الفيلق العربي الذي خدم للاستعمار الإيطالي في الصومال

في غزوها لأفريقيا، اعتمدت القوى الاستعمارية الأوروبية بشكل كبير على تجنيد “القوى  العسكرية” المحلية، لأسباب تتراوح بين توفير التكاليف ، وقدرة العناصر المحلية في مقاومة بشكل أكبر المناخ الصعب والأمراض. واستمر الاعتماد على القوات العسكرية المحلية من قبل قوى الاستعمار الأوروبي بشكل مماثل بعد الاستيلاء على أفريقيا، حيث تم توظيف الجنود الأفارقة بشكل منتظم للسيطرة على الأفارقة الآخرين وإخضاعهم.

لقد  تأسست القوات الاستعمارية المحلية،  بشكل خاص لفترة الغزو الاستعماري ــ النصف الثاني من القرن التاسع عشر ــ ولعبت هذه القوات دورا بارزا  خلال الحربين العالميتين، أو في الحالة الإيطالية، أثناء غزوها  لإثيوبيا. ولكن وظيفة القوات المحلية لم تقتصر على مجرد استخدامها كقوة هجوم والصدمة  في الحملات العسكرية، بل شملت أيضاً السيطرة بشكل تام  على الحدود والسكان المحليين ، الذين لم يكونوا في كثير من الأحيان خاضعين بالكامل. وفي الوقت نفسه، كان تجنيد العناصر المحلية من الأفارقة وغيرهم يمثل استراتيجية مشتركة بين جميع القوى الاستعمارية، وكانت الخدمة العسكرية المحلية، واختيار أولئك الذين يمكنهم الوصول إليهم، شكلاً من أشكال السيطرة والفهم وكسب ولاء السكان المحليين.

ففي السطور القادمة نستعرض بشكل مجمل، مراحل نشأة القوات العسكرية الاستعمارية المحلية أو ما بات يعرف بـ (r. corpo di truppe indigene) والتى لعبت دورا محوريا في استيلاء المستعمرات الإيطالية بشرق أفريقيا، ونسلط الضوء بصورة خاصة على العناصر العربية التي خدمت في الصومال،  ومراحل تطورها من النشأة  إلى بداية عملياتها العسكرية مرورا بعملية التجنيد، وكيف وأين كانت تتم، والاختبارات التي يخضع بها المرشحون للتجنيد، وانتماءات المنتسبين لها، وفصول المعارك التي هم كانوا أبطالها أثناء فترة عملها في الصومال.

 كانت بداية دخول الاستعمار الإيطالي في الصومال عبر الشركات التجارية الإيطالية، بتشجيع من الحكومة، وهي التي مهدت الطريق للاستعمار. في عام 1889 بدأت  المفاوضات بين إيطاليا وزنجبار وبريطانيا العظمى بشأن استئجار الموانئ بنادر(مقديشو، براوة، مركة، وورشيخ) وفي هذه الأثناء أطلقت البحرية الإيطالية عدة بعثات لاحتلال المنطقة الواقعة بين تلك الموانئ. كانت هذه الأراضي ظاهريا تحت سلطة سلطان زنجبار، ولكنها في الواقع كانت تحت سيطرة عدد كبير من الزعماء المحليين. حصلت شركة فيلوناردي التجارية  نيابة عن إيطاليا  برعاية بريطانية من سلطان زنجبار على أراضي بنادير في الجنوب عبر عقد إجارة لمدة 50 سنة، والتي اشترتها الحكومة الإيطالية  فيما بعد من سلطان زنجبار وذلك في عام 1905. ومع التوسعات والتوغلات العسكرية اللاحقة في الداخل، واتفاقيات الحماية مع سلطنتي ميجورتينا وأوبيا، استمر التوسع الاستعماري الإيطالي في الشمال الشرقي وفي الوسط. وفي عام 1908  أصبحت الأقاليم الجنوبية تحت الإدارة الإيطالية المباشرة، وأدت إلى إعلان “المستعمرة الإيطالية الثانية” في الصومال الإيطالي، وعاصمتها مقديشو. إن السيطرة الفعلية على أراضي المستعمرة، والتي بدأت في البداية بإدارة تجارية، لم تتم إلا مع ظهور النظام الفاشي من خلال القمع العسكري القاسي للسكان المتمردين.

