الحلقات العلمية في الصومال

DSC08384الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين والصلاة والسلام على من أرسل رحمة للعالمين وعلى آله واصحابه الغرّ الميامين و من اقتفي نهجه وسلك سبيله إلى يوم الدين.

أما بعد:

كانت الرسل عليهم الصلاة والسلام تترى على البشر إلى زمن بعثة المسيح عيسى عليه الصلاة والسلام، فصارت فترة إنقطاع بين بعثة المسيح وبين رسالة نبينا محمد عليهما الصلاة والسلام، كما ذكر الله في كتابه: ( يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على قترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم نذير وبشير والله على كلّ شيء قدير)

وكما اخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم حيث قال ذات يوم في خطبته:( ألا إن ربي أمرني أن أعلّمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا: كل مال نحلته عبداً حلال،  وإني خلقت عبادي حنفاء كلّهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرّمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً، وإن الله نظر إلى أهل الآرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب، وقال: إنما بعثتك لأبتليك وابتلي بك، وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء، تقرؤه نائماً ويقظان…  الحديث) رواه مسلم عن عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه.

ومن أول ما نزل من القرآن الكريم على قلب الرسول صلى الله عليه وسلم: خمس آيات من أوائل سورة العلق

( بسم الله الرحمن الرحيم:: إقرأ باسم ربك الذي خلق:: خلق الإنسان من علق:: إقرأ وربك الأكرم:: الذي علّم بالقلم::  علّم الإنسان ما لم يعلم …) فنبهت الآيات أهمية التعلّم والتعليم” بإقرأ” و”بالقلم”.

دور المساجد في التعليم الاسلامي:

فمما هو معروف ومسلّم لدى كل مسلم أن تاريخ التعليم والتربية في الاسلام مرتبط – أيما ارتباط- بالمساجد، إذ هي ” من أقدم مؤسسات التعليم في الاسلام”

وبعد ما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، أنشا مسجده فور وصوله قبل كل شيء، واتخذه مؤسسة تعليمية التي تعد – في الاسلام – أعلى مؤسسة علمية أقيمت على وجه الأرض منذ فجر التاريخ، ومنه تخرّج علماء أفذاذ وقادة أمم  وجيوش من الجيل المحظوظينن معلمين لغيرهم، فأنتشروا في أقطار الأرض بعد ما ودّعهم مربيهم الأعظم صلى الله عليه وسلّم بالتوصيات التي حمّلهم خلالها أمانة التبليغ والتعليم، فنقلوا تعاليم الاسلام، منشئين المساحد، وربّوا فيها الأجيال اللا حقة على هدي المصطفى صلى الله عليه وسلّم، إقتداء بنيبهم وأداء للفريضة وشكراً على ما أنعم الله عليهم من العلم، فعقدوا حلقات التعليم في المساجد التي كانت المدارس الأولى يومئذ.

كانت حلقات العلم تعقد في المسجد النبوي في المدينة، يجلس فيه الصجابة للتعليم ويتلقى فيه التابعون.

وكان مسجد البصرة مركزا لحركة علمية كبيرة، خاصة في العهد الأموي، كما أصبح مسجد الكوفة مركزاً حيوياً للنشاط التعليمي.

وأما جامع عمرو بن العاص فقد كان مركزاً من أهم مراكز التعليم في قلب مصر، وابتدأ التدريس فيه في وقت مبكر من تاريخ بنائه.

ومن المساجد المشهورة التي اخذت دوراً هاما للتعليم على مدار التاريخ الاسلامي: جامع المنصور ببغداد الذي بني في سنة 145هــ

ومن اشهر المساجد التي لها دور بارز في مسيرة التعليم في تاريخ المسلمين: جامع الأزهر الذي شيده العبيديون( الفاطميون) في القاهرة في القرن الرابع الهجري، وكان قصد العبيديين من بناء الجامع الأزهر أن يكون مركزاً لنشر مذهبهم الشيعي الباطني، لكنه صار صرحاً تعليمياً وخاصة من بعدهم.

ومن المساجد المشهورة: المسجد الجامع بقرطبة، والجامع الزيتونية في تونس، إلى غير ذلك من المساجد  الكثيرة التي انتشرت في الأمصار الاسلامية، ومثلت هي الأخرى مؤسسات علمية، يتوجه إليها الطلاب والمتعلمون.

وجملة القول: فإن المساجد قد أخذت دورا هاماً في حياة المسلمين – عامة – وفي سير التعليم خلال التاريخ الاسلامي بشكل خاص.

 

دور الكتاتيب في التعليم الاسلامي:

 الكتّاب هو موضع تعليم، والجمع الكتاتيب، والمكاتب والمكتب موضع التعليم، والمكتب المعلم، والكتّاب الصبيان، والكتّاب: عبارة عن مكان متواضع يتسع لعدد من الصبيان الذين يشرف عليهم معلم واحد يقوم على تعليمهم القرآن الكريم قراْة وكتابة وحفظاً، كما يقوم على تأديبهم أجسن تأديب وتربيتهم أحسن تربية على طريقة اسلامية.

وأول من بنى الكتاتيب الخليفة الراشد/ عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعين المعلمين، وكذلك عمل بعده الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم.

ثم اتفق اهل الآمصار على أن يكون القرآن أصل التعليم، وأساس التربية الاسلامية، غير أن فحول التربية والتعليم هناك قد اختلفوا فيما يضاف إلى ذلك، فأهل المغرب يقتصرون في تعليم الصبيان على القرآن فقط، مع العناية برسمه، دون سواه في تعليم الصبيان، لامن حديث ولامن فقه، ولا من شعر، ولا من كلام العرب.

وأما أهل الأندلس  فكان مذهبهم في تعليم الولدان المزج بين تدريس القرآن وغيره من العلوم، كرواية الشعر والنثر، وأخذ الناشئين بقواعد اللغة العربية، وحفظها، وتقويم البلدان والحساب.

أما اهل المشرق فمذهبهم كمذهب أهل الأندلس من حيث الجمع بين تحفيظ القرآن الكريم ودراسة غيره من المواد.

 

مقدمة/دخول الاسلام في الصومال:

 لم نجد تحديداً مضبوطاً بالتاريخ الذي انبثق فيه فجر الاسلام في هذا القطر من العالم الاسلامي، وانتشرت فيه أشعة نور الإيمان، كذلك لم نستطع الحصول على أسماء الرجال الأوائل الذين قاموا بهذا العمل العظيم، وأدخلوا الاسلام في هذه البقعة من الأرض.

فالمؤرخون يختلفون حول التاريخ الذي دخل فيه الاسلام في القطر الصومالي، فبعضهم يرى أن الاسلام كان قد دخل في الصومال في وقت مبكر جدا، بل وفي السنوات الألى من ظهور الاسلام بمكة المكرمة، وعلى أيدي المهاجرين الأوائل من الصحابة – رضي الله عنهم- الذين هاجروا إلى الحبشة فرارا بدينهم وعقيدتهم من الاضطهاد الذي كانوا يتعرضون له من كفار قريش، وذلك في السنة الخامسة من البعثة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم.

والبعض الآخر من المؤرخين  يرى أن الاسلام كان قد دخل في القطر الصومالي بعد ذلك التاريخ بوقت، وأن ذلك كان في عصر الدولة الأموية وبالأخص في زمن الخليفة/ عبد الملك بن مروان عام 65- 86هــ  وأياً كان الأمر فإن المؤرخين تيفقون على أن الاسلام قد دخل هذه البلاد في الصدر الأول من الاسلام، سواء كان قبل الهجرة أوبعدها، وأن ذلك قد تم عن طريق الدعوة والإرشاد، ولم يكن عن طريق الغزو والجهاد، وعلى أيدي موجات متقاربة من البعثات الارشادية، أو التجارية، ,أوالهاربة لظروف سياسية.

 

 

أقسام التعليم الديني ونظمه في الصومال:

 

إن نظام التعليم الديني في القطر الصومالي ينفسم إلى قسمين:

1- تعليم القرآن الكريم وتحفيظه للأطفال وغيرهم في الكتاتيب( الدكسي) في اللغة الصومالية.

2- تعليم علوم الشريعة ومستلزماتها من علوم اللغة العربية.

