعر محمد الأمين بعناية خاصة لتخرج كتابا كبيرا يفيد الخطباء في انتقاء خطب الجمعة في مساجد الصومال وغيرها.

الإرشاد لمن يريد النطق بالضاد

بسبة هذا الكتاب كان الكتاب الأول للمؤلف في علم النحو ، وبدأ تأليفه في عام ١٩٦٠م وتناول فيه موضوع تقوية اللسان العربي، ويشير لمن يريد تعلم العربية إلى أسلوب سهل وطريقة يجعل الطالب يتعلمها بيسر، وكان الكتاب مخطوطا ولكنه فقد خلال انتقال المؤلف إلى كينيا عقب اندلاع الحرب الأهلية في الصومال. ومن بين الكنوز التي ضاعت من أسرة الشيخ كتاب ” شعراء العربية في الصومال ” الذي كتبه ولده الأستاذ الأديب والشاعر محمد الأمين محمد الهادي، وهي عبارة عن دراسة أدبية قام بها المؤلف في الصومال غير أنّها ضاعت أيضاً ضمن التراث الضائع خلال الحرب الأهلية في الصومال.

رحم الله شيخنا الشيخ محمد الهادي بن قاضي محمد الحاتمي الصومالي وأسكنه في فسيح جناته وألهم ذويه الصير والسلوان.

 

د/ محمد حسين معلم علي

من مواليد مدينة مقديشو عام 1964، أكمل تعليمه في الصومال، ثم رحل إلي المملكة العربية السعودية ليواصل رحلته العلمية حيث التحق بجامعة أم القرى قسم التاريخ الإسلامي حيث تخرج في عام 1991م، ونال الماجستير بنفس الجامعة في عام 1998م ،كما واصل دراسته في كل من السودان والنرويج، حيث نال درجة الدكتوراة بجامعة النيلين عام 2006م، أما في مملكة النرويج فقد تخصص بالدراسات التربوية وكذا الثقافات واللغات المتعددة في جامعة همر بالنرويج. وعمل أستاد التاريخ والحضارة الإسلامية في الجامعة الإسلامية في مقديشو - الصومال، وهو عضو في عدد من المنظمات المحلية والإقليمية والدولية، أصدر "ديوان الشاعر بعدلي" عام 2002م ، و"الثقافة العربية وروّادها في الصومال" عام 2010م، وله عدة بحوث أخرى، يقيم الآن بالنرويج .
زر الذهاب إلى الأعلى