وفي فترة إدارة الشركات التجارية المتعاقبة (شركة فيلوناردي أولا وشركة بنادر لاحقا) كانت السلطات الزنجبارية وعلى رأسها الوالي الزنجباري تتولى إدارة بنادر كالقضاء، والجمارك وشؤون القبائل  لكن تحت إشراف المقيم الإيطالي. الإدارة الزنجبارية كانت ضعيفة وفاسدة  تقتصر سلطتها في المدن الساحلية،

في ظل إدارة شركة فيلوناردي، وشركة بنادر كان عدد الأفراد المسلحين في القوات الزنجبارية تقريبا حوالي 300 جندي مسلحين بالبنادق فقط. وكان مهام هذه القوات حفظ النظام العام وأمن موانئ بنادر البحرية، وكانت غير منظمة وغير منضبطة.  فأداؤها كان ضعيفا جدا بسبب سوء التسليح وقلة الأجور التي يتقاضاها الجنود، أما مناطق خارج المدن فلا نفوذ لوالي زنجبار وكانت بأيدي رجال القبائل الذين لا يخضعون دائمًا لسلطة الوالى الزنجبارية، بل العكس تمارس القبائل نفوذها على المدن بشكل قوي من خلال تحكمها على جميع منافذ البرية للمدن ، وطرق القوافل التجارية في الداخل، والأراضي الزراعية. وازدادت سطوة القبائل وغطرستها ضد الإدارة بعد مجيء الإيطاليين عنفوانا وقوة ورفضت رفضا قاطعا التعامل مع الأمر الواقع الجديد، وتدهورت الأوضاع بشكل متسارع إلى أن تحولت إلى حرب مفتوحة بين القبائل والإدارة الاستعمارية الإيطالية الجديدة.

 ومع تطور الحوادث وظهور ثورات تحررية مسلحة في بنادر، وعدم قدرة القوات العسكرية الموجودة (chiropotos) في سيطرة الوضع، وصعوبة تجنيد أفراد من القبائل المحلية في بنادر لصالح المحتل.  قرر الإيطاليون جلب قوات عسكرية إريترية من مستعمراتها في إريتريا ومع ذلك لم تكن كافية لوأد وإخماد الثورة، ولهذا لجأت إلى المرتزقة الإريتريين واليمنيين، وإنشاء وحدات عسكرية غير إيطالية. 

قبل إنشاء الوحدات الحقيقية، كما حدث في إريتريا، بادر الإيطاليون إلى إجراء اتصالات مع الميليشيات المحلية التي التقوا بها فور وصولهم إلى الصومال. عند تتبع تاريخ عمليات التجنيد التي قام بها الإيطاليون في جنوب الصومال، يتبين أن عمليات التجنيد شملت ميليشيات كانت موجودة بالفعل في بنادر عند وصول المستعمرين. وعلى النقيض مما قيل عن العسكريين الإريتريين العاملين مع المستكشفين الأوروبيين وعن ما سيقال عن الوحدات الصومالية الأخرى، وخاصة الدبات، dubat فإن مصادر المستعمرين لا تصف هؤلاء الرجال المسلحين (العرب) التعبيرات العنصرية   فحسب بل تنغمس دائماً في انتقادات وإهانات قاسية، مليئة بـالتمييز العنصري والازدراء الاجتماعي. وفي بعض الحالات، تشير المصادر إلى أنهم عرب “أصليون” من المناطق الساحلية في بنادر، وبالتالي فهي تنتمي إلى السكان العرب الذين عاشوا في الصومال. وفي وثائق أخرى، يقال أيضًا أن جذورهم تعود إلى أفراد هاجروا من بعض مناطق شبه الجزيرة العربية، مثل حضرموت، لممارسة هذه المهنة ويتم وصفهم بأنهم “أشرار” مسلحون، ومجهزون بشكل سيىء، وأجورهم أسوأ أيضا، بالإضافة إلى الخناجر والسيوف، كان هؤلاء الأفراد مجهزين ببنادق قديمة للغاية،

كان هذا هو الوضع الذي واجهه فيلوناردي والإيطاليون عندما استأجروا موانئ بنادر، وظل الأمر كذلك، مع تعديلات طفيفة، حتى عامي 1904 و 1905، عندما تم إنشاء أول وحدات عسكرية غير إيطالية في الصومال.