القسم الأول: وهو تعليم القرآن الكريم أي تحفيظه في الكتاتيب،

وهذا النوع من المدارس قد انتشر في كل المدن والقرى والأرياف في بلاد الصومال وغيرها من البلدان الاسلامية الأخرى، وقد كثر ذلك حتى أصبح من معالم الحركة الثقافية.

أما لفظة ( دكسي) فهي كلمة صوماليةالأصل ومعناها اللغوي أوالمدلول الذي تدل عليه باللغة الصومالية هي المكان الدافىء، وقد يحمي هذا المكان من البرد والحرّ إذا كان مسقوفاً غير مكشوف.

أما من حيث الاصطلاح فيعني الدكسي المكان المعدّ لتعليم القرآن الكريم وتحفيظه، وما يتطلبه من قراءة وكتابة، بالإضافة إلى المبادئ الاسلامية الأساسية من التوحيد والطهارة والصلاة والصيام والآداب والأخلاق والقصائد والأوراد والأدعية.

 

نظام تعليم القرآن في الكتاتيب( الدكسي):

إن نظام تعليم القرآن الكريم، وتحفيظه للأطفال في الصومال كان ولا يزال يتبع فيه بالأسلوب التالي: وهو أن يسلم مجموعة من الأطفال إلى أحد المعلمين الموثوقين به في حفظه للقرآن الكريم وإجادته إياه عن ظهر قلب، وهذا الاشتراط غالبا ما يكون في عقد مبرم بين المعلم وبين أولياء التلاميذ، وبطبيعة الحال يسبق هذا العقد على تسليم الأطفال للمعلم.

وفي الغالب يتم اختيار هذا المعلم إما بتزكية مبنية على معرفة شحصية سابقة لهذا المعلم، وإما باختبار يجرى عليه للتأكد من حفظه للقرآن الكريم وتجويده إياه، وهذا المعلم يتقاضى أجراً معلوماً عن كل تلميذ على حدة، ويكون هذا الأجر متفقاً عليه بين المعلّم وأولياء الأمور،  ويختلف نوع هذا الأجر وكميته باختلاف البيئات، فاهل البادية يدفعون بالماشية والبقر والإبل، وأهل المدن والقرى يدفعونه بالنقد، كما يختلف أيضاً قلة وكثرة تبعاً للعرف والتقاليد المتبعة في كل منطقة وفي كل قطر، ورغم أن هذا المعلم يتقاضى أجراً معلوماً، ومتفقاً عليه بينه وبين أولياء التلاميذ، إلاأنه مع ذلك يتمتع بقدر كبير من التقدير والاحترام من المجتمع الذي يعيش فيه بصفة عامة.

والأسرة التي ينتمي إليها الطفل تولي عادة إهتماماً كبيراً في شئون المعلم، وحالة التلميذ التعليمية، يعني أن هناك إتصالا وثيقاً بين الأسرة وبين المعلم، وهناك مثل صومالي يبرز لنا مدى هذا الاتصال الذي ذكرناه وترجمته هي: يتوقف تعليم القرآن الكريم في توافر هذه العناصر الأربعة مجتمعة: معلم حافظ، وولد ذكي، ووالد سخيّ، وأم يقظة.

وهذا هو نفس ما تقرربه أصول التربية الحديثية وينادي بها اساتذتها من وجوب الاتصال الوثيق والتعاون المثمر بين البيت والمدرسة لمصلحة التلميذ.

 

طريقة التدريس في الكتاتيب ( الدكسي) الصومالي:

 

وطرق تعليم القرآن في الكتاتيب ( الدكسي) يتبع الخطوات الآتية وهي:

عند ما يسلّم الطفل للمعلم فإنه يبدأ له بتعليم الحروف الهجائية العربية والتهجي بها، وكلمة التهجي معناها – هجاد – باللغة الصومالية.

ثم بتعليم الكتابة والقراءة، ثم بقصار السور، ثم يتدرج به على هذا النمط بالتصعيد على عكس النظام الموجود في المصحف الشريف، وذلك مراعاة لمستوى العقلي للطفل، ثم يسير به على هذا النحو حتى يتم هذا التلميذ جميع القرآن الكريم بختم سورة البقرة.

وفي المراحل الأولى من مراحل تعليم التلميذ، يكتب المعلم بيده لكل طفل درسه في لوحه، فيقرئه ويكررعليه ذلك حتى يحفظ الطفل هذا الدرس عن ظهر قلب، ولكن إذا تقدم التلاميذ في تعليمهم، واتقنوا الكتابة والقراءة، وتأكد المعلم من ذلك، فإن التلاميذ يكتبون الدروس بايديهم، والمعلم يملي الدرس عليهم، والطريقة المستعملة في ذلك هي: عند ما يتم الطفل حفظ الدرس السابق، ويتأكد المعلم على ذلك بقراءتهم للدرس عليه استظهاراً، وحين يجيء وقت الدرس الجديد، يغسل كل تلميذ جانباً من لوحه، وعند ما يجف اللوح يأتي التلاميذ بجميع أدوات الكتابة، ثم يجلسون على الأرض، وكل منهم مستعد لتلقي الدرس الجديد.

ثم تبدأ العملية: بأ ن يطلب كل تلميذ من المعلم ان يملي عليه درسه الجديد، الذي يبتدئ عادة من آخر الآية التي وصل إليها في الدرس السابق، فيبدأ المعلم بدوره في الإملاء على كل تلميذ على حدة، وهي عملية رائعة، مجموعة كبيرة من التلاميذ قد يصل تعدادهم أحياناً إلى سبعين أو ثمانين تلميذاً، كل واحد منهم يطلب من المعلم أن يملي عليه درسه الجديد، ومن النقطة التي وصل إليها.

وفي العادة لا يكتبون درساً واحداً، ولا في سورة واحدة، ولا في جزء  واحد من القرآن الكريم، بل قد تكون دروسهم موزعة على جميع الأجزاء، وعلى جميع سور القرآن، وكل واحد منهم يصيح ويرفع صوته في طلب الاملاء ليسمع المعلم صوته، وقد يكون صياحهم في طلب الاملاء وقتاً واحداً، ومع هذا، فإ ن المعلم القدير يملي على كل واحد منهم ، ولايتخبط في شيء من ذلك ولايغلط، وبهذه الطريقة ينتهي هذا الدرس، وبعد الانتهاء من الاملاء والكتابة يدعو المعلم جميع التلاميذ واحداً بعد الآخر لفحص الدرس الذي كتبه، كل واحد منهم على حدة، ويصحح ما فيه من الأخطاء الإملائية,

عند ما يتأكد المعلم من سلامة هذا الدرس من الأخطاء، يأمرهم على المذاكرة وأن يحفظوا الدرس بسرعة، ويقرءوه عليه استظهاراً، وفي أثناء المذاكرة يراقب العلم جميع التلاميذ مراقبة شديدة، وإذا لاحظ تلميذاً يلعب أو يتساهل في المذاكرة، فإنه يضربه بعصاه التي لاتفارق يده غالباً.

 

اللوائح الداخلية في الكتاتيب (الدكسي):

 إن هناك في الكتاتيب الصومالية لوئح داخلية خاصة به، وهذه اللوائح هي بمثابة قوانين وأعراف معترف بها، تتوارثها الأجيال جيلا بعد جيل، وهي غير مكتوبة وغير مدونة ولكنها مع ذلك قوية، تتمتع بنوع من التقديس بحيث لا يمكن التساهل بها في حال من الأحوال، بل تجب مراعاتها وتنفيذها بحذافيرها، ومن تلك اللوائح:

أولا: إقامة أحد التلاميذ كمساعد للمعلم ويسمونه – كبير – وهو المسؤول عن حفظ النظام في الدكسي، ومراقبة التلاميذ عند مذاكرتهم للدروس، وإبلاغ المعلم بكل ما يحدث في الدكسي من إخلال للنظام والمشاغبات التي تحدث عادة بين التلاميذ في داخل الدكسي، وله على بقية التلاميذ نفس سلطة المعلم في حال غيابه عن الدكسي، ولكي يخشاه بقية التلاميذ، وتتم له السيطرة والنفوذ عليهم، فإنه يكون دائماً أكبر التلاميذ وأكثرهم معرفة للقرآن، واحسنهم سلوكاً لدى المعلم.

ثانياً: العقاب، وهذا العقاب أي عقاب المعلم للتلميذ عام وشائع في جميع أنحاء القطر الصومالي، ويبدو أنه إكتسب بمرور الزمن طابعاً شرعياً، ويكاد يكون قضية مسلمة في نظر المجتمع كله، يؤمن بها المعلم والتلميذ، ووالد التلميذ بل وكافة أفراد المجنمع.

