تمهيد:
منذ اندلاع الحرب الأهلية في الصومال وسقوط الحكومة المركزية في التسعينات، (أدى ذلك) إلى هجرة آلاف من المجتمع الصومالي إلى شتى أنحاء العالم، وخاصة إلى الدول المجاورة بما فيها كينيا، (وقد) شهدت نيروبي تغيرًا تامًا في العقدين الأخيرين.
وانطلاقًا من هذا، أود أن أُعبر في مقالي هذا عن مدى تغلغل الصوماليين في هذا البلد الذي يسمى عند الهنود (البلد العجيب، wonderful country)، وانسجامهم مع الشعب الكيني المعروف بالترحيب والتكيف مع غيرهم، وكيف غيّروا داخل كينيا واستوطنوا واستقروا، ثم أسسوا أسواقًا ومحلات تجارية كبيرة واستثمارات واسعة داخل العاصمة وخارجها، حتى صارت – بفضل الله عز وجل – البلد الثاني للصوماليين بعد تفرقهم في جميع أنحاء العالم، وصارت العاصمة نيروبي جسرًا بين الصوماليين المقيمين في بلد الأم والذين هاجروا إلى الغرب.
المرحلة الأولى: (أيام الاستعمار الأوروبي في كينيا نيروبي)
في هذه المرحلة، التي تُعتبر أقدم مراحل الهجرة إلى كينيا، هاجرت بعض القبائل الصومالية بصحبة الاستعمار البريطاني، سواء عن طريق (التجنيد القسري) أو الحروب الأهلية أو بطرق أخرى. (وقد) تفرقت القبائل المهاجرة في شتى أنحاء شرق أفريقيا، واختلط أغلبهم بالشعوب الأفريقية، وتصاهروا معهم، وذابت هويتهم الصومالية وأصبحوا جزءًا من المجتمع الكيني إلى أن استقلت كينيا عن بريطانيا.
وهذا القسم من المهاجرين لم يترك أثرًا أو إنجازًا يُذكر سوى الحديث المتداول عن أصولهم الصومالية فقط.
المرحلة الثانية: بعد سقوط الحكومة المركزية (1990–2001م)
في هذه المرحلة، وهي الأوسع في تاريخ الصوماليين، خرج معظم المجتمع الصومالي من بلدهم بعد اندلاع الحرب الأهلية وسقوط الحكومة المركزية عام 1990م. ويمكن تقسيم هذه الهجرة إلى قسمين:
أ) قسم هاجروا إلى الغرب
هؤلاء انتقلوا عبر الأمم المتحدة وتركوا كينيا تمامًا. أغلبهم من الطبقة الأولى والنخبة الحاكمة والأثرياء والسياسيين والمثقفين، واستوطنوا في أمريكا وأوروبا. (وقد) أظهروا مواهبهم هناك، وأسسوا حياتهم، وفتحوا مدارس ومساجد، ونشروا القرآن الكريم والحجاب الشرعي. فلا تكاد ترى بلدًا أوروبيًا أو مدينة إلا وتجد نشاطًا للجالية الصومالية في جميع مجالات الحياة. وهذا فضل من الله عز وجل، ثم بفضل العلماء الصوماليين الذين كانوا ضمن المهاجرين، فأنقذوا الناس من الانسلاخ عن دينهم الحنيف، وأفشلوا محاولات نشر المسيحية داخل المجتمع الصومالي، ولله الحمد والمنة.
ب) قسم استقروا في كينيا نيروبي
هذا القسم من المهاجرين استقروا في كينيا نيروبي وأسسوا حياتهم من جديد داخل العاصمة وخارجها. أغلبهم رجال أعمال، والعجيب أن أول من بدأ التجارة في حي “إسلي” كنّ السيدات المهاجرات والمقيمات القديمات، حتى أصبح فيما بعد أكبر مركز تجاري في شرق أفريقيا والقرن الأفريقي عمومًا. ثم توسعت التجارة في جميع أرجاء كينيا، (وكان لهؤلاء) التجار من الرجال والنساء فضل في إعمار كينيا وتغيير أوضاعها، حتى صارت تنهض بصورة رائعة لا مثيل لها إذا ما قارناها بالدول المجاورة. وقد تطورت كينيا في العقدين الأخيرين ولا يزال التطور يزداد يومًا بعد يوم.
وقد أدى هذا التطور والازدهار بفضل الله عز وجل، ثم بفضل الشعب الصومالي المعروف باهتمامه بالدين والقرآن الكريم، إلى انتشار الإسلام وكثرة المساجد والمدارس والكتاتيب والحلقات العلمية. وحيثما يوجد تاجر صومالي مسلم فالإسلام معه، مما أثّر على المجتمع الكيني، فانسجم مع المجتمع الصومالي العريق في الإسلام، وبدأ الكثيرون يعتنقون الإسلام ويفهمون حقيقته، بعدما كان يُفترى عليه من قِبل الكنيسة والمستشرقين عبر الإعلام والمقررات الدراسية في المدارس والجامعات. وأصبح الإسلام أكثر الأديان انتشارًا في كينيا نيروبي وشرق أفريقيا بشكل عام.
المرحلة الثالثة: دخول القوات الإثيوبية إلى الصومال واحتلال العاصمة مقديشو
تُعد هذه المرحلة من أصعب المراحل وأكثرها ألمًا في تاريخ الصوماليين، حيث احتلت الحكومة الإثيوبية كافة المناطق الجنوبية، بما فيها العاصمة مقديشو، بقيادة رئيسها مليس زيناوي (المعروف ببطشه)، واستخدمت شتى أنواع الأسلحة المدمرة بمساعدة أمريكا وحلفائها في المنطقة، مما أدى إلى إبادة الشعب الصومالي بمختلف فئاته من النساء والشيوخ والأطفال، وتدمير البلد تدميرًا لم يشهد له التاريخ مثيلًا.