في عام 1904، اندلعت ثورة بيمال المسلحة الكبرى،  والتي شكلت خطرا وجوديا على الإيطاليين وبالتالي أصبحت حاجة الإيطاليين لمزيد من القوات المقاتلة ملحة،  وفي العام التالي، تولت الدولة الإيطالية السيطرة المباشرة على بنادير. من بين الإجراءات الأولى التي وافقت عليها الإدارة الجديدة هي إنشاء هيئة عسكرية محلية (r. corpo di truppe indigena) وهيئة أمنية محلية (r. corpo di polizia indigena)، وكانت القوات الزنجبارية العاملة في بنادر والتي سبق ذكرها والمعروفة محليا  chiropotos وتعنى (أصحاب القمل) إزدراءً بسبب هيئتهم الرثة ومظهرهم السيء، وملابسهم البالية والوسخة نواة قوات r.corpo truppe coloniali indigena إلا أن العدد المتوفر  بدا غير كافٍ، لقمع المقامة، فاضطرت إلى الشروع في عمليات تجنيد جديدة في الخارج، إذ كان من المتوقع أن تكون هناك حاجة إلى 500 فرد على الأقل في كل عام .  وركّزت عمليات البحث حصريًا على اليمن، وخاصة المكلا.  وعلى الرغم مما حدث لشركة بنادير قبل عامين  من صعوبة التجنيد نتيجة التضيقات من قبل بريطانيا، فقد اتصلت السلطات الإيطالية سابقا بنظيرتها البريطانية، والتي أعلنت أنها لن تعرقل عمليات التجنيد، بشرط ألا يتم تجنيد أي من رعاياها. وهكذا،  اضطرت السلطات الإيطالية على الاتصال مجددا بالسلطات البريطانية لطلب الإذن بتجنيد الرجال في سلطنتي لحج والمكلا.

ذهب ضباط التجنيد الإيطاليون إلى عدن لتجنيد المرتزقة لإرسالهم إلى الصومال. ولم يكن البريطانيون المسيطرون على عدن، يؤيدون دائماً عمليات التجنيد هذه، الأمر الذي تَطلّب في بعض الحالات من الإيطاليين دفع رشاوى للسلطات المحلية والرجال ذوي النفوذ  من شيوخ القبائل. الضابط جيراردو بانتانو، أثناء عملية التجنيد في عدن، قام برشوة قائد شرطة، لكنه لم يحدد جنسيته. وبحسب مذكراته، كان البريطانيون ضد هجرة الرجال الذين يسكنون في الأراضي الخاضعة لحمايتهم، بيد أنهم سمحوا بإبرام اتفاقيات مع الزعماء المحليين في المناطق المجاورة. ويتم فحص المرشحين من قبل أطباء اُعد خصيصا لهذا الغرض. ومن ثم  يتم إرسال أولئك الذين نجحوا في الاختبار إلى جزيرة من جزر البحر الأحمر،  حيث يتم  استقبالهم وإيوائهم في بعض الأكواخ الخشبية. ويقوم أحد المقاولين بتزويدهم بالطعام خلال هذه الفترة، قبل أن يتم نقلهم إلى المستعمرة الإيطالية، حيث يزودهم بالتمر والسمك والأرز والزبدة. لقد قاتل هؤلاء الرجال في وحدات العسكريين في بنادر بعد أن وافقوا ووقعوا على عقد لفترة لا تقل عن عامين ويحظر عليهم ممارسة أي عمل آخر كالتجارة أثناء خدمتهم، ولكن  ما يتقاضون من الأجور تسمح لهم  بتجميع مبلغ  كبير جدا عند عودتهم إلى بلدانهم الأصلية. ولهذا السبب كان جنود العرب لا يغادرون بنادر قبل نهاية مدة إقامتهم وانقضاء عقدهم، ثم يعودون إلى اليمن وغيرها من البلدان العربية، حيث يتمكنون من العيش في حياة أكثر راحة.

بسبب احتياجاتها العسكرية المتزايدة، ووفقًا للوائح المستعمرة الجديدة (5 أبريل/نيسان 1908)، رفعت الإدارة العسكرية الإيطالية العدد المطلوب لأفراد “القوات الاستعمارية المحلية في الصومال” إلى حوالي 3500 رجل. ولهذا السبب، كُلّف الكابتن غيراردو بانتانو بتنسيق حملة تجنيد “العسكريين العرب” وانتقل إلى عدن، ومكث هناك لمدة عام تقريبًا  حتى منتصف أبريل.