ولهذا نجد المعلم يخول نفسه سلطة مطلقة في عقاب التلميذ حسبما يراه هو ويروق لمزاجه، بل وفوق ذلك يحدث في الغالب: أن يخول الوالد المعلم سلطة مطلقة في عقاب ولده، ولهم في هذا الشأن عبارة مشهورة وهي: أن يقول الوالد للمعلم: إنني أيها المعلم قد سلمت إليك هذا الولد لتعلمه القرآن الكريم وتحفظه عن ظهر قلب، ولك أن تضربه، وان تعاقبه إذا اقتضى الأمر في ذلك، وحسبما تراه مناسباً.

 

وهناك مقولة اخرى يقوله الوالد عند تسليم ولده للمعلم: ايها المعلم إن لي روح الولد، فليس لك أن تقتله وتزهق روحه، وإن لك بدنه وجسده، فلك أن تضربه وتعاقبه حسبما تشاء، شريطة ألاّ تكسر له عظما ولا تفقأ له عيناً.

ولهذا العقاب اساليب كثيرة يتبعونها فيه، ولكن أبرز هذه الأساليب يتم بهذه الطريقة التالية: وهي انه عند ما يقترف التلميذ أي ذنب أو أي مخالفة في العرف يستحق به العقاب يدعوه المعلم إليه، ثم يؤنّبه بكلام شيديد يكاد ينخلع له قلب الطفل، ثم ياخذ منه الثياب الذي يلبسه ويعصب به عيني التلميذ، ثم يبدأ ضربه بالعصا والتلميذ جالس معصوب العينين لايرى شيئاً، وهذه العملية برمتها تحدث بصفة علانية، وأمام بقية التلاميذ لإشاعة هيبة المعلم في نفوسهم.

ثالثاً: جمع العصى، وهذه العصى هي التي يستخدمها المعلم في عقاب التلاميذ وضربهم، يجمعها التلاميذ أنفسهم من الغابات ثم يأتون بها إلى المعلم ليضربهم بها، وعلى جميع التلاميذ المشاركة في عملية جمع العصى.

رابعاً: الاحتطاب، فإذا كان المكان الذي يوجد فيه الكتّاب (الدكسي) في البادية، يتحتم على جميع التلاميذ أن يخرجوا في كل يوم إلى الغابة القريبة  قبيل غروب الشمس للاحتطاب، يجمع كل واحد منهم حزمة من الحطب الجاف اليابس، القابل للاشتعال، ويحملها على عاتقه، ويأتي بها إلى الكتّاب (الدكس) ثم يطرحها في مكان معد لذلك، وهي عملية جماعية، يجب أن يساهم بها كل واحد من التلاميذ، وأن يشترك جميعهم فيها، والتلميذ الذي تساهل قي ذلك ولم يشترك فيها يكون معرّضاً للعقاب الشديد، ثم عند ما تغيب الشمس ويعم الظلام، يضعون هذا الحطب فوق النار ويشعلونها به، ثم يقرأون الدروس المكتوبة في الالواح بضوئها للمذاكرة، وتستمر هذه المذاكرة حوالى ساعتين او ثلاث ساعات تقريباً، ثم يبدأون التلاوة شبه الجماعية – السبع – باللغة الصومالية، وهذه التلاوة يومية تساعد حفظ التلميذ للدرس السابق.

خامساً: قرأة الشافي: ومن العادات الشائعة في جميع انحاء القطر الصومالي قرأة ما يسمى ( بالشافي) وهي عبارة: عن بعض الابتهالات وبعض الادعية التي يدعوا التلاميذ للمعلم والوالدين، ولمن أسدى إليهم معروفاً، أو مدّ لهم يد العون والمساعدة، وللمسلمين جميعاً، وهي أدعية وابتهالات موحدة ومحفوظة لجميع معلمي الدكسي وتلاميذه في جميع أنحاء القطر الصومالي، وتبتدئ بهذه الكلمات:

بسم الله الرحمن الرحيم، بسم الله الشافي، بسم الله العافي، بسم الله المعافي، بسم الله لذي لايضر مع اسمه شيء في الارض ولا في السماء وهو السميع العليم، وغير ذلك من الأدعية باللغة الصومالية.

 

القسم الثاني: الحلقات العلمية:

 مدخل:

والأغلب الأعم أن حلقات العلم كانت تعقد بالمساجد في المدن والقرى، وفي الأرياف والبادية كانت تعقد الحلقات تحت الأشجار المظللة والمهيأة للدراسة، لذا نلقي الضوء على دور المسجد ورسالته، مدخلاً لدراسة الحلقات العلمية في الصومال.

وظيفة المسحد ورسالته في الصومال:

 

لقد اعتنى الصوماليون بالمسجد وتعلقوا به منذ وصول الاسلام إلى الصومال وانتشاره فيه، ولم يكن المسجد مجرد مكان خاص للطقوس الدينية كالصوامع والبيع والكنائس عند الأمم الأخرى، وإنما كان المسجد مهما في حياتهم سواء فيما يتعلّق بأداء الشعائر التعبدية، أو القيام بتوجيه الأمّة نحو أمور دينها ودنياها، وما فيه صلاحها وفلاحها في الدنيا والآحرة، كما كانت الجيوش المجاهدة تنطلق من المسجد في سبيل رفع راية الاسلام والدفاع عن أعراض ومقدسات الأمة، لذا كانت المساجد من أهم منابر العلم والتثقيف في هذا المجتمع، ولاسيّما فيما يتعلّق بالعلوم الدينيّة من القرآن وعلومه، والحديث وعلومه، والفقه واصوله خاصة الفقه الشافعي، –  والفقه الحنفي في زيلع ونواحيها في فترة من فترات التاريخ –  واللغة: نحوها وصرفها وآدابها.

 

 ومن المعلوم أن المساجد عموماً أماكن خاصة للعبادة وإقامة الصلوات وقرءة القرآن الكريم والأذكار، والاعتكاف وما إلى ذلك، ولكنها في القطر الصومالي كانت إلى جانب ذلك تقوم بمثابة المدارس، والجامعات والمعاهد العلمية، يتعلم فيها المسلمون علوم الشرعية واللغة العربية، ومختلف فروع العلوم والفنون.

 

وكان العلماء والفقهاء يعقدون جلساتهم في أركان المسجد وأروقته، ويستند الشيخ إلى عمود من أعمدة المساجد، ويتحلق حوله الطلاب على شكل دائرة، وكان بعض الشيوخ يدرّسون مادة واحدة، بينما آخرون يدرّسون عدة مواد، على أن أولئك الشيوخ جميعاً يتفقون على توقيت لدروسهم، بحيث يسمح للطلبة الانتقال من مدرس إلى آخر للاستفادة من وقتهم إلى أبعد الحدود.

 

تعلّم العلم الشرعي:

وهو تعليم علوم الشريعة بمختلف فروعها، وعلوم اللغة العربية بمختلف فروعها وفنونها أيضاً.

ونظام التعليم في هذا القسمم، يختلف عن نظام التعليم للقرآن الكريم الذي تحدثنا عنه في السابق، وذلك ليس هناك طالب يسلّم إلى مدرّس العلوم الشرعية والعربية، ولا أجر متفق عليه بين المدرّس وبين الطالب، أو من ولي أمره يتقاضاه المدرّس، إلا في حالات نادرة جداً، حيث يوجد في بعض الأحيان أن تتفق بعض الأسر الكبيرة مع أحد المشائخ الأعلام على التدريس لإولادهم، ما تراه لائقاً ومناسباً لحضرة هذا العالم من المال، وضروب التكريم حسب العرف القائم هناك.

 

النظام العام المتعارف في تعليم الشريعة والعربية في الصومال يتم بالطريق التالي:

 إن الطالب الصومالي عند ما يتم حفظ القرآن الكريم، ويتجاوز مرحلة الطفولة، ويدخل في سن الشباب، تتوق نفسه إلى تعلّم علوم الشريعة وعلوم اللغة العربية، ثم يبدأ بالبحث عن المشائخ الممتازين الذين اشتهروا في تدريس هذا العلوم، والسوآل عن أماكن وجودهم، ثم إذا سمع أن في المنطقة الفلانية أو في البلد الفلاني دراسة منظمة، أو تمكيناً سهلاً،  كان يذهب ويسافر إلى مكان هذاالعالم المدرس، بدون أن ياخذ معه شيئاً من الزاد، إلاّ بعض الكتب والثياب التي يلبسها، فإذا وصل إلى محل ذلك الشيخ ووجد فيه بغته من العلم، انتظم في هذه الدراسة الجارية فور وصوله هناك.