وبدأت الهجرات مرة أخرى، (وكانت أشد) من سابقاتها في التسعينات، حيث خرج الناس مع عائلاتهم وممتلكاتهم وأسسوا حياتهم في كينيا نيروبي من جديد. ولهذا بدأت النهضة الكينية على أساس “مصيبة قوم، فائدة عند قوم آخرين”، وظهر الازدهار والتقدم التجاري والعمراني داخل العاصمة نيروبي وخارجها خلال العقدين الماضيين.
وقد تم الانسجام الكامل والتفاعل مع المجتمع الكيني المعروف بالتكيف والترحيب بالآخرين. وتفوّق التجار الصوماليون على غيرهم من التجار الهنود، رغم أن الحكومة كانت أحيانًا تضغط عليهم برفع الضرائب أو بعرقلة أعمالهم في الموانئ وغيرها.
وتُعد هذه المرحلة العصر الذهبي لكينيا من حيث التقدم والازدهار والعمران، وتغلغل المجتمع الصومالي في جميع جوانب الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والدينية والمدنية، وذلك بفضل الاستقرار السياسي في نيروبي، والشعب الكيني الذي يُعتبر من أفضل الشعوب الأفريقية انسجامًا وتفاهمًا مع غيرهم. حيث اختلط الكينيون بالصوماليين بحثًا عن فرص عمل أو شراكات تجارية، فاكتسبوا مهارة التجارة والاعتماد على النفس، فلا تكاد ترى تجارة أو فندقًا أو مدرسة أو حتى منزلًا إلا والعمال والموظفون فيه من الشعب الكيني، بفضل حسن تعامل المسلمين الصوماليين وكرمهم. وهذا ما جعل كثيرًا من الكينيين يعتنقون الإسلام، وفشلت بذلك الإشاعات التي تنشرها الكنيسة، والتي كانت دائمًا تسعى لإيقاف المد الإسلامي في شرق أفريقيا وأفريقيا عمومًا.
المرحلة الرابعة: عودة المستغربين إلى كينيا نيروبي (الإنجازات والتحديات)
من الأمور المهمة ذكرها عودة المستغربين (أي الذين عاشوا في الغرب لفترة طويلة) والمهاجرين القدامى إلى كينيا نيروبي خلال العقدين الأخيرين، (فرارًا بدينهم وحفاظًا على هويتهم وأولادهم). وقد لعب هؤلاء دورًا مهمًا وبارزًا في النهضة والعمران، وخاصة في نيروبي، حيث استثمروا أموالهم، وأسسوا محلات تجارية متنوعة وشركات جديدة عالمية، ونقلوا خبرات الحضارات التي عاشوا فيها في أوروبا، رغم تأثرهم الشديد بالغرب.
وقد أنجزوا ما لم ينجزه غيرهم من المجتمع الصومالي المقيم في كينيا نيروبي، وصارت كينيا جسرًا يربط بين المجتمع الصومالي المقيم في الغرب والمجتمع الصومالي المقيم في بلد الأم. كما أن كينيا أصلًا ما تزال (مرتبطة سياسيًا وقانونيًا وثقافيًا وحتى دينيًا) ببريطانيا.
الخلاصة
يُعتبر المجتمع الصومالي مجتمعًا عريقًا في الإسلام، متمسكًا بتعاليمه ومبادئه، ولذلك لم يستطع الاستعمار الأوروبي نشر المسيحية بينهم كما فعل مع غيرهم من الشعوب، رغم احتلاله وتقسيمه لأراضيهم إلى خمسة أ جزاء أثناء خروجه من أفريقيا.
ومنذ ذلك الحين وحتى اليوم، لم تستقر حياة الصوماليين سياسيًا واجتماعيًا، مما أدى إلى انهيار الحكومة المركزية واندلاع الحرب الأهلية في التسعينات، وهجرة الناس إلى شتى أنحاء العالم والدول المجاورة. وبفضل الله عز وجل، صارت كينيا نيروبي البلد الثاني للصوماليين، حيث استقروا فيها وأسسوا حياتهم، وتفوّقوا على غيرهم من القوميات الأخرى في كينيا وشرق أفريقيا في مختلف مجالات الحياة، رغم ضغوط الحكومات وإهمال حقوقهم الوطنية أحيانًا كمواطنين كينيين، إلا أنهم تجاوزوا هذه التحديات والعقبات، وصارت تجارة الصوماليين بارزة في جميع أسواق كينيا وشرق أفريقيا، ولا تزال تتوسع في أفريقيا الوسطى والجنوبية والغربية، ولله الحمد والمنة.
وبانتشار المجتمع الصومالي في شتى أنحاء كينيا وأفريقيا بصفة عامة مع تجارتهم، اعتنق الكثير من الكينيين الإسلام بعدما أدركوا الفرق بين ما تنشره الكنيسة الكاثوليكية وبين دين الإسلام الحنيف. وهذا بفضل الله عز وجل الذي جعل الصوماليين (بديلاً وعوضًا عن العرب بعد طردهم وإسقاط إماراتهم العُمانية في زنجبار) في شرق أفريقيا أيام الاستعمار الإنجليزي الذي احتل البلدان المسلمة شرقًا وغربًا.