 القنصل الإيطالي في عدن، بعد إرساله 732 مجندا جديدًا، وجزءٌ منهم أتى من سلطنة لحج، أبلغ وزارة الخارجية أنه نظرا لإعتراض   البريطانيين عملية التجنيد في مناطق نفوذها لم يعد من الممكن العثور على رجال في عدن.  في الحقيقة أن إنشاء الفيلق الملكي للقوات الاستعمارية الصومالية في أرض الصومال في 4 أبريل 1908 أدخلت عنصرًا جديدًا من المنافسة، بين قوى الاستعمار الأوروبي في عملية تجنيد العسكريين اليمنيين، من شرق إفريقيا البريطانية.

سمح البريطانيون أنشطة التجنيد بشرط ألا تشمل رعاياهم المستعمرين، وهو تنازل سرعان ما ندموا عليه، إذ في نهاية المطاف، كانت الحاجة في محمية عدن كبيرة لدرجة أنها استُخدمت في معظم الأحيان عمال من المناطق المجاورة، وبالتالي من خارج إدارتها المباشرة، لدرجة الدخول في منافسة حامية مع الإيطاليين.   من الوثائق الإيطالية المتاحة يظهر أن الجزء الأكبر من العسكريين الذين وصلوا إلى عدن جاءوا في الغالب من حضرموت ولحج.

كانت مكلا والمناطق الداخلية في حضرموت، مركز التجنيد وينحدر أغلب المجندين من هذه المنطقة. وكذلك عدد أقل يجلب من مسقط. وكانت هناك أيضًا محاولات تجنيد في أراضي عسير، حيث أقام الإيطاليون علاقة قوية إلى حد ما مع محمد الإدريسي، أمير عسير ولكن اتفاقية عام 1917، التي وقعها الإدريسي مع البريطانيين منعته من السماح للإيطاليين عملية التجنيد في مناطق نفوذه.

والجدير بالإشارة إلى وجود محاولات أخرى للتجنيد في المناطق الشمالية باليمن، لكن غياب الاستقرار المحلي والصراع بين الإمام يحيى والعثمانيين حال دون تجنيد من اعتُبروا من أشدّ جنود المنطقة شجاعةً، مما أجبر الإيطاليين على اللجوء إلى أشخاص أقل خبرةً في الخدمة العسكرية.

و غالبا ما كانت تتم عملية التجنيد العسكري من بين العرب خارج الصومال، وخاصة من جنوب الجزيرة العربية. وأحيانا في داخل الصومال وذلك بوجود أعداد لا بأس بها من العرب المهاجرين في فترات سابقة بدءًا من موسم الرياح الموسمية الشمالية الشرقية. لقد هاجر العديد من العرب من جنوب الجزيرة العربية، بسبب الفقر والبؤس العام في اليمن، إلى طول ساحل أفريقيا،   وتوقفوا طواعية في بنادر، حيث مارسوا التجارة على نطاق ضيق،  وكذلك مهنة الجندية في فترة حكم سلطان زنجبار، ومن بين العساكر يوجد عبيد لا يملكون صفات المقاتل من الشجاعة، واحترام الذات التي تميز بها العرب،  ويعملون فقط على زيادة أجور أسيادهم  العساكر أو قادة الخدمات لصالح الاستعمار الإيطالي.

ونظراً لنظام التجنيد، فإن العناصر القادمة من الجزيرة العربية، على الرغم من كونها جيدة في الغالب،  ولكنها كانت تعاني من ظروف غذائية سيئة، وكانت تعاني من الطفيليات، وكان البعض منها يعاني حتى من مرض الملاريا. وعند وصول القوات العربية الى المعسكرات، تم تنفيذ عمليات التطهير البشري والتطعيم  من خلال توزيع كميات هائلة من اللحوم، وأدوات التطهير، والاستحمام، وتوزيع الصابون.

 وفي العقد الأول من الاحتلال الإيطالي كان غالبية العناصر المجندة من العرب، مع وجود “قلة” بنسبة 10% من الصوماليين. وقد ظلت هذه النسبة ثابتة حتى عام 1915، حسب ديل بوكا، وتبدو هذه النسبة غريبة للغاية، لكن هناك أسباب وعوامل أدت الى هذا الاختيار خاصة إذا أخذنا بعين  الاعتبار إلى الأسباب الأمنية. حاول الإيطاليون تجنيد عناصر غير الصوماليين قدموا من بلدان أخرى، بشرط أن يكونوا معتنقين نفس عقيدة الصوماليين،  حتى لا يسيئوا إليهم.