 

طريقة تدريس العلوم الشرعية:

 وطريقة تدريس العلوم الشرعية التي كان ولا يزال يتبعها مدرسوا العلوم الشرعية والعربية في القطر الصومالي، تشبه إلى حد ما بالطريقة التي يسميها علماء التربية – طريقة الإلقاء – وهي: ان يأخذ الشيخ المدرس مجلسه في صدر المجلس المعد للدراسة، ثم يأتي الطلاب ويجلسون حوله على حلقة مستديرة، ثم يبدأ بإلقاء الدرس على الطلبة، مستخدماً في ذلك الكتاب الذي معه يشرح ويفسر لهم باللغة الصومالية، إذ من المعلوم أن جميع العلوم كانت ولا تزال مكتوبة ومدونة باللغة العربية، ولهذا فإن المدرس مضطر إلى أن يشرح الدرس ويفسره باللغة الصومالية، حتى يتمكن الطلبة من فهم الدرس، والوقوف على مضمونه، وفي العادة يكون مع كل واحد من الطلبة الحاضرين في هذا الدرس نسخة من الكتاب الذي يدرس فيه الشيخ.

وفي اثناء الدرس على جميع الطلبة ان يسمعوا الدرس وينصتوه باهتمام بالغ، حتى لاتفوتهم كلمة واحدة مما يقوله الشيخ أثناء الدرس.

فعند ما يتم إلقاء الدرس وشرحه ينصرف الطلاب ويكونون من أنفسهم مجموعات صغيرة، كل مجموعة تجلس في مكان خاص، وتتدارس هذه المجموعة الدرس فيما بينها للمذاكرة، ويبدأ أحدهم في إعادة شرح الدرس عليهم والبقية يستمعون إليه.

والطالب الذي يتولى إعادة شرح الدرس لبقية المجموعة يكون في العادة أكثر المجموعة نباهة وأحسنهم فهماً للدرس، ثم يليه في العادة ثان، وثالث، وهكذا حتى يقرا جميع أفراد المجموعة، وفي العادة يشتد النقاش، والأخذ والرد بين أفراد المجموعة الواحدة أثناء المذاكرة، فإذا صعب عليهم جميعاً فهم بعض العبارات التي وردت في الدرس،أو لم يستطيعوا حلّ مسألة من المسائل، ردوها إلى الشيخ المدرس، وطلبوا منه شرح المسألة وأيضاحها من جديد.

وعند ما يبدا الطالب فهذا النوع من التعليم كان دائماً يراعي في حقه على المستوى التعليمي الذي يستطيع هضمه.

 

مراتب التدريس في حلقات العلمية:

 فيبدأ الطالب في بداية طلبه الكتب المختصرة في كل فن من فنون العلم.

 فمثلا العقيدة: كان الطلبة يدرسون كتب” العقيدة الأشعرية” مثل: السنوسية وشرحها، وجوهرة التوحيد وشرحها، وبدء الآمال، والخريدة البهية، وأمثالهم.

الفقه: يدرس الطالب كتاب/ سفينة النجا وسفينة الصلاة، ثم متن الغاية والتقريب لابن أبي شجاع، ثم شروح هذه المتون، ثم متن المنهاج، والتنبه، ومتن الإرشاد، وشروحهم، ثم فتح المعين، وفي أصول الفقه كانوا يدرسون كتاب: الورقات وشروحه، وجمع الجوامع وشروحه، واللمع في اصول الفقه، والمنهاج للبيضاوي.

وفي الحديث: كان الطلبة يدرسون متن الأربعين للإمام النووي، ثم مختصرابن أبي جمرة وحاشيته، ولم يكن منتشراً قرآة  كتب الصحاح والسنن فضلا عن المسانيد والمعاجم والأجزاء، حسب ما علم الباحث.

وفي التفسير: ما كان التفسير يدرّس في كل السنة كما يدرّس العلوم الأخرى، بل كان يدرّس في شهر رمضان كل عام، تبركاً بشهر نزول القرآن الكريم في تدريسه، وفي الأغلب كان المشائخ يدرّسون تفسير الجلالين للإمامين/ المحلي والسيوطي، وحاشية الجمل والصاوي.

وفي اللغة كانوا يدرّسون المواد الآتية:

أ‌-   النحو: كان العلماء يدرّسون  للمبتدئين متون النحو المحتصرة، متن الآجرومية، ومتن العمريطي.

والمتوسطين: شروح كتاب الآجرّمية وحواشيه، ثم كتاب الكواكب الدرية،  وملحة الإعراب، ثم قطر الندى وبل الصدى، وشروح هذه الكتب.

والمنتهين في دراسة النحو: ألفية ابن مالك وشروحها وحواشيها.

ب‌-         الصرف: كان شيوخ العلم يدرّسون في مادة الصرف: متن لامية الأفعال،وشروحه: مثل شرح بدر الدين ابن المصنف، ثم شرح البحرق الصغير والكبير، ثم كتاب حديقة التصريف وشرحها للإمام الزيلعي المتأخر.

ت‌-          الأدب: كان شيوخ حلقات العلم يدرسّون الكتب الآتية:

المبتدئ كان يدرس: لامية ابن الوردي، ثم شرح بعض القصائد مثل: قصيدة البردة، وقصيدة الهمزية وكلاهما للبوصيري،  ثم قصيدة بانت سعاد وشرحها.

والمتوسط كان يدرس: مقصورة ابن دريد وشرحها، وطيبة الغراء للنبهاني.

والمنتهي كان يدرس: مقامات الحريري وشرحها، والمعلقات العشر وشروحها.

ث‌-         البلاغة: كانوا يدرسون كتباّ معدودة بالأصابع: مثل كتاب السمرقندية، وجوهر المكنون.

ج‌-          وفي المنطق: كانوا يدرسون: كتاب أيساغوجي، ومنظومة: السلّم المنورق.

ح‌-          وفي العروض: كانوا يدرسون كتاب الكافية في العروض والقافية.

وقد اشتهر كثير من علماء الصومال على قريض الشعر ونظمه، ولبعضهم ديوان شعر، منهم على سبيل المثال: الشيخ/ عبد الرحمن الصوفي، والشيخ/ عبد الرحمن الزيلعي، والشيح/ السيد محمد عبدلى حسن، رئيس حركة الدراويش، والشيخ/ أؤيس بن محمد القادري، والشيخ/ علي مية الأحمدي، والشيخ/ قاسم البرواي، والشيخ/ عبد الله القطبي، والشيخ/ عبد الرحمن العلى، الذي اشتهر أخيراً في نظم الشعر.

خ‌-          وفي كتب الآداب والزهد: كانو يدرسون كتاب بداية الهداية، وكتاب تعليم المتعلّم طريق التعلّم، وكتاب الحكم لابن عطاء الله الأسكندري.

ومدرسوا العلوم الشرعية والعربية في الصومال لم يتعودوا أن يلقوا إلى الطلبة أي أسئلة ولا أن يجروا لهم أي إمتحان أو إختبار بالمعنى المعروف، كانت ولاتزال هذه الطريقة هي المتبعة لتدريس العلوم الشرعية والعربية في القطر الصومالي.

مسكن الطلبة:

كانت المساجد مسكناً ومأوى لطلبة العلم، حيث كانت دائماً مكتظة  بالمئات من الطلبة الذين لا يجدون لنفسهم مسكناً ولا مأوى يأوون إليه ويسكنون فيه،  ولم تكن المساجد آنذاك مفروشة بالفرش الناعم، وإنما كانت تفرش بالحصير القديم، وبعضهم ليس مفروشا، لذا ينام الطلبة على الحصير الغليظ، أو على الإسمنت الخالي من الفرش، ولهذا  كان يصيب الطلبة بعض الأمراض المعدية نتيجة لسوء التغذية ورداءة السكن.

وقل من يجد من الطلبة مسكنا غير المسجد، وربما يوجد من بعض المساجد بيوت أعدت لمأوى الطلبة وسكناهم.

