الهوية جزء جوهري من حياة الإنسان، تتشكل أحيانا من عناصر لا يملك الإنسان إختيارها، مثل العرق والجنس والموقع الجغرافي الذي ينتمي إليه، وأحيانا من عناصر يختارها بإرادته كالدين والفكر والمعتقدات. ولهذا تبدو الهوية ظاهرة معقدة تتأثر بالبيئة والثقافة والتجارب الشخصية على حد سواء.
وفي هذه الدراسة نحاول أن نفهم كيف تدير المجتمعاتوالشعوب هوياتها المتعددة؛ فكل إنسان ينتمي في الوقت نفسه إلى أكثر من هوية، فهو ينتمي لعرق أو قبيلة معينة، وينتمي إلى جنس محدد ذكر أو أنثى، ومعتنق لدين ومعتقدات، وقد يكون في الوقت ذاته أبا وإبنا وأخا وزوجا وأستاذا ومديرا، هذه الطبقات المتداخلة تشكل نسيج الهوية الفردية، وتعبر عن تنوع الإنسان وتفاعله مع مجتمعه والعالم من حوله. وهذه الهويات المتعددة للإنسان هي سلاح تضامن وأداة وحدة، وفي نفس الوقت أداة إختلاف وسلاح تفرق .
فالسؤال الذي يطرح نفسه هو ماهي الهوية؟ وماهو التعريف الجامع المانع للهوية؟ قال إريكسون أكبر عالم للهويات في القرن العشرين: لا يمكن تعريف الهوية ولا يمكن سبر هذا المفهوم، يعني هو موضوع شائك جدا، ولكن هناك تعريف أعجبت به ، قال دكتور نايف بن نهار في تعريف الهوية: الهوية تمييز الذات الجماعية عن نظائرها.
وإنطلاقا من هذا التعريف تتشكل الهوية من خلال المقارنة والتماثل، فطالما لم يكن هناك من يختلف عنا، فإن مفهوم الهوية لا يتجلى. فمثلا، إذا كنت صوماليا أو عربيا من قبيلة معينة، ومسلما، وذكرا، وتمتلك منظومة أفكار محددة، فإن هويتك تتضح حين تقابل شخصا يختلف معك في العرق أو القبيلة أو الدين أو الفكر. الهوية، إذن، هي ما يميزك ويحدد موقعك بين الآخرين، وهي التي تمنح الفرد شعوره بالإنتماء والتميز .
والهوية لا تكون فردية بل هي جماعية دائما، بمعنى أنها تتشكل ضمن جماعة معينة وتشترك فيها مجموعة من الناس، مثل الإنتماء إلى لغة أو عرق أو دين أو منظومة فكرية. ومن هذه الجماعية يولد شعور بالتضامن والوحدة بين أعضائها.
بينما الصفات الفردية البحتة مثل الجمال أو الذكاء لا تشكل هوية بالمعنى الإجتماعي، لأنها لا تولد رابطا أو وحدة بين الناس. فلا يوجد من يزور شخصا آخر أو يبني معه علاقة صداقة لمجرد أنهما جميلان مثل بعض، بينما الإنتماء إلى قبيلة أو دولة أو دين يخلق روابط حقيقية بين الأفراد.
الهوية بطبيعتها تميل إلى البحث عن النظير وليس المختلف. فمثلا، القبيلة تتماهى مع قبائل أخرى تشبهها في البنية أو الإنتماء، وليس مع دولة أو قارة بأكملها، بينما الدولة تتقارن بدول أخرى، ويجدر التمييز بين “النظير” و”المختلف”: فالنظير هو من يقف على مستوى مماثل لنا، بينما المختلف هو من يكون أعلى أو أقل منا في المعيار ذاته.
ومن مميزات الهوية:
- التعددية: فالهوية الفردية تتشكل من عدة عناصر متراكبة. فقد يكون الإنسان في الوقت نفسه مسلما وصوماليا او عربيا، ذكرا أو أنثى، أبا وإبنا وأخا، وأستاذا ومديرا. هذه التداخلات تشكل الهوية الفردية، مما يجعل كل شخص يمتلك شبكة فريدة من الإنتماءات والأدوار.
- القدرة على الإصطناع: من خصائص الهوية أنها قابلة للتشكيل أو الإصطناع حسب الحاجة والسياق. فالأمم والمجتمعات قد تصنع هويات جديدة لتلبية إحتياجات معينة أو لتعزيز التضامن الداخلي، سواء كانت دينية أو فكرية أو أيديولوجية. وهذه الهويات المصطنعة قد تتبناها جماعات معينة دون غيرها، لتصبح جزءا من أسلوب حياتهم وهويتهم الإجتماعية.
