تشهد الصومال هذه الأيام العديد من المحاولات للبحث عن مسار جديد نحو عادة تشكيل النظام السياسي في البلاد مختلف عن المسارات السابقة التي كانت مؤقتة ولأهداف مرحلية، حيث تستمر الجهود والمناقشات من أجل إيجاد دستور دائم ، واستكمال عملية بناء الولايات الاقليمية، بالإضافة إلى إجراء انتخابات مباشرة، لكن هذه المحاولات وتلك الجهود تواجه تحديات وعقبات كبرى تتمثل في الانقسامات السياسية، وضعف المؤسسات الحكومية، واستمرار تهديدات تنظيم الشباب، إلى جانب التدخلات الإقليمية والدولية، وهناك احتمال في أن يفشل المسار الجديد ما لم توضع في الحسبان الشروط الرئيسية لانجاح مثل هذه المسارات .
في هذه المقال، نحاول تحليل الملامح الجديدة لهذا المسار السياسي الناشئ، ورصد التحديات البنيوية والسياسية التي تعيقه، واستشراف الآفاق المستقبلية التي يمكن أن يتجه إليها، في ظل التحولات الجيوسياسية في منطقة القرن الإفريقي، وخصوصا في السودان وإثيوبيا، وتغيّر ديناميكيات الدعم الخارجي المحبط من النتائج المحرزة، ورغبة الداخل الصومالي المتزايدة في إنهاء المرحلة الانتقالية الطويل لكن بدون ثمن باهظ.
أولا: الخلفية التاريخية لعملية إعادة بناء النظام السياسي الصومالي
انهارت الدولة المركزية في الصومال عام 1991 ودخل البلاد في أتون حرب أهلية استمرت بشكل دائم ومتصاعد نحو ثلاثة عقود من الزمن. تلك الحرب لم تقتصر على الحدود الصومالية وإنما بدأت تؤثر على دول منطقة القرن الأفريقي الأمر الذي دفع تلك الدول إلى التدخل لإنهاء الحرب، ولإعادة تشكيل النظام السياسي في البلاد، وجرت محاولات كثيرة في هذا الصدد، حيث عقدت مؤتمرات في كل من جيبوتي، وإثيوبيا ، ومصر، وكينيا، واليمن مثل مؤتمر جيبوتي الأول الذي عقد في يونيو عام 1991 وشارك فيه عدد من قادة الفصائل السياسية والعشائرية الصومالية ، وتمحضت منه حكومة علي مهذي محمد ، ومؤتمر أديس أبابا للمصالحة الوطنية عام 1993 برعاية الأمم المتحدة ، والذي شارك فيه أكثر من 15 فصيلا صوماليا ، حيث جرى خلال المؤتمر توقيع وقف اطلاق النار، وانشاء مجلس وطني مؤقت ، ومؤتمر القاهرة للمصالحة الصومالية نوفمبر عام 1997 لجمع الفرقاء الصوماليين المتحاربين. لكن كل هذه المحاولات باءت بالفشل، وأن من أبرز أسباب هذا الفشل كان غياب الثقة والتوافق السياسي، ومحاولة طرف واحد الهيمنة والتفرد بالحكم على حساب الأطراف الأخرى الفاعلة، واستمر الحال على هذا المنوال حتى جاء مؤتمر عرتا في جيبوتي عام 2000 الذي حقق قدرا من النجاح وخصوصا فيما يتعلق بإعادة تشكيل النظام السياسي في الصومال، وتمكن من طرح مسار سياسي يوزيع السلطة على القبائل المتحاربة، وهذا ما بات يعرف اليوم بمسار عرتا، وجميع الأطراف تشيد به لما يحظى من توافق سياسي وقبلي.
اعتمد مسار عرتا عام 2000 ومن بعده مؤتمر المصالحة في إلدوريت وإمبغاتي بكينيا ( 2002-2004) على نظام فيدرالي وفق معيار 4.5 لاختيار القيادات ، وتم تشكيل حكومات فدرالية مؤقتة مثل حكومات عبد القاسم صلاد حسن(2000-2004) وعبد الله يوسف (2004-2008)، وشيخ شريف (2009-2012 وهذه الحكومات رغم فشلها في أداء مهامها بشكل صحيح نتيجة صغوط أمراء الحرب وقيادات المليشيات القبلية، والتدخلات الأجنبية الا أنها وضعت اللبنة الأولى لأول مسار سياسي نحج في إنشاء أول نظام سياسي صومالي بعد انهيار الدولة المركزية، ومهدت الطريق لوضع دستور مؤقت يحظى بتوافق جميع الأطراف.