 

طريقة الإ نفاق على طلبة العلم:

 لم يكن في القطر الصومالي هيئة خيرية أو حكومية تشرف على التعليم الشرعي، وتموله وترعى شؤونه، كذلك نعرف أن الطالب الصومالي لم يكن لديه في الغالب من المال والإمكانيات ما يكفيه ويفي له حاجته مدة تعلّمه من الأكل والشراب والملبس والدواء وغير ذلك من ضرووريات الحياة التي لاغنى عنها في هذه المدة، بل ولم يكن يستطيع شراء الكتب اللازمة في تعلّمه، كذلك نعرف أن الطالب الصومالي لم يكن في الأغلب الأعم يجد في بيئته وحلته إن كان بدوياً، أوفي بلده وقريته إن كان حضرياً أو قروياً حاجته وبغته من العلم.

ولهذا كان عليه أن يهاجر ويسافر في طلبه للعلم، ويغترب فيه إذا جدّ في الطلب، وهذا هو نفس ما كان يحدث فعلا، وقد يستغرق غيابه عن أهله وذويه سنوات طوال، وقليل  من تعلم في بلده وبين اهله وذويه، إذاً فمن الذي كان ينفق على الطالب ويتولى شؤونه ويرعاه حتى يتم تعليمه؟

إجابة عن هذا السؤال الذي يفرض نفسه هو:

أن الشعب الصومال واهل الخير والمروءة هم الذين كانوا ينفقون الطالب، ويتولون جميع شؤونه ويرعونه،إن هذا الشعب المسلم العريق قد اشتهر من الجود والبذل، والسخاء وحب الخير والإيثار، كان يقوم بمسؤولية الدولة ودور الهيئات الخيرية المنظمة، ولهذا فإن أهل الخير والصلاح منهم كانوا يقومون بالإنفاق على طلبة العلم ورعاية جميع شؤونهم.

والإنفاق على طلبة العلم الغرباء كان يتم بالطريقة الآتية: وهي إذا كان المحل الذي يوجد فيه الشيخ المدرس وتجري الدراسة في البادية، وحضر إلى هذا المكان طالب أوأكثر من غير أهل ذلك المحل، ثم استقروا فيهم وانتظموا في هذه الدراسة، فإن العادة هي:أن يستضيف أهل تلك الحلة جميع هولاء الطلبة الغرباء، حسب حالة الإقتصادية لكل أسرة، حتى انتهاء هذه الدراسة التي انتظم فيها هولاء الطلبة الغرباء.

وفي الغالب لا تكون الدراسة في البادية منتظمة ومستمرة في جميع فصول السنة، بل تنقطع أحياناً ثم تعود فتلتئم حيناً آخر، حسب الأحوال المناخية هناك، وتبعاً لحالة الرخاء والجفاف، وعلى أية حال فإن أهل تلك المنطقة ملكفون أدبياً بالإنفاق على الغرباء ورعايتهم،والقيام بجميع شؤونهم في المدة التي تستمر هذه الدراسة طالت أم قصرت.

أما إذا كان المكان الذي تجري فيه الدراسة ويسافر إليه الطالب للعلم بلداً أوقرية، فيحدث نفس هذا العمل، حيث أن أهل هذه البلدة أوالقرية يستضيفون جميع الطلبة الغرباء، ويقتسمون فيما بينهم، تقوم كل أسرة باستضافة طالب أو أكثر حسب الحالة الإقتصادية لكل أسرة، والإنفاق عليه مدة وجوده هناك، ولكن بفارق واحد وهو أن الطالب بالمدينة قد يطول مكثه فيها،وفي هذه الحالة فالغالب أن الأسرة التي استضافته وتولّت على إنفاقه تقوم ايضاً بجميع شؤونه، وترعاه حتى أنها يعتبر هذا الطالب فرداً من تلك العائلة من جميع الوجوه.

وفي تلك الحالتين، أي حالة أهل البادية وحالة أهل المدن والقرى، فإن معظم الرعاية التي يتلقاها طلبة العلم الغرباء كنت تتم في الغالب باستشارة الشيخ  المدرّس الذي يعتبره جميع الطلبة وخاصة الغرباء منهم بمثابة الوالد، وأنه المسئول عنهم، ولهذا لايألوا جهدا في توفير الراحة لهم حسب استطاعته الشخصية، وتأثيره الروحي لأهل هذا المكان، خصوصاً إذا كان ذا شهرة وسمعة طيبة، وفي بعض الأحيان يكون الشيخ المدرس نفسه غريباً عن المكان الذي يدرّس فيه، وفي هذه الحالة يتولى أهل الخير والمروءة والجود برعايته والعناية به، وجميع الطلبة الذين يدرس لهم أيام وجوده هناك.

وإلى جانب هولاء الخيّرين الذين يتولون الإنفاق على الطلبة الغرباء، يوجد كثير من أهل الخير والصلاح ممن يواسون الطلبة ويمدونهم بمساعدات سخية جداً كلما سنحت لهم الفرصة.

بهذه الكيفية التي شرحناها كان يتم طلب العلم والهجرة أليه، ومساعدة طلبة العلم ورعاية شئؤنهم، وبهذه الكفية تم تعميم الدين الاسلامي الحنيف في جميع أرجاء القطر الصومالي، ونشر مبادئه وتمكين عقيدة التوحيد في قلوب أفراد الأمة وأذهانهم، وبها أمكن نشر العليم الاسلامي والثقافة الاسلامية بين طبقات الشعب الصومالي، والفضل في ذلك كله يرجع إلى الله سبحانه وتعالى، ثم يعود إلى روح التعاون المثمر الذي كان يسود بين افراد الأمة الصومالية، من معلم ومتعلم ومتعاون.

ولقد عرفنا قيما سبق أن المعلم الذي يعلم الأطفال القرآن الكريم في الكتاتيب، كان يتقاضى على هذه المهنة أجراً معلوماً ومتفقاً عليه بينه وبين أولياء التلاميذ، ولكن هذا الشيخ الذي يتولى تدريس العلوم الشرعية والعربية هل كان يتقاضى اجراً على مهنته؟

الجواب عن هذا السؤآل هو: أن الشيخ الذي يمارس مهنة تدريس العلوم الشرعية والعربية في القطر الصومالي، لم يكن إطلاقاً يتقاضى أي أجر على مهنته، لا من الطلبة، ولا من أولياء الطلبة،  ولا من جهة أخرى، وإنما كان يقوم بهذا العمل تطوعاً، وتقرباً إلى الله تعالى واحتساباً، ورغبة منه لنشر العلم والثقافة، وتسليم الأمانة – امانة العلم – إلى من يتحملونها عنه، غير أن المجتمع لتقديره العميق للعلماء، واحترامه الكبير لمركزهم الاجتماعي والديني، كان ولايزال يقدم لهم كل ما يمكن تقديمه من أنواع الاحترام المادي والمعنوي.

أولا: الاحترام المادي: – جرت العادة في المجتمع الصومالي أن يكرّم علماء الدين، ويدعونهم إلى الولائم الفاخرة، فتذبح لضيافتهم الجمال والخراف السمان وغيرهما من أنواع المواشي بكل سخاء وطيب نفس تقديرا لمركزهم الاجتماعي، فتتنافس الأسر في هذا المضمار بدعوة رجل العلم إلى بيتها ومنزلها لتناول الطعام عندها.

والأسرة تعتبر وجود رجل العلم في منزلها فرحة كبيرة وبشرى عظيمة لها، وأن ذلك اليوم هو اسعد أيامها، فالأسر تقدم وتعطي العلماء مختلف الهدايا الثمينة، وأنواع العطايا الغالية، مثل: الملابس الفاخرة، والأدوات المنزلية وغير ذلك من متطلبات الحياة، كما أنهم يتلقون من المجتمع أنواع التكريم والذي يطلق في العرف الصومالي – الزيارة – وتشمل هذه الزيارة أنواع الماشي والمحصولات الزراعية وغيرها.

ثانياً: الاحترام المعنوي : – يمتاز المجتمع الصومالي باحترامه الكبير وحبه الشديد للعلماء، فهم أي العلماء يحتلون المرتبة الأولى في المجتمع، وهم يعيشون في عزة وشرف نادرين، ويكنّ لهم أفراد المجتمع التقدير العميق، ومثال ذلك: أنه في الأعم الأغلب ينظر المجتمع على مجلس العلماء على أنه أشرف المجالس وأجدرهم بالاحترام والتبجيل، إذ أنه تصل د رجة الإحترام إليه والتوقير له أن لايرفع الحاضرون اصواتهم فوق صوت رجل العلم، بل يلتزمون السكوت ويستمعون إلى مذاكراته العلمية وأحاديثه الشقية والتي تدور غالباً حول المسائل الدينية.

