السودان، رؤى تتهادن مع الإرادة الدولية

منذ أن رفض الكونغرس الأمريكي مشروع قرار تعليق الإعتراف بتمثيل السودان في المنظمات الدولية والأمم المتحدة إلى حين إنتقال السلطة إلى حكومة مدنية أو حكومة منتخبة بات واضحاً للعالم أجمع بأن واشنطن عزمت أمرها وعلناً على إعادة طرح الحسابات الأمنية والسياسية في سودان ما بعد الحرب، وباتت حقيقة عدم قابلية إنهيار الدولة السودانية من الداخل واقعاً يُرى لا يسمع به، وهذا ما عزز فرضية قبول وإستعداد واشنطن لإعادة التعامل مع كافة مكونات الدولة العميقة السودانية وهذا ما سيتكشف مستقبلاً. “وإن لم ترغب به واشنطن أو فلنقل لم تتوقعه بناءاً على رهانها السابق على مليشيا الدعم السريع، ولكنها لا تستطيع منعه اليوم بعد أن فرضت الحرب في السودان ركائز إجتماعية وسياسية وأمنية جديدة صاحبها وعي جمعي كبير تجاوز بمراحل ما هو أكبر من مغامرة التصادم معه ناهيك عن محاولة إسقاطه”.

التقارب السوداني الأمريكي الأخير الذي قاده مستشار الرئيس الأمريكي للشؤون الأفريقية ” مسعد بولس” إنعكس “وفقاً لوجهة نظر إفريقية” على العلاقات السودانية مع “روسيا، والصين”، وبعض الأطراف “المؤثرة” و “الغير متوافقة” إلى حد ما مع الإستراتيجية الأمريكية مثل “تركيا، إيران”، فلو تحدثنا عن الطرف التركي في المعادلة السودانية، فتبدو الخرطوم ومنذ عهد الرئيس السوداني السابق عمر البشير أكثر العواصم الإفريقية فهماً لتوجهات أنقرة في القارة الإفريقية، ويعود ذلك برأيي إلى البوتقة التاريخية العريقة التي حظيت بها الدولة السودانية، والتي كان لها الدور الأكبر في تشكيل هوية المؤسسات السياسية والأمنية والإستخباراتية السودانية على مر العصور، وهو ذاته ما يفسر نجاح السودان في إستيعاب رؤية تركيا التي بدت للمراقب الدولي أقرب لتحدي أطراف إقليمية تحاول منعها من إيجاد موطىء قدم لها في البحر الأحمر، وهذا ما إلتقطته الدبلوماسية السودانية باكراً وعملت على تطوير أدواته، فثلما تدرك أنقرة أن عودة التواجد التركي في البحر الأحمر سيكون من البواية السودانية، فهي أيضاً تدرك بأن الخرطوم وبعد سلسلة متواصلة من الخذلان العربي لملفها باتت اليوم على أتم الإستعداد لإقامة تحالفات إستراتيجية جادة مع كافة القوى الإقليمية التي ترى فيها سودان ما بعد البشير فرصة لإستعادة دورها القديم كلاعب إقليمي محوري في شرق إفريقيا خاصة أن تلك القوى الإقليمية باتت تُشكل رقماً صعباً في السياسة الدولية.

تدرك واشنطن مستوى التقارب السوداني التركي الذي لم يكن يوماً محل رفض أو خلاف بين الأوساط السياسية السودانية حتى تلك المناهضة لما أسمته بــ”إزدواجية حزب العدالة والتنمية”، ولكن جاء اللغط حول ذلك التقارب من خارج إطار الدولة السودانية، وعليه أرجح أن مستوى العلاقات بين الخرطوم وأنقرة ستطرح مستقبلاً بشكل أكثر إستراتيجية خاصة مع الموقف الإيجابي لأنقرة من الأزمة السودانية، ولا أرى بأن أنقرة ستعمل على ضرب المصالح الأمريكية في سودان المستقبل بل ستعمل على مهادنتها.