في يوليو 2012، اعتمد الصومال ما يُعرف بـ “الدستور الفيدرالي المؤقت“وذلك في ختام المرحلة الانتقالية التي بدأت عام 2000. جاء هذا الدستور ضمن جهود دعمها المجتمع الدولي والأمم المتحدة، لتأسيس قاعدة قانونية لنظام سياسي فيدرالي جديد، بعد عقود من انهيار الدولة المركزية. وقد صادق على هذا الدستور المجلس الوطني التأسيسي المكوّن من 825 عضوًا، وشكّل الأساس لقيام حكومة فيدرالية دائمة بعد نهاية ولاية “الحكومة الانتقالية الفيدرالية”، وأعلنت الولايات المتحدة الأمريكية اعترافها رسمياً بالحكومة الصومالية، وكانت المرة الأولى التي تعترف فيها الولايات المتحدة بنظام سياسي في مقديشو، منذ انهيار نظام الرئيس محمد سياد بري عام 1991.
كان المسار السياسي الذي بدأ من مؤتمر عرتا عام 2000 نافذ المفعول إلى عام 2022 ، وكانت جهود جميع الحكومات التي مرت بالبلاد خلال تلك الفترة منصبا على تثبت الحكم الفيدرالي ، وتقوية المؤسسات الحكومية وخصوصا المؤسسات العسكرية والأمنية، بيد أن الحكومة الحالية برئاسة الرئيس حسن شيخ محمود تحاول اليوم على تغيير هذا المسار وتجربة مسار جديد عنوانه الأبرز وضع دستور دائم ، وإجراء انتخابات مباشرة من أجل ايجاد حالة سياسية مغايرة عن الحالات السابقة تتسم بالإستمرارية بعيدا عن التمرد السياسي والاضطرابات المتكررة في ظل غياب آلية واضحة لتدوال السلطة وإطار قانوني ودستوري متفق عليه.
ثانيا: ملامح وسمات المسار الجديد
بدأ هذا المسار الجديد قبل فترة، لكن يتشكل وتظهر ملامحه في الآونة الأخيرة أكثر وضوحا ، وبات للجميع بعد إعلان الرئيس حسن شيخ محمود عن مشروع التعديلات الدستورية وهجومه العلني على رئيس ولاية جوبالاند أن النظام السياسي الصومالي في ظل حكمه لن يكون كسابق عهده ، وأن من أبرز ملامح هذا المسار مايلي:
- إعادة تعريف النظام الفيدرالي وإرساء قواعد نظام فيدرالي أقرب إلى النظام المركزي ، حيث تجتمع السلطات في أيدي الرئيس ، ولا يوجد استقلال فعلي للولايات الاقليمية حتى في القضايا التي يخولها الدستور الصومالي المؤقت عبر الخطوات التالية:
- اجراء تعديلات على الدستور الحالي وبما يتوافق مع هذه الرؤية
- إلغاء نظام المحاصصة القبلية المعروفة بـ (4.5) تدريجيًا وتأسيس انتخابات مباشرة تنهي الانتخابات غير المباشرة التي كانت دائما عقبة أمام عودة الرئيس الحاكم إلى السلطة من جديد
- تحويل النظام البرلماني إلى نظام جمهوري ، وإلغاء منصب رئيس الوزراء الذي كان يلعب دورا محوريا في التوازن السياسي بين القبائل الرئيسية في الصومال ، واستحداث منصب نائب رئيس بروتوكولي بدلا منه
- تقليص سلطات الولايات الاقليمية ، وخصوصًا فيما يتعلق بملفات الأمن ، والاقتصاد ، والانتخابات ، والعلاقات الخارجية. خلال السنوات الماضية سئمت الحكومات المركزية من تمرد بعض الولايات الاقليمية على قراراتها وعرقلة مشروعاتها السياسية والأمنية ، وبالتالي فمقترحو هذا المشروع يرون أن الطريق الأمثل لكبح جماح هذه الولايات المتمردة ولي ذراعهم، ومنع حدوث تمرد آخر في المستقبل هو:
- تفتيت هذه الولايات وتقسيمها إلى العديد من الكيانات
- زيادة عدد الولايات الاقليمية ، حيث يتم إنشاء ولايات اقليمية جديدة مثل ولاية خاتمو في بونت لاند، ولاية غذو في جوبالاند، وولاية هيران لاند في هيرشبيلي ، وشبيلي لاند في جنوب غرب الصومال.