المدن المشهورة في الحلقات العلمية في الصومال:

 

1-مقديشو:

 ولها أسماء أخرى مثل: حمر، وبنادر، وأهم وأقدم كتاب عربي  ذكر مدينة مقديشو صراحة هو الرحالة/ ياقوت الحموي في كتابه ( معجم البلدان) حيث أشار إلى ذلك وابتدأ حديثه بضبط اسمها وبعض أوصافها وموقعها، حيث قال:( مدينة في أول بلاد الزنج في جنوب اليمن في البربر في وسط بلادهم، وهولاء البربر غير البربر الذين هم بالمغرب، هولاء سود يشبهون الزنوج، جنس متوسط بين الحبش والزنوج، وهي مدينة على ساحل البحر أهالها كلهم غرباء ليسوا بسودان ولا ملك لهم إنما يدبّر أمورهم المتقدمون في اصطلاح لهم…)

وكذلك ذكرها الرحالة المشهورب ابن بطوطة فقال: ثم سافرنا منها – الزيلع – خمس عشرة ليلة، ووصلنا مقدشو، وهي مدينة متناهية في الكبر، وأهلها لهم جمال كثيرة ينحرون المئين كل يوم، ولهم أغنام كثيرة، وهم تجار أقوياء، وبها تصنع الثياب المنسوبة إليها التي لانظير لها، ومنها تحمل إلى ديار مصر وغيرها، وسلطان مقدشو إنما يقولون له الشيخ، واسمه: أبوبكر بن الشيخ عمر، وهو في الأصل من البرابرة، وكلامه بالمقدشي، ويعرف اللسان العربي.

ومدينة مقديشو مشهورة بالعلم والعلماء، وكانت قبلة طلاب العلم التي كانوا يتوجهون إليها ويقطعون المسافات البعيدة للوصول إليها، وتلقلي العلم من مشائخها.

ومن اشهرهم: الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله المشهور( بالشيخ صوفي) 1245- 1323هــ  وكان يحارب المنكرات وينصح المنحرفين ويعظهم ليلا ونهاراً، وهم يتمادون في منكراتهم ولا يسمعون وعظه ونصيحته، فيقول في قصيدة داعياً إلى الحجاب ومعاتبأ أهل مقديشو بإباحة المنكرات وترك الحجاب  طالباً لهم من الله الهداية والتوفيق.

إلهي أهد أهل مقديشو إنهم : : أبوا أموراً أتى بها الر سول محمدا.

كستر لعورات الرجال وللنساء : : وحجب لهن من السوء يقصد.

كأنّ آية الحجاب أنزل ربّنا : : على غيرهم عمّاً وصمّاً تمرّدا.

إلى آخر القصيدة.

ومنهم الشيخ/ أحمد حاج مهدي توفي عام 1352هــ كان واحدا من أشهر العلماء الذين قاموا بجهود رائعة في مجال اصلاح المجتمع وتنظيمه، وترسيخ قواعد الاسلام في كل من مقديشو وشبيلى السفلى وشبيلى الوسطى، وكان مشهوراً بداسة التفسير كما حكوا.

ومنهم الشيخ/ أحمد ايبكر ” غبيو” 1260- 1352هــ

يعتبر هذا الشيخ من أشهر المصلحين من علماء مدينة مقديشو، واشتهر بلقب “غبيو” لدى العامة، ولقب  “الواعظ” لدى العلماء لشهرته بمواظه العامة في المناسبات الدينية وغيرها بنوع من الشعر الصومالي المعروف باسم  “مسفه Masafo”  وكان عالماً وفقيها وداعية ومصلحاً اجتماعياً ووطنياً، وقاد حركة جهادية، منظمة ضد الطليان في مدينة عظلة العاصمة الأولى للمستعمرة الإيطالية في الصومال.

 

ومن مشائخها المشهورين في الفقه: آل معلم مكرم، الشيخ محي الدين معلم مكرم وابناه: الشيخ/ محمد والشيخ/ ابوبكر، وحدثنا شيخنا عبد الله عبد الرحمن الملقب (بالهلول): أن الفقه الشافعي في الصومال انتشر من هذه الاسرة، ومن الشيوخ الذين أخذوا العلم عنهم الشيخ/ علي سمتر، الذي نشر العلم الشرعي في المنا طق الوسطى وخاصة إقليم مدج وجلجدود، وإليه تنسب “الفرقة السمترية” وهي فرع من القادرية.

                                                                                                                               2-مدينة زيلع:

وهي مدينة مشهورة غلى ساحل البحر الأحمر، وقد زارها الرحالة ابن بطوطة في رحلته المشهورة، فقال: وهي مدينة البرابرة، وهم طائفة من السودان شافعي المذهب، وبلادهم صحراء مسيرة شهرين، أولها زيلع وآخرها مقدشو، ومواشيهم الجمال، ولهم أغنام مشهورة بالسمن.

وقد تخرّج منها علماء أفذاذ نذكر منها على سبيل المثال لاالحصر:

 

1- الإمام جمال الدين أبو محمد عبد الله بن يوسف الزيلعي:

 وهو الإمام الفاضل البارع المحدث المفيد الحافظ المتقن، جمال الدين أبو محمد عبد الله بن يوسف الحنفي الزيلعي، ينسب إلى مدينة زيلع الساحلية التي تقع في بلاد الصومال قبالة سواحل اليمن، كما ينسب إلى زيلع كوكبة من أهل العلم الذين اشتهروا بعلومهم وعلا نجمهم.

ومن آثار الزيلعي ومصنفاته: كتابان مشهوران:

الأول: تخريج أحاديث الكشاف.

الثاني: نصب الراية  في تخريج أحاديث الهداية.

وقد توفي جمال الدين الزيلعي سنة 762هــ

2- الشخ العلاّمة الفقيه فخر الدّين أبو عمر عثمان بن علي بن المحجب البارعي  الزيلعي الحنفي، ولد في منطقة الزيلع التي كان يطلقها الجغرافيون أحياناً غلى أقاليم الطراز الاسلامي، وقد وصل الزيلعي إلى القاهرة سنة 705هـ  واشتغل بالتدريس والقاء الدروس، بل اشتهر بنبوغه وتفوقه في ميادين الفقه واصوله، مما يدل على أنه تلقى علوما كثيرة في بلدته زيلع حتى استوى ساعده، وذلك قبل أن يصل إلى القاهرة التي استقر بها.

أماآثار الشيخ فخر الدين أبي عمر الزيلعي، فكان جلّها في الفقه، وخاصة الفقه الحنفي الذي كان بارعا ومتفوقا فيه، ومن أهم هذه الكتب الفقهية التي انجزها الزيلعي كتابه( تبيين الحقائق بما فيه مااكتنز من الدقائق)  وهذا كتاب يعدّ من اهم شروح كتاب( كنز الدقائق) للشيخ الإمام أبي البركات عبد الله بن أحمد المعروف بحافظ الدين النسفي الحنفي المتوفى سنة 710هــ  وتظهر قيمة شرح الزيلعي من خلال الشروح الكثيرة التي وضعت على كتاب النسفي، إذ ان المحققين ذكروا أن شرح الزيلعي يعدّ من أهم الشروح التي ظهرت.

وقد توفي فخر الدين الزيلعي في القاهرة سنة 734هــ

 

3-مدينة هرر:

 

كانت مدينة هرر عاصمة منذ 1525م وأن عدد الأمراء الذين حكموا 72 أميراً، أولهم السلطان أبوبكر الذي نقل العاصمة من (ذكر) إلى هرر، وآخرهم عبد الله عبد الشكور الذي هرب منها بعد استيلاء ملك الحبشة” منليك” عليها، إن هذه المدينة المنكوبة باحتلال الحبشي كانت في وقت من الأوقات عاصمة القطر الصومالي بأكمله، وكان لها دور عظيم في التعليم الديني والثقافة الاسلامية في القطر عموما، وفي الأقاليم التي تقع في الطرف الغريي للبلاد، ولم يكن هذا الدور الديني والفكري الذي كانت تقوم به مدينة هرر قاصراً في القطر الصومالي وحده، بل كانت لها أيضا شهرة علمية واسعة بين الحواضر العالم الإسلامي، حيث كان يفد إليها طلاب العلم من جميع الجهات من داخل القطر ومن خارجه عبر البحار على السواء، حيث كانوا يتلقون العلوم المختلفة، ويتفهقون على مشائخها الأعلام.