- سرعة الإشتعال: من خصائص الهوية أنها قد تشتعل سريعا عند إستفزازها أو تحديها. فمثلا، إهانة قبيلة أو دولة معينة أوإنتقادها يمكن أن يثير نزاعات أو مشاعر عداء قوية بين القبيلتين أو الدولتين، وقد تصل أحيانا إلى صراعات مسلحة.
بقدر ما تكون الهوية أداة للخلاف والإنقسام، فهي في الوقت نفسه أداة للوحدة والتضامن. فمثلا، القبلية التي أثقلت كاهل المجتمع الصومالي على مر العصور لا يمكن محوها من ذاكرة الناس، لكن يمكن تحويل هذا الصراع القبلي إلى تنافس إيجابي في مسارات النمو والتقدم.
النبي صلى الله عليه وسلم قدم مثالا حيا في إدارة الهويات المتعددة، إذ لم يحاول محو إنتماء الأوس والخزرج، الذين كانوا قبائل متصارعة في يثرب قبل قدومه، صراعا إستمر أكثر من 140 سنة. وبحكمته، أنشأ لهم هوية شاملة تجمعهم وتوحدهم، فأطلق عليهم اسم “الأنصار” هوية جديدة إسلامية ستكون مظلة تجمعهم وتجعلهم متضامنين مع بعض، وجعل قبيلة قريش نظيرة لهم وسماهم بالمهاجرين، فكانوا يتنافسون في تعلم العلم والجهاد وإبلاغ الرسالة إلى كافة الناس.
والهويات مقسمة إلى قسمين: - الهوية الحتمية: وهي الهوية التي لم يخترها الإنسان، مثل العرق والقبيلة والجنس. فلا أحد يختار عرقه أو قبيلته أو جنسه، فهي جزء فطري من تكوينه.
- الهوية الإختيارية: وهي الهويات التي يمكن للإنسان أن يختارها، مثل الدين والأفكار والمعتقدات. لكل شخص الحق في تحديد معتقداته وإنتماءاته الفكرية والدينية وفق قناعته.
وتتحول الهوية إلى عنصرية عندما يحاول الناس التفاضل بناء على الهويات الحتمية، أي الإدعاء بأن شخصا أفضل من الآخر لمجرد أنه ينتمي إلى قبيلة معينة أو عرق محدد، في حين أن هذه الهويات ليست خيارا شخصيا. هذه الممارسة تخرج الهوية من إطارها الطبيعي إلى أداة للعنصرية والصراع.
أما التفاضل بالهويات الإختيارية، مثل الدين أو المعتقدات الفكرية، فهو حق مشروع لكل فرد، إذ يعبر عن قناعاته الشخصية وما يعتقده صوابا بالنسبة له. وهذا النوع من التفاضل لا يعد طائفية، فالطائفية الحقيقية تقوم على مهاجمة جماعة معينة لمجرد إنتمائها إلى هذه الفكرة أو هذا المعتقد، بينما نقد الأفكار والمذاهب بشكل موضوعي، مع الإلتزام بالأدلة والمنطق، هو ممارسة صحيحة وحق مشروع للفرد في التعبير عن آرائه دون المساس بالآخرين.
لذلك وضع الله حد للهويات الحتمية، كما جاء في قوله تعالى: “يا أيها الناس إننا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا”، أي للتعارف والتواصل بين الناس وليس للتفاضل والعنصرية، ومن يحاول التفاضل بناء على الهويات الحتمية يكون قد تجاوز حدود الهوية الطبيعية ودخل في مجال العنصرية.
وأول عنصري في التاريخ كان إبليس حينما قال لسيدنا آدم عليه السلام: “أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين”. لأنه إستخدم هويته الحتمية للعنصرية.
المجتمع الصومالي اليوم مجتمع ذو هويات مركبة، تجمعه لغة واحدة وعرق واحد ودين واحد ومذهب شافعي واحد، لكن بدلا من أن تتحول هذه المشتركات إلى مصدر للتضامن، استُخدمت هوية واحدة بطريقة غير صحيحة لتقسيم المجتمع وهي القبلية.
الهوية قوة مزدوجة؛ قد تكون أداة وحدة وتضامن أو سبب صراع وحروب، ونجاح المجتمعات يكمن في إدارتها بحكمة لتحويل التنوع إلى مصدر قوة.