- ويعتقد مهندسو هذا المشروع أن إنشاء مثل هذا الولايات سيضعف الحكومات الاقليمية الحالية ، ويكسر شكوتها ويمنعها من بعض الإمتيازات ويغرقها في مشاكل قبلية داخلية مما يجعلها في نهاية المطاف ضعيفة ومنهكة ماليا وعسكريا وتنصاع لما تملى عليها من سياسات وقرارات سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي أو على الأقل تمنعها من الحديث بإسم مكونات قبلية رئيسية.
- تقويض قدرات الجماعات المسلحة وإعادة سلطة الحكم في أكبر عدد ممكن من الاقاليم الصومالية إلى أيدي الحكومة الفيدرالية مما يسهل لها الوصول إلى عواصم الولايات البعيدة مثل كسمايو وغروي وغيرهما، وتتركز هذه الإستراتيجية على أن يتم تحرير الطرق الرئيسية التي تربط العاصمة مقديشو بالاقاليم الكبرى وخصوصا الطريق الرابط بين مقديشو وبيدوا من ناحية والطريق بين مقديسو وكسمايو من ناحية أخرى.
- الاعتماد على قوى خارجية جديدة مثل الصين وتركيا التي لا تخاف من ضغوط الغرب ، ولا تشترط اصلاحات سياسية ، وديمقراطية، واحترام حقوق الانسان مقابل دعمها. وفي المقابل تتعهد الحكومة المركزية لهذه القوى بالوصول بحرية إلى الموراد الطبيعية ، والأسواق والمواقع الجيوسياسية للصومال.
ثالثا: المسار الجديد …. التحديات والعقبات
تواجه المحاولات الجارية لإرساء مسار سياسي جديد بالبلاد، عقبات كبرى تتمثل في:
- الصراع المحتدم بين المركز وبعض الولايات، حيث يواجه المسار معارضة شرسة من قبل ولايتي بونت لاند في الشرق وجوبالاند في أقصى الجنوب، وفي حال استمر هذا الصراع فإنه من شأنه أن يؤدي إلى تقسيم البلاد وظهور مناطق ستحذو حذو منطقة أرض الصومال التي اعلنت انفصالها عن الصومال عام 1991
- استمرار تهديد الجماعات المسلحة كحركة الشباب التي ما تزال تسيطر على مناطق واسعة، وتحاول استعادة السيطرة على مناطق فقدتها أثناء الحملة العسكرية التي شنتها الحكومة الفيدرالية مطلع عام 2022 على معاقل الحركة وسط البلاد، وقد سيطر تنظيم الشباب بالفعل خلال الايام الماضية على مناطق مهمة في وسط البلاد تم تحريرها العام الماضي ، مستغلة من انشغال الحكومة بملفات سياسية داخلية وخارجية معقدة.
- يفتقر المسار الجديد إلى التوافق السياسي وأن هناك معارضة شديدة من قبل الشخصيات البارزة في الساحة السياسية وبعض الأحزاب و القوى المدنية ، وأنهم يتهمون الحكومة المركزية بعدم الجدية في مفاوضاتها مع قوى المعارضة المختلفة بشأن المسار الجديد ومصير البلاد .
- ضعف المؤسسات التنفيذية والقضائية وانعدام الكفاءة الإدارية
- الاعتماد المفرط على التمويل الخارجي وشروط المانحين التي لا تتوائم مع تطلعات الرئيس حسن شيخ محمود بشأن النظام السياسي في البلاد.
- غياب إجماع وطني على شكل الحكم الفيدرالي وتوزيع الصلاحيات.