في الواقع، ساد اعتقاد لدى أوساط الإيطاليين فيما يتعلق بروابط العرق والدين بأنها قد تمنع العرب الذين في خدمة الإيطاليين من القتال ضد العرب في خدمة الأتراك في ليبيا، لكن سرعان ما أدركوا أن القتال بين القبائل العربية أمر طبيعي في بلادهم، وبالتالي لا يعتبرون الرابطة العرقية عائقا أمام أداء مهامهم. وينطبق الشيء نفسه على الرابطة الدينية، ويمكن أيضًا أن نضيف أن العرب المجندين على أيدي الإيطاليين للقتال في الصومال كانوا مدركين جيدًا بأنهم سيضطرون إلى القتال هناك ضد السكان المسلمين. في هذا السياق،  لا شك أن العناصر العربية  في الصومال أكثر ملاءمة من الإريتريين للإشراف على جنود العرب في الصومال وليبيا. فالإريتريون لا يصلحون لقيادة جنود العرب،  لأنهم إما مسيحيون، أو من أعراق سوداء محتقرة، أو حتى إذا كانوا من أصل عربي فهم حسب نظر العرب إنهم من سلالة أدنى وغير نقية. وأخيرا، فإن هؤلاء العرب، المنحدرين من اليمن وحضرموت، الذين كانوا في خدمة الإيطاليين لسنوات عديدة، أتيحت لهم الفرصة لمعرفة، بشكل ملموس جميع الفوائد التي يحصلون عليها مقابل الخدمة للإيطاليين مقارنة بمزايا الأتراك؛ ولذا يرى الضباط الإيطاليون، نظراً لتقارب العرقي والديني الكبير مع السكان فإنهم (العناصر العربية) بالتأكيد سيكونون أداة ثمينة للدعاية الفعالة لصالحهم، وأفضل بكثير من الإريتريين. ومع ذلك في جنوب الصومال، حاول الإيطاليون قدر الإمكان، تجنب إثارة غضب سكان المستعمرة الذين كانوا أكثر تقبلاً، والأكثر تعرضا في أغلب الأحيان، للمذابح   على يد رجال جاؤوا من أماكن أخرى، رغم كونهم يعتنقون نفس الدين الذي يعتنقه الصوماليون (الإسلام).

الصوماليون يمثلون 90% من السكان في المستعمرة؛ وكان العرب المقيمين في البلاد لا يشكلون سوى 10%، ولهذا السبب تم تجنيد العديد من المرتزقة من اليمن ودول أخرى في شبه الجزيرة العربية، لسبب بسيط وهو عدم ثقة السلطات الايطالية بالصوماليين خاصة في ولائهم  وانعدام الانضباط بين صفوفهم، ولأسباب أخرى ذكرناها سابقا.

تتميز العناصر الصومالية عن العناصر العربية بخصائص متباينة إلى حد كبير؛ العربي الذي تدرب منذ الصغر على استخدام الأسلحة النارية، يكون عموماً رامياً ممتازاً، هادئاً في القتال، عنيداً في الدفاع ، ومستغلاً ممتازاً للنيران في الهجوم؛ ومع ذلك، فهو يتطوع برغبة وحيدة وهي في الربح، أي أن يحصل مقابل خدمته على الوسائل التي تمكنه من الحصول على المال الذي يساعده في تكريس نفسه في ممارسة التجارة عند تسريحه عن العمل. وهناك أيضا أمر آخر عرفه الإيطاليون وحاولوا استغلاله براعة وهو التنافس الطبيعي والعلاقة الغير الجيدة القائمة بين العرب والصوماليين وأدركوا أن هذا التنافس يزيد من أداء  العناصر العربية في الأعمال القتالية، وبالتالي يصحح بعضا من عيوبهم وطبائعهم السلبية.

اعتمد مفهوم التجنيد لدى الإيطاليين في اختيار العناصر الصومالية في التجنيد على الخبرة المكتسبة من خلال تعاملها مع الشخصية الصومالية أثناء تواجدها في المستعمرة ولذا قامت الإدارة بتوزيع المهام على القوى العسكرية المحلية على النحو التالي: الصوماليين للخدمات؛ العرب اليمنيون للقوات المقاتلة. وبناء على ذلك تم تحديد نسبة 30% من الصوماليين و70% من العرب في كل سرية بنادق وسرية مدفعية عربية صومالية.