أما ما يتعلق بطهران، فهناك قناعة أمريكية منذ تولي حكم الإنقاذ السلطة السودان في عام 1989 بأن النموذج السوداني ما هو إلا إستنساخ للنموذج الإيراني وإن إختلفت “الطوائف”، وفي ذات الوقت ترى واشنطن بأن إيران كان ينقصها الثبات الإستراتيجي لإنجاح مشروعها في السودان وهذا ما لم تتدراكه طهران في الوقت الذي كانت أبواب الخرطوم مفتوحة على مصراعيها ويعود ذلك برأيي على تبني الدبلوماسية السودانية نهج الوسطية خوفاً من خسارة المحاور الخليجية التي كانت قد بدأت إنعاش علاقتها بالسودان بعد قطيعة دبلوماسية بسبب موقف الخرطوم من حرب الخليج الثانية 1991.

واليوم ترى واشنطن أن طهران عادت إلى الخرطوم من باب الأزمة السودانية التي يعيشها السودان اليوم، ولكن عودة طهران هذه المرة ليست كسابقتها، فطهران تدرك بأن حرب السودان الأخيرة إنعكست على الفكر الأمني والإستراتيجي للمؤسسة العسكرية السودانية “بإعتبارها الجهة الحاكمة للبلاد مستقبلاً” فلم تعد تلك المؤسسة تحمل ذات الرؤى لداخلها المحلي ناهيك عن إقليمها الجغرافي وهذه رؤية تتوافق فيها طهران وواشنطن وهي ما أطلقت عليها الصحافة الفرنسية ذات مره “Le Soudan et la stratégie de diversification des alliances ” وتعني باللغة العربية “السودان وإستراتيجية تعدد الحلفاء” وهذا ما باتت تحذره الإدارة الأمريكية. (أرى أن مستقبل العلاقات السودانية الإيرانية ستسير مستقبلاً نحو مسار “توافقي” بمعنى وفقاً لما تفرضه المصالح والضرورات الواقعية، ولن تكون مهدداً للمصالح الأمريكية خاصة مع حرص القيادة السودانية الجديدة على كسب المجتمع الدولي وعدم العودة بالسودان إلى دائرة العقوبات الدولية).

أما ما يتعلق بمستقبل علاقة السودان بروسيا والصين فيحضرني موقفاً قد يلخص للقارىء قدرة الخرطوم على “إرباك المشهد” عندما تريد ذلك، وإستدراكها الإستباقي بإنها ستكون ساحة للتنافس الدولي، فيقول أحد الدبلوماسيين أن مدير “Standard oil” أحد كبرى الشركات المالكة لشركة “Chevron” المسيطرة على إستثمارات النفط في العالم جاء ذات مرة للرئيس “عمر البشير” محتجاً وغاضباً بسبب تعاقد الخرطوم مع شركات صينية ومتوعداً بتشديد العقوبات الأمريكية على السودان، فقال له الرئيس البشير حرفياً “لجأنا إلى الصين بعدما حاولنا معكم ورفضتم والعقوبات أضرت بنا خاصة في مجال النقل الجوي والسكك الحديدية، وهذه وإن كانت أضرار إلا إنها ستزول مهما طال الزمن ولكننا عاقبناكم عقوبة أبدية بإدخالنا الصين في إفريقيا، فلقد كانت هناك أربعين دولة إفريقية تقيم علاقات مع تايوان فكان للخرطوم دور في تغيير تلك الوجهة، لذلك فبكين ممتنة للخرطوم”( وهذا الموقف وفقاً للمخابرات الفرنسية أربك الحسابات الغربية كلها ليس فقط الأمريكية، وأطلق حينها “رودجر جسنري” أحد أبرز علماء النظرية الإقتصادية عبارته الشهيرة “Nous devons résoudre l’impasse, Pékin est arrivée” وتعني باللغة العربية “يلزمنا حل المأزق، بكين وصلت”).