- وجود دول اقليمي مؤثرة تنظر إلى المسار الجديد بعين الريبة والشك
- بالإضافة إلى ذلك توجد مشكلة أخرى أكثر تعقيدا وهي اقتراب فترة ولاية الرئيس حسن شيخ محمود من نهايتها، ولم يتبق منها سوى أقل من عام ، وبالتالي من الصعب إنجاح هذا المسار خلال تلك الفترة الوجيزة، لكنه كاف في خلق مشاكل جديدة للرئيس القادم.
رابعا: التوقعات المستقبلية والاحتمالات الممكنة
يمكن تلخيص الاتجاهات المحتملة والفرص والتحديات في آفقين إيجابي وسلبي:
- فالأفق الإيجابي يتمثل في احتمال نجاح المفاوضات بين الرئيس وقوى المعارضة التي يتوقع ان تستأنف في 10 من شهر أغسطس المقبل، والتوافق على خارطة تفضي إلى الاعتماد على دستور دائم توافقي يُنهي المرحلة الانتقالية.، ويسهل الانتقال إلى انتخابات مباشرة بدلًا من نظام 4.5. بالإضافة إلى توسيع الشرعية السياسية من خلال تمثيل مجتمعي حقيقي وهذا الطريق رغم قلة فرص نجاحه هو الأقل تكلفة والأفضل مسارا.
- أما الأفق السلبي ، فيتمثل في استمرار الخلافات بين الحكومة الفيدرالية والمعارضة من ناحية والحكومة المركزية وبعض الولايات من ناحية أخرى، وعودة النزاعات القَبَلية والاستمرار في انشاء إدارات اقليمية لا تحظى بالتوافق، في ظل ضعف مؤسسي مزمن يعوق أي تحول سياسي جذري ، إلى جانب تأثير التحالفات الخارجية على السيادة السياسية الصومالية.
التوصيات :
الرئيس حسن شيخ محمود أمام فرصة ذهبية لإنتشال الصومال من دوامة العنف، وبناء دولة القانون، لكن الأمر يتطلب إلى إرادة حقيقة صادقة تنظلق من قراءة واقعية للحقائق السياسية والاجتماعية والأمنية في البلاد . وإذا توفرت هذه الإرادة ، فالخطوة التالية التي ينبغي القيام بها تكون :
- الإعلان عن مسار حوار وطني حقيقي شامل
- توسيع قاعدة الحوار الوطني بشأن الدستور الدائم وخصوصا مع الجهات الفاعلة في الساحة السياسية، وتشكيل لجنة وطنية تضم خبراء قانونين ودستوريين تعيد النظر في مشروع تعديل الدستور والانتخابات وتضع في الحسبان معالجة قضية توزيع السلطة بشكل عادل
- تشكيل مجلس وطني محايد يضم شخصيات يعرف بالوطنية والنزاهة ونظافة اليد، ولديه صلاحية كاملة، ومدعوم فنيا من المجتمع الدولي يقوم بإدارة مسار الحوار الوطني الشامل، ويعمل المجلس في:
- تحديد معالم النظام السياسي الصومالي
- إصلاح النظام الانتخابي وبما يتوافق مع تطلعات الشعب الصومالي عبر تشكيل لجنة انتخابية محايدة تحظى بموافقة الأحزاب السياسية والحكومات الاقليمية المعارضة
- الاشراف على مراجعة الدستور المؤقت وضمان التعديلات المطلوبة
- مراجعة صلاحيات الحكومة المركزية والولايات، بشكل متوازن وواضح
- وضع آلية مؤسسية دائمة للتنسيق بين الحكومة والولايات تضمن مشاركة الولايات في اتخاذ القرار الوطني
- الاتفاق على آلية لتوزيع الموارد والضرائب
- تعزيز التعاون مع الدول الشقيقة والصديقة التي لا تحمل أجندات أخرى سوى استقرار الصومال وخروجه من دوامة العنف
- تحديد معايير واضحة للفيدرالية ونموذج أكثر وضوحا لتوزيع السلطة والثروة
- إعادة بناء المؤسسات القضائية والعدلية وبما يتواءم مع المرحلة الجديدة
- إنشاء المحكمة الدستورية التي تفصل في النزاعات بين الحكومة المركزية والحكومات الفيدرالية
- تحصين المسار السياسي من التدخلات العسكرية والنزاعات القبلية