 ومن  أشهر رجال العلم والتعيلم الديني في المدينة الذين حفظ التاريخ لنا أسماءهم وآثارهم العلمية: العلاممة الكبير والولي الشهير كبر خليل، والشيخ العالم العلاّمة هاشم الهرري، والشيخ عمر الرضى بن محمد شمس الدين الملقب بالشيخ أبادر، والشيخ يوسف الكونين، الذي يقال أنه ترجم التهجي بالحروف العريبة إلى اللغة الصومالية. والعلاّمة النحرير الشيخ علي بن عبد الرحمن المعروف بالشيخ علي صوفي، الذي هاجر إلى مقديشو بعد إعتقاله وتحجيم نشاطه، فبدأ نشاطه في نشر الدعوة الاسلامية، وبنى مسجده المشهور: بمسجد الشيخ/ علي صوفي، ونشر علم التجويد والقرآت في ربوع الصومال،وشرق إفريقيا، وكل مكان وطئت فيه قدم الصوماليين في العالم.

والشيخ علي جوهر، الذي اشتهر بنشر العلم في ربوع الصومال، ومن الذين تخرّجوا من مدرسته الشيخ العالم/ محمد معلم حسن، المشهور بتفسير القرآن الكريم، والذي يعتبر الرائد الأول للصحوة المباركة التي عمت البلاد، رحم الله جميع الشيوخ.

ومن المعلوم للجميع أن مدينة هرر وجميع الأقاليم التابعة لها كان قد احتلها الأحباش في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي أي سنة 1887م والمعروف أن الأحباش قوم متعصبون إلى الوحشية، لهذا فإنهم قد احتوا مدينة هرر وأقاليمها، وعاثوا فيها الفساد، وارتكبوا جرائم  يندى لها الجبين، فقتلوا العلماء واحرقوا الكتب الدينية، وهدموا المساجد، وحولوا الجامع الكبير إلى كنيسة، وحاولوا حمل المسلمين على التنصير، واعتناق الديانة المسيحية، ولهذا قضوا كل ما هو اسلامي في تلك المدينة المنكوبة مدينة هرر.

ومنذ الاحتلال الحبشي لمدينة هرر، والأقاليم التابعة لها، توقف دورها هي والمراكز العلمية الأخرى التابعة لها في التعليم الديني، والثقافة الاسلامية، ولم يبق من ذلك إلا بعض مراكز ثانوية تأسس معظمها بعد ذلك التاريخ.

 

4-مدينة بار طيرى:

ظهرت هذه المدينة على مسرح التاريخ الاسلامي في بداية القرن الثالث عشر الهجري وتحديداً 1235هــ عند ما اسسها الشيخ حسن إبراهيم يبرو، وأصبحت مركزاً لجماعته الدّينية التي عرفت باسم ” جماعة بارطيرى” كان مجتمع  بارطيرى مجتمعاً مفتوحاً لكل الناس، وما لبث أن توفي الشيخ إبراهيم بعد أن نظم جماعة دينية دعوية سياسية أصلاحية،  لها قيادة وأهداف ونظام متبع ومؤيدون يدعون الناس إلى تطبيق الشريعة الاسلامية.

 وفي مدينة ” بارطيرى” برز عدد من الفقهاء والشيوخ الذين اضطلعوا في مهمة اصلاح المجتمع وتنظيمه، ومنه الشيخ حسن حرين، والشيخ علي مودي، والشيخ محمد  يوسف، والشيخ عبد الرحمن بارطيرى وغيرهم، وحظي العلماء والفقهاء بمكانة رفيعة المستوى في أعين أفراد المجتمع وفي طليعتهم طلبة العلم، وأصبحت حياة المدرس او الشيخ مكفولة، حيث ألزم الطلاب أنفسهم خدمة مزارع المدرّس أوالشيخ  في موسم الزراعة وموسم الحصاد.

وهكذا اخذ علماء مدرسة مدينة بارطيرى دورا بارزا في نشر الدعوة الاسلامية واصلاح المجتمع وتنظيمه في منطقة ما بين النهرين- جوبا وشبيلى –  في أقاليم :باي وبكول  وجدو  وجوبا الوسطى وجوبا السفلى، وكان لعلمائها وشيوخها صلات وعلاقات بعلماء مدارس مركة وبرواة ومقديشو وغيرها، وبهذه الجهود المتكاتفة بقيت الروح الاسلامية في نفوس المجتمع الصومالي الرعوي والقروي، فصار سدا منيعاً للجهود التنصيرية الذي بذلها المستعمرون المنصرون، وذلك بفضل الله ثم بجهود العلماء والفقهاء الاصلاحيين الذين كانوا يتجولون في الأرياف والقرى والمدن لإفهام الشعب دينه الحنيف وأخلاقه السمحة.

 

5-مدينة مركة:

مدينة مركة من المدن التي أسسها المسلمون الأوائل أبان حركة نشر الاسلام في سواحل جنوب الصومال، ثم ازدهرت نظرا لموقعها الجغرافي الممتاز، وكثرة خيراتها ونشاط أهلها الرائع، ووقوعها على طريق البحري التجاري التقليدي بين زنجبار وبلاد شبه الجزيرة العربية،

وظلت مركة من أهم المراكز الاسلامية على ساحل شرق إفريقيا، واشتهرت بكثرة مساجدها وطلابها، وتنوع ثقافتها حيث كانت تسكن فيها عناصر بشرية مختلفة الأعراق من مهاجري العرب القدامى والمحدثين وقبائل صومالية قدمت من مناطق مختلفة، وعاشت على التجارة.

لقد برز في مركة علماء أجلاّء حازوا شهرة واسعة في مجال إصلاح المجتمع وتنظيمه سلمياً، ونشر العلوم الدينية داخل وخارج مركة، واشتهرت مدرسة مركة الاصلاحية بتخريج فئات من العلماء والفقهاء الذي حافظوا على التراث الاسلامي ولغته العربية.

ومن أشهرهم العلاّمة الشيخ/ علي بن محمد بن صديق المشهور  بالشيخ علي مية الذي عاش فيما بين  1265- 1336هــ وفي الواقع فإنّ من مميزات جهود العلاّمة لإصلاح المجتمع وتنظيمه أن بعث طلاّبه النابغين بعد تخرّجهم من مدرسته إلى قبائلهم ليكونوا قادة المجتمع لنشر العلم والثقافة الاسلامية، والطريقة الأحمدية، وبلغ عدد هولاء حوالي 44 فقيها وصوفياً، ومن بيهم: الشيخ/ محمود حسن، وأخوه  الشيخ/ أحمد حسن إلى قبيلة مجيرتين في شيلابو وجلدغب في إقليم مدج في وسط الصومال، والشيخ/ أحمد وهلية ورسمه، والشيخ داود علسو، والشيخ  ابراهيم الشيخ محمود” الشيخ ابراهيم يرى” إلى قبيلة “وعيسلى” إحدى بطون أبغال في إقليم جلجدود، الحالي، والشيخ محمود أو عثمان، والشيخ موسى عغلى، والشيخ أبيكر عدى إلى “هرتي أبغال” إحدى فصائل قبيلة أبغال، في شبيلى الوسطى الحالي، والشيخ/ يوسف حسن إلى قومه “سليمان” إحدى بطون قبيلة هبر جدر ،في إقليم جلجدود الحالي، والشيخ آدم يرى إلى بطن “عير” إحدى بطون قبيلة هبر جدر في إقليم جلجدود الحالي، وغير هولاء الشيوخ.

 

ومن الشيوخ المشهورين: الشيخ الحاج علي عبد الرحمن فقيه الذي اشتهر ( بحاج علي مجيرتين) نسبة إلى قبيلة مجيرتين المعروفة، وقد رحل لطلب العلم في داخل الصومال وخارجها في البلدان العربية وبلاد الهند، وكان قد استقر مدة في مدينة زنجبار أيام سلطان سعيد برغش،  وله رسائل علمية في الفقه واللغة وكان شاعراً مفوهاً، ورجع إلى مدينة مركة قادماً من زنجبار، ووافه الأجل المحتوم ودفن فيها، رحم الله الشيوخ اللأفاضل.

6-مدينة برواة:

إنها مدينة ساحلية لها رسوخ في نشر العقيدة وتعاليم الدينِ الاسلامي في بكورة أيامه في جنوب الصومال، وتاثرت باللغة السواحلية التي انتشرت في شرق إفريقيا حيث يتكلم سكانها بلغة برواوية تعرف حسب تسميتهم بلغة” شيمبلازي” وبتعد د مساجدها وزواياها، تعدد علماؤها وفقهاؤها الذين أحرزوا شهرة واسعة في مجال تدريس العلوم الدينية واللغوية واصلاح المجتمع وتنظيمه، من أمثال الشيخ نور بن صابري،  والشيخ قاسم بن محي الدين البراوي، والشيخ معلم نوري، والشيخ محمد والد الشيخ أويس القادري، والشيخ/ أويس بن محمد القادري.

7-قرية تليح:

وهناك مركز علمي كبير أخذ دوراً هاماً في التعليم الديني ونشر الثقافة الاسلامية، كان هذا المركز يقع في الشمال الشرقي من البلاد، وهذا المركز كان المقر الرئيسي لحركة الدراويش، التي كان يتزعمها البطل المجاهد والعالم النحرير السيد/ محمد عبد الله حسن.ٍ

إن حركة الدراويش هذه رغم أنها اشتهرت بحركة وطنية سياسية بالدرجة الأولى، إلا أنها كانت في حقيقتها وجوهرها الأساسي حركة دينية، غرضها الرئيسي الاحتفاظ بالدين الاسلامي، والدفاع عن عقيدة التوحيد التي تعرضت في ذلك الوقت للغزوي الفكري والعسكري، والتبشير المسيحي، ذلك الغزو الذي شنه علينا الاستعمار الغربي بكل إمكانياته الهائلة المادية والمعنوية (الحرب النفسي)ولهذا كانت ركة الدراويش قد أخذت دوراً مهماً في التعليم الديني، ونشر الثقافة الاسلامية في القطر الصومالي بجانب حروبها الكثيرة المشهورة ضد الاستعمار واعداء الدين.

وكان من أشهر رجال العلم فيها، السيد/ محمد عبد الله حسن قائد  حركة الدراويش علماً وإدارة، ولكنه عين بعض العلماء لدراسة العلوم الشرعية، منهم زميله ورفيق دربه الشيخ/ أحمد فقيه، والعلاًمة الكبير الشيخ/ عبدلى قريو، والشيخ/ على جوحا، وغيرهم من ائمة الدين والعلم هناك.

ويلاحظ: ان نشاط التعليم الديني بهذا المركز قد توقف وانتهى بانتهاء حركة الدراويش نفسها، وهزيمتها العسكرية على أيدي الاستعمار الإنجليزي.

 

المكتبات العلمية:

أهتم أهل العلم في بلاد الصومال بالكتب والمكتبات منذ زمن بعيد، وقد اشتهر بعض العلماء باقتناء الكتب وجمعها، والمكتبات في البلاد كانت تنقسم إلى نوعين من المكتبات: المكتبات العامة، والمكتبات الخاصة التي تمتلكها شخصيات معينة، وكان بعض العلماء يفتحون بيوتهم لطلبة العلم للإستفادة من مكتباتهم العامرة بالكتب .

وهناك نوع ثالث ظهر في الفترة الأخيرة، وهي مكتبات إشتهرت ببيع الكتب ونسخها وتجليدها، حتى أن الزائر للصومال ولاسيما مدينة مقديشو في أواخر القرن الماضي يلاحظ هذا النوع من المكتبات، غير أن هذا النوع من المكتبات كان يهتم بالكتب الشرعية، ولاتكاد مكتبات مقديشو التجارية تجمع شيئاً غير كتب الفقه والتصوف، وقد انحصرت الحركة الفكرية في هذين المصدرين.

وعلى الرغم من أن الصومال لم تنعم بدولة كبيرة وحدت أراضيها وبسطت سيطرتها على أجزاء البلاد – قبل الاستقلال- إلا أن السلاطين والمماليك الاسلامية التي قامت على البلاد كا لها إسهامات في تطوير الحركة العلمية والثقافية، بل إن بعضهم كان من العلماء، كما أنهم استشاروا العلماء والفقهاء ووجهاء الناس.

ولم يقتصر دعم السلاطين في هذا الإطار وإنما كونوا أيضاً مراكزعلم، ووفروا لطلبة العلم ما كانوا يحتاجون إليه من الكتب والمعلمين، وكان لهم إسهامات واسعة في هذا المجال، وهكذا كان دأب الخلفاء والسلاطين والأمراء في العالم الاسلامي عبر عصوره المختلفة.

وفي عهد الاستعباد الإيطالي بجنوب البلاد، ظهرت مكتبات علمية بصورة بدائية، وكانت هذه المكتبات تخدم مصلحة المستعمر نفسه، حيث كانت تخدم الجالية الإيطالية، وكان للمستعمر في ذلك أهداف متعددة، غير أن أهم أهدافهم في ذلك كان إضعاف القافة الاسلامية التي كانت منبع الثقافة الوطنية للشعب الصومالي.

وفي الفترة نفسها وجدت بعض المكتبات العامة، مثل مكتبة مقديشو العامة، وكانت تحتوي 300 مجلد تفريباً، وإن كان أغلبها باللغة الإيطالية، كما كانت توجد أخرى بمدينة مقديشو تحتوي على 700 مجلداً، وكان مقرها في المعهد الثقافي الاجتماعي، وهي مؤسسة ثقافية تهدف إلى نشر الثقافة العامة، ويبلغ عدد أعضائها المشتركين 300 عضواً، وكان لهذه المكتبة العامرة فروع اخرى في بعض المدن الصومالية الأخرى، مثل فروعها في مدن برواة ومركة وبلدوين.

وهناك أيضاً مكتبتان تابعتان للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، كما أن مكتبة المركز القافي المصري كانت من أشهر المكتبات العلمية في الصومال، وكان مقرها في العاصمة مقديشو، علماً بأن هذا المركز كان ينظم نشاطات  ثقافية عديدة مثل: المحاضرات والندوات وعرض أفلام ثقافية وعربية، ومسابقات علمية للشباب، فضلا عن مكتبة كبيرة عامرة بالكتب والمصادر في مختلف العلوم والفنون، وكانت هذه المكتبة تمتاز عن غيرها بأنها كانت تسمح لقرائها باستعارة الكتب لمدة لا تقل عن أسبوعين متتاليين

كما أنشئت في مطلع الثمانينات مكتبة أطلق عليها ” المكتية الحديثة” وكنت تحتوي على عدد كبير من الكتب والمجلات العربية والأجنبة.

ومن أهم وأفضل المكتبات في مقديشو أيضاً المكتبة التي كانت تابعة لمسجد التضامن الاسلامي الذي بناه الملك فيصل رحمه الله تعالى، وكانت هذه المكتبة تضم صنوفا من المصادر والمراجع في مختلف المعارف والفنون الاسلامية والعربية، وكانت هذه المكتبة تمتاز بأنها تحتوي على بعض الكتب النادرة بالإضافة إلى أهم أمهات الكتب في الشريعة الاسلامية.

 

المراجع:

 

1-  محمد بن عبد الله بن محمد الطنجي ، رحلة ابن بطوطة  المسماة: تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الاسفار.

2- محمد حسين معلم على، الثقافة العربية وروّادها في الصومال، دراسة تاريخية حضارية، دار الفكر العربي ، ط أولى، القاهرة 1432هــ2011م

3-  محمد على عبدالكريم، وأخرون، تاريخ التعليم في الصومال، مطبعة الحكومة بمقديشو 1978م.

4-  أحمد جمعالى محمد، دور علماء جنوب الصومال في الدعوة الاسلامية، أطروحة الدكتوراة غير منشور، جامعة أم درمان الاسلامية، خرطوم،

5- عبدالله عمر نور، مسيرة الاسلام في الصومال الكبير، مقديشو

6-عبدالرحمن طاهر أويس، التحصيل العلمي لمناهج التعليم عند المسلمين

أطروحة الدكتوراة في المناهج، غير منشور، جامعة الخرطوم

DSC08384

 

زر الذهاب إلى الأعلى