مما يزيدني إصرارًا على تناول ملف العدالة في الصومال، ما أمتلكه من خبرة ممتدة في العمل القضائي، ولا سيما في مجال القانون المدني، وتوثيق العقود، حيث تتجلى أمامي يومًا بعد يوم حقيقة راسخة مفادها أن العدالة ليست مجرد جهاز رسمي أو إجراء قانوني، بل هي الركيزة الأساسية التي تقوم عليها استقامة الدولة واستقرار البلد، فهي الميزان الذي تُصان من خلاله الحقوق، وتترسخ به الثقة بين المواطن ومؤسسات الدولة. وفي الصومال التي ما تزال تتعافى من عقود من الصراع والانهيار السياسي، يبدو ملف العدالة أكثر الملفات تعقيدًا وتأثيرًا، إذ يرتبط ذلك بشكل مباشر بقدرة الدولة على بسط هيبتها ضمن النظام الفيدرالي، وتحقيق الأمن، وترسيخ مبادئ المواطنة المتساوية في مختلف الولايات، وعلى الرغم من الجهود المتعددة لإصلاح المنظومة القضائية، فإن الواقع يشير إلى فجوة واسعة بين تطلعات المجتمع وأداء مؤسسات القضاء، في ظل استمرار التحديات التي تعيق تحقيق عدالة عادلة وفعّالة.
تبدو أزمة الثقة في الجهاز القضائي الصومالي واضحة لدى قطاعات واسعة من المواطنين، فالكثيرون يرون أن اللجوء إلى المحاكم الرسمية لا يضمن لهم إنصافًا حقيقيًا، سواء بسبب طول الإجراءات أو ضعف الشفافية أو التدخلات القبلية والسياسية التي تؤثر على مسار القضايا الحساسة، ونتيجة لذلك، يعتمد كثير من الصوماليين على القضاء العرفي أو المحاكم الشرعية لحل نزاعاتهم اليومية، باعتبارها أسرع وأكثر قبولًا في الثقافة المحلية، ورغم أن لهذه النظم التقليدية دورًا تاريخيًا مهمًا، خاصة خلال سنوات غياب الدولة، إلا أن استمرار الاعتماد الكلي عليها يعوق بناء دولة القانون، ويجعل الحقوق خاضعة لاجتهادات قد تتعارض أحيانًا مع معايير العدالة الحديثة.
ولا يقتصر الأمر على أزمة الثقة فحسب، بل يعاني القضاء الصومالي من مشكلات هيكلية عميقة، فالتدخل السياسي لا يزال يفرض نفسه على بعض المحاكم، ويؤثر على تعيين القضاة أو مسار قضايا معينة، وهو ما يضعف استقلالية الجهاز ويقلل من حياده، ويضاف إلى ذلك انتشار الفساد، في ظل غياب آليات فعالة للمساءلة والمراقبة، مما يجعل بعض الأحكام عرضة للتأثيرات الخارجية، كما يعاني عدد كبير من القضاة والمدعين العامين من نقص في التدريب المهني، خصوصًا في القضايا المعقدة مثل الجرائم المالية، العنف القائم على النوع الاجتماعي، والجرائم المنظمة، ما يؤثر على جودة التحقيقات والأحكام.
وتبرز مشكلة أخرى تتمثل في ضعف البنية التحتية للمحاكم، حيث تعمل العديد منها دون أنظمة أرشفة حديثة أو أدوات تقنية تساعد على تنظيم الملفات، وهو ما يؤدي إلى فقدان الوثائق أو سوء إدارتها ويؤثر على سير القضايا، كما أن تعدد المرجعيات القانونية في الصومال—بين القانون المدني، الشريعة الإسلامية، والعرف القبلي—يخلق حالة من التداخل والتضارب في بعض الملفات، خصوصًا قضايا الأراضي والأسرة والتعويضات القبلية، الأمر الذي ينعكس سلبًا على وحدة النظام القضائي وقدرته على تقديم أحكام متساوية للجميع.
وعلى الرغم من هذه التحديات، شهدت منظومة العدالة خلال السنوات الأخيرة بعض الخطوات الإيجابية التي تبعث على الأمل، فقد بدأت الحكومة الفيدرالية في تطبيق مشروع للتحول الرقمي في قطاع العدالة، بهدف ربط المحاكم والنيابات والشرطة والسجون ضمن منظومة موحدة تُسهم في تسريع الإجراءات وتقليل التدخل البشري وتحسين الشفافية، كما تعمل بعض المنظمات الدولية والمحلية على توفير برامج تدريبية للقضاة وإعداد تشريعات تساعد على تحديث النظام القضائي، لكن هناك مطالب متزايدة بضرورة إنشاء هيئة مستقلة لتعيين القضاة ومحاسبتهم، لضمان استقلال القضاء ورفع كفاءته المهنية.
غياب عدالة فعّالة لا يؤثر فقط على عمل القضاء، بل ينعكس بعمق على المجتمع ككل، فعندما يشعر المواطن بأن حقوقه غير محمية، وأن القانون لا يوفر له الإنصاف، يلجأ إلى وسائل أخرى قد تكون عنيفة أو خارجة عن سيطرة الدولة، مما يهدد الأمن والاستقرار، كما يتيح تعثّر المنظومة القضائية مساحة أكبر لبعض الجماعات المسلحة لتطرح نفسها كجهة قادرة على تقديم ما تروّج له باعتباره “عدالة سريعة”، مستغلةً الفراغ الناتج عن ضعف مؤسسات الدولة، وهو ما يمثل خطرًا على سيادة الدولة،إلى جانب ذلك، يعوق غياب العدالة جهود التنمية، لأن تبقى الاستثمارات الهائلة مرهونة بمدى شفافية القضاء ونزاهته، فالمستثمر لا يغامر برأس ماله في بيئة لا تضمن حماية الحقوق ولا توفر نظامًا قضائيًا موثوقًا يمكن الاحتكام إليه عند النزاعات.
ومع ذلك، يبقى الأمل قائمًا في قدرة الصومال على إحداث تحول حقيقي في قطاع العدالة، خاصة مع تطور مؤسسات الدولة تدريجيًا وارتفاع وعي المجتمع بأهمية القضاء المستقل. إن إصلاح هذا القطاع يتطلب إرادة سياسية جادة، واستثمارًا في التدريب والتقنية، وتعزيز ثقافة سيادة القانون، فبناء قضاء نزيه وفعّال ليس رفاهية، بل هو شرط أساسي لاستعادة ثقة المواطن، وتعزيز الاستقرار، وفتح أبواب التنمية أمام البلاد، وفي نهاية المطاف، فإن العدالة ليست مجرد مؤسسة حكومية، بل هي أساس شرعية الدولة وروح المجتمع الصومالي وتطلعاته نحو مستقبل أكثر أمنًا وازدهارًا.