إن العرب (الذين كانوا يشكلون في السابق ما يصل إلى 90% من القوة، أصبحوا فيما بعد يشكلون فقط 33%) هم الأكثر ملاءمة لهذه الوظيفة؛  لأنهم يتمتعون بروح المحارب القوية التي تجعلهم مقاتلين شرسين، هادئين، واثقين بأنفسهم، يقاتلون بأنيابهم، وعقولهم، وإرادة باردة، ويركزون على القتال. “بدلاً من إبقائهم في الخدمة،  قد تمت تقديم النصيحة من قبل المسؤولين في روما بالإلغاء التدريجي  وكان يعني ذلك حرمان فيلق الدفاع من أفضل جزء من قدرته القتالية وقوته الحقيقية العظيمة في الدفاع”.

على عكس الإريترين الذين كانوا  أكثر انفتاحًا تجاه الأوروبيين، وخاصة المسيحيين الأرثوذكس، مقارنة بالصوماليين الذين، كانوا- وفقًا لوصف الأوروبيين-معزولين عن بقية العالم لجزء كبير من تاريخهم، بالإضافة إلى اعتناقهم عقيدة دينية يمكن تصويرها على أنها متشددة ومتعصبة في بعض الأحيان جعلت الإيطاليين حذرين في تجنيد الصوماليين.

 و كانت هذه المعلومات مفيدة لهم في دراسة وفهم الصوماليين  ولذلك كان متوقعا في تبني قادة حملة التجنيد على الموقف والإنطباع الذي كان سائدا لدى الإيطاليين طوال الفترة الأولى في احتلالهم للصومال، على الأقل حتى منتصف العشرينيات، تجاه الصوماليين. وقد كان لهذه المعتقدات تداعيات على تجنيد الصوماليين حتى عندما تم إنشاء فيلق القوات الاستعمارية الملكية الصومالية. وبالإضافة إلى هذه الأفكار حول السكان الصوماليين، إلا أن بعض القيود ذات الطبيعة الاقتصادية كانت ثقيلة للغاية. قد أجبر هذا الأخير الإيطاليين على الحفاظ على المليشيات الساحلية  والعربية المسمى “أصحاب القمل” الموروثة من النظام الزنجباري السابق لفترة طويلة.

وبحسب فيراندي، كان من الأفضل التخلي عن فكرة جلب العسكريين الإريتريين من مصوع، الذين كانوا مكلفين للغاية. بالنسبة له كان العرب في ساحل بنادر أقل كلفة، وأكثر أهلية للتجنيد، وأنهم ربما يكونون مفيدين أكثر إذا تلقوا تدريبا عسكريا تحت الإشراف والمراقبة الإيطالية.

وكما حدث في إريتريا، ففي الصومال أيضاً قام المستعمرون الإيطاليون بتصنيف السكان الذين سيتم تجنيدهم وفق النظرات العنصرية والأحكام المسبقة.

ويشمل هذا التعريف أيضًا عناصر من مختلف المجموعات العربية الجنوبية غير اليمنية، التي  كانت مرادفة لهم، منذ نشأة قوات الاستعمارية، وخاصة في الصومال، لأنهم كانوا جنودًا محترفين، ومستعدين دائمًا للهجرة  وأقرب في التفكير والموقف العقلي إلى الحكام الأوروبيين من الشعوب الأفريقية الأصلية.

 على سبيل المثال، يعبر المستكشف الأمير روسبولي في عمله الصادر عام 1892 عن اعتقاده بطريقة انتقادية للغاية بشأن الشعب الصومالي وأدائهم العسكري. ويتم دعم هذا التركيز في النقد من خلال النظرية السلبية العنصرية والتعميمة ومن خلال المقارنات مع العرب، الذين بدورهم يُنظر إليهم بنفس النظرة ويصنفون ويوصفون بنفس العقلية: “العنصر الصومالي كجندي، ليس له سوى قيمة جمالية؛ فهو في العرض العسكريّ وسيمٌ للغاية. ولكنه ليس له ولاء ولا يفي بعهوده. بعد أن ينال معروفًا أو منفعة من سيده، يُقسم له بالولاء مائة مرة، ويعده  بانكسار وتواضع  شديدٍ بأنه سيُقتل عند قدميه. في تلك اللحظة، يكون صادقًا، لكنه سرعان ما ينسى وعوده، وإذا دافع عن سيده أحيانًا، فإنه يفعل ذلك دفاعًا عن نفسه. الصومالي يحمل كل صفات العربي السيئة، دون أن يمتلك الصفات العربي الحسنة. العربيّ يكون لينًا، وديعًا، وسهل التآلف، لكنه لا يستطيع ضبط نفسه؛ أما الصومالي، لا يألف به أبدًا، ولا يستطيع  ضبط نفسه” انتهى.

وقد أجبرت التجارب الأخيرة التي مرت بها ألمانيا بالتخلي عن العنصر الصومالي لصالح المستعمرات. ولذلك  إنجلترا لا تستخدم الصوماليين إلا لأغراض الشرطة،  ودائمًا تحت قيادة الإنجليز او الهنود.”

ذكر الضباط الإيطاليون من بين الأسباب التي حالت دون قبول الصوماليين كمجندين في صفوف العساكر المحليين كعناصر مقاتلة غير التي سبق ذكرها، انقسام الصوماليين واقتتالهم فيما بينهم،  وانعكاس هذا الاختلاف على ولائهم وأداء واجباتهم العسكرية.

وفي تقرير آخر، يرى الضابط دى فيتو الذي تولى مهام تدريب وتنظيم العساكر أن انقسام السكان إلى عشائر، والتي كانت تتقاتل فيما بينها في كثير من الأحيان، تمثل كعائق أمام إنشاء الوحدات الصومالية. ويشير تقرير دي فيتو الضابط في القوات المسلحة الإيطالية المكلف بتدريب العسكريين، بالإضافة إلى تأكيده على يقينه بشأن الميل المزعوم للصوماليين إلى الفرار والخيانة،  أن الصومال يتميزون في تحملهم التعب أثناء المسيرات، والتي تجعل تجنيدهم  أكثر ضرورة وعملية. في الواقع الصوماليون القلائل الذين يتم قبولهم في معسكر بنادر العسكري، يأتون في الغالب من شمال الصومال، لأن الضباط كانوا يفضلون توظيف رجالا لا ينتمون إلى سكان جنوب الصومال بل معادون لهم،  لأن هؤلاء سوف  يجدون أنفسهم “في أرض أجنبية وبالتالي بدون مصالح وتطلعات مشتركة مع سكان البلد الذي يتم تشغيلهم فيه”  ولذلك يصعب عليهم التمرد على أسيادهم والانتقال الى جانب المتمردين والتحالف معهم ضد الإيطاليين.

 مع وصول الفاشي ماريا دي فيكي إلى الصومال حاكمًا على الصومال (1923-1928) وتبنيه سياسة توسع الإدارة الإيطالية المباشرة على جميع الصومال الإيطالية  ونزع السلاح من الشعب والتى تطلبت مجهودا عسكريًا كبيرا، وبالتالي شرع إعادة هيكلة وتنظيم الوحدات العسكرية غير النظامية،  وكان الجديد في هذه العمل أن الصوماليين شكلوا العمود الفقري للقوات العسكرية الجديدة. وفي أواخر عام 1923، كان الجنود العرب لا يزالون يشكلون حوالي 85%.  بعد عام، انخفضت هذه النسبة إلى 50%، وفي عام 1925، شهدت انخفاضًا إضافيًا، حيث كتب دي فيكي أن “المستعمرة وفرت الآن عناصر ممتازة ومتعددة يمكن الاعتماد عليها بأمان” . ومن الواضح أن هذا التغيير جعل الخطاب حول “الأجناس القتالية” نسبيًا بالكامل، لأنه أظهر كيف انقلبت الأحكام الخاطئة على الصفات العسكرية للصوماليين، في غضون ما يزيد قليلاً عن عقدين من الزمن، إلى حد الإشادة بالمهارات العسكرية للدوبات (dubat) (عصابات حدودية مسلحة تأسست عام 1924). وتعليقًا على هذا التحول، كتب ماسيمو أدولفو فيتالي أنه في غضون عشرين عامًا “اكتملت دورة تطورية كاملة؛ لأن الصوماليين قد غُرست فيهم “شعور بالإنضباط المطلق مما مكّن من تحويلهم إلى جنود ممتازين. وهكذا، بدا أن أسطورة الأجناس القتالية في الأيديولوجية العسكرية الإيطالية قد خضعت لإعادة تقييم جذرية.

خالد إبراهيم

باحث في تاريخ الصومال
زر الذهاب إلى الأعلى