مستقبلاً: أرى أن تجربة الحرب الأخيرة منحت القيادة السودانية بذراعها “العسكري، والسياسي” رؤية جديدة للحراك الدولي في القارة الإفريقية وبالتالي ستعمل الخرطوم على المضي قدماً في تبني إستراتيجية تعدد الحلفاء، وستتطور مستقبلاً خاصة فيما يتعلق بالتعاون العسكري والأمني مع الصين وروسيا، ولكن لا أرى أن ذلك سيكون على حساب العلاقات السودانية الأمريكية، فالخرطوم تحرص على علاقتها بالإدارة الأمريكية وسيزداد حرصها على مستقبل تلك العلاقات مع واشنطن، وذلك في ضوء رغبة الخرطوم للتصالح مع كافة المنظمات الدولية وتبديد تلك الصورة السلبية التي وصم المجتمع الدولي بها السودان منذ 1989، أضف إلى ذلك حجم النفوذ الأمريكي في منطقة الشرق والقرن الإفريقي وهذه المنطقة تمثل “العمق الإستراتيجي” للسودان.

التوازنات الإقليمية بدأت تظهر ملامحها في كافة دول الشرق وبعض دول الشمال والوسط الإفريقي “خاصة تلك التي تورطت سلباً في الأزمة السودانية” والتي تدرك تماماً تواضع مستوى صمود مؤسساتها الوطنية في حال تعرضها لذات المأزق الذي تعرضت له المؤسسة العسكرية السودانية ، فبعد أن كانت تلك الأطراف قد ظهرت بصورة المراهن على مليشيا الدعم السريع بإعتباره أداه يمكن من خلالها التأثير على مستقبل السلطة في السودان بدأت تتراجع بعد أن أكتشفت أن الرهان على مليشيا متمردة على شرعية الدولة الوطنية مكلفاً وغير مضمون، وتركها للباب موارباً لم يعد يجدي نفعاً خاصة مع ظهور عناصر عسكرية من تلك الدول تقاتل جنباً إلى جنب مع مليشيات الدعم السريع المتعددة الجنسيات وهذا ما وجدته تلك الدول بأنه سيكون مدخلاً لا تحمد عقباه مع سودان المستقبل، وجعل أنظمة تلك الدول تظهر ليس فقط في الفكر الشعبي السوداني بل إمتد ذلك للفكر الجمعي الإفريقي التي باتت ترى أن تلك الأنظمة باتت من المقوضين لسيادة الدولة الوطنية في إفريقيا، وهذا ما دفع أو فلنقل ما أجبر تلك الأنظمة إلى تبني خطاب أكثر حيادية، وإتخاذ موقفاً أكثر براغماتية، بمعنى فتح خطوط مع المؤسسة العسكرية السودانية دون الإعلان عن عداء صريح لمليشيا الدعم السريع بإنتظار إتضاح الصورة النهائية.

تدرك كافة الأطراف المنخرطة سلباً أو إيجاباً في الملف السوداني بأن التقارب السوداني مع قوى دولية منافسة للولايات المتحدة بات واقعاً بعد هزيمة مليشيا الدعم السريع من السيطرة على حكم البلاد، ولا أرى بأن هناك ردة فعل ستكون لتلك الأطراف “المنخرطة سلباً” في الأزمة السودانية لقناعتها بعدم قدرتها على إرجاع عقارب الساعة إلى الوراء في هذا التوقيت المفصلي الذي يعيشه السودان، ولو إفترضنا جدلاً أن هناك ردة فعل ستصدر منها تجاه الملف السوداني فلا أرى أنها ستكون ذات تأثير ولا كثير أهمية في تغيير الواقع الجديد الذي بات يفرض نفسه في السودان وجوارها الإقليمي، خاصة أن واشنطن كما أشرنا سابقاً لها قدرتها على التفريق بين “المحاور الندية” و”الأدوات”، فالمحاور الندية تدرك التوازنات وبالتالي لا تملك واشنطن أمامها إلا أن تتقاسم معها الدور بعد أن عجزت أن تتقاسم معها الرؤى.

د.أمينة العريمي
باحثة إماراتية في الشأن الأفريقي

د.أمينة العريمي

أمينة العربمي باحثة إماراتية في الشأن الأفريقي
شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى