أين  هويتي وحضارتي؟

لقد لفتت انتباهي مؤخرا أثناء تصفحي في الصفحات الرقمية عبر مواقع التواصل الإجتماعي، ظاهرة التمجيد والتباهي بأسطورة حضارة الصومال القديمة،  والبكاء على أطلاله،  والشوق إلى الماضي البعيد والقريب بشكل مبالغ وبدون أي أدلة أو حجج علمية أو منطقية، ومحاولة مستميتة لخلق تاريخ وحضارة مزيفة.

يعاني الشعب الصومالي في الآونة الأخيرة من أزمة هوية حقيقية وعميقة لا تؤثر فقط على الشباب، بل أيضا قبل كل شيء على الفئة المثقفة والمفترضة أن تكون صناع توجهات المجتمع وتصوراته. غاب  حضور هذه الفئة بشكل لافت على الساحة، وبالكاد ترى مشاركتها في النقاشات الثقافية والتاريخية عبر منصات التواصل الإجتماعي، وبالتالي خلت الساحة للشباب المتحمس المندفع بلا أي خلفية علمية تاريخية.

 كل من يتابع مواقع التواصل الإجتماعي الصومالية خاصة المكتوبة صفحاتها باللغة العربية ، يدرك حجم الضياع والتخبط  لدى نشطاء تلك المواقع في بحثهم عن هويتهم،  ويرى كذلك كم أنهم تائهون في بيداء لا نهاية له ، ويلهثون وراء سراب بقيعان، يلتفتون يمنة ويسرة بحثا عن أي شيء يسعفهم لإثبات ذاتهم من دون أن تلوح لهم في الأفق  أي أدلة مادية أو علمية  تدل وتثبت ما هم عنه باحثون. وفي كل مرة يصطدمون بالحقيقة المرة بأن لا مناص من الاعتراف بأنهم يبحثون عن  شيء لا وجود له،  يهربون إلى الأمام، أو يلقون اللوم على الآخرين بأنهم سرقوا تاريخهم وتراثهم.

وعلى وقع أزمة الهوية، جرى نقاش حاد بين الصوماليين عبر مواقع التواصل الإجتماعي حول الوثائقي الذي أعده الصحفي وائل عصام عن هجرة السوريين الى الصومال وما تضمنه من معلومات تاريخية رأى بعض نشطاء الصوماليين أنها مغلوطة وتسيء الى الشعب الصومالي وتزيف تاريخه وحضارته.  تباينت الردود على الوثائقي ولكن كلها تتسم بالسذاجة العلمية. مع تحفظي بعض ما ورد على لسان بعض الأشخاص الذين ظهروا في الفيلم، إلا أنني لم أجد أي خلل مهني ولا أي إساءة للصوماليين  أو  تزييف للحقائق التاريخية.

في الحقيقة انتابني شعور بالأسى والحزن على  ما يعانيه الشباب الصومالي من ضياع في الهوية ، وعقدة النقص،  والإحساس في عدم امتلاك الحضارة والتاريخ مما أجبرهم على  اللجوء   إلى اختلاق حضارة وتاريخ تفتقر إلى أدنى مقومات الوجود.

  وأننى هنا أتكلم من منطلق نقدي وليس من منطلق عدائي، وليس لى أى  دوافع أخرى . أنا ابن هذا البلد.  ولى كل الفخر والاعتزار بالإنتماء إلى هذا الشعب العظيم المعروف بالشجاعة،  والكرم ، وعزة النفس، وكره الغزاة المحتلين. وكذلك أنا ابن البادية،  ابن راعى الإبل ، وابن قبيلة تمتلك سجلا حافلا بالبطولات والكفاح ضد المستعمر الأوروبي في الصومال.

وباعتباري ابن البادية وابن راعي الإبل  فهذا مصدر فخري واعتزازي، وليس من أجدادي من مسه الرق أو من بيع في سوق النخاسة وليس لى أى عقدة نقص كوني من أفريقيا اسود اللون.

وفي المقابل لا اجد غضاضة في أن أقر بأني لا أملك حضارة تضاهي حضارة الأمم القديمة كحضارة الإغريقيين والفراعنة والرومان، وغيرهم. لم أجد أثناء قراءتي لتاريخ الصومال أى أدلة تاريخية أو مادية علمية تثبت أن للشعب الصومالي (وليس القرن الأفريقي) حضارة وتاريخ ضاربة الجذور في القدم.  وكما لم أجد حتى الآن دليل علمي وتاريخي بوجود حضارة بنت “المقدسة” كما يحب  أن يسميه بعض نشطاء الصوماليين. كل ما هنالك هو عبارة عن حديث رحلات تجارية بين الحضارات القديمة ومنطقة القرن الأفريقي.

 وإني أتسائل ما الذي يغيظهم فيما يتعلق بوثائقي وائل عصام؟ أينكرون بأن من بنى مقديشو ، ومركة،  وبراوة قبل مئات القرون هم من المهاجرين العرب، أيخجلون  من أصولهم وجذورهم وأنهم أبناء رعاة الإبل منذ وقت قريب ؟!. وهذا ليس عيبا بل من المفترض أن تكون مفخرة..

ما الذي يربطك ببلدك ويجعلك تشعر أنه بلدك؟  ما الذي يمنحك الشعور بالهوية والانتماء؟  إنها الأشياء المادية بالطبع: المكان الذي تعيش فيه، والمكان الذي ولدت فيه.  لكن أعتقد أن هذه الأمور العملية تكمن وراءها كل الأشياء الأخرى التي لا تفكر فيها، والتي تعتبر أهم من ذلك كله، وهي الحضارة والتاريخ.

كثيرا ما نلجأ عند الحديث عن تاريخنا إلى التصاوير والرسومات الفرعونية في معبد دير البلح وكتابات الجغرافيين والمؤرخين الرومانية عن شرق أفريقيا وندعي على أنها تخص الصوماليين فقط. وهذا  الادعاء يبدو غير صحيح ومجانب للصواب. التصاوير البشرية أو الرسومات الفرعونية التي عثرت في المعابد وفي الآثار الفرعونية وما تظهر فيها من أزياء شعب بنت، من ملابس وتسريحة الشعر، والملامح البشرية من المرجح أنها  تعود إلى شعوب أرض الآلهة، يعنى أرض بنت، واتفق جل المؤرخين على أنها الصومال الحالية، ولذلك اعتقد كثيرون أن الصومال كانت موجودة ومعروفة لدى المصريين القدماء، مستدلين بذلك رحلات الفراعنة المشهورة، وأشهرها رحلة الملكة المصرية حتشبسوت إلى أرض بنت ، أرض آلهة، وما جلبت معها من البخور والعطور والحيوانات والعبيد لاستخدامهم في المعابد الفرعوني وغيرهم. وأن هذه الأزياء التي تظهر في الرسومات الفرعونية يشترك فيها كثير من الشعوب في شرق أفريقيا وليست خاصة بالصوماليين، ولكن صحيح أيضا نظرا لتركيبة الجغرافية لشبه جزيرة الصومال ونباتاتها لا يمكن الاعتقاد بأنها تعود لأي بلد آخر غير الصومال، لكن ينبغي التنبيه إلى أن  نفس هذا الأزياء كان وما زال  يستخدمها  شعوب سود آخرين خاصة  غالا وعفر ولذا يصعب حصر التصاوير الفرعونية على الصوماليين وحدهم.

 العنصر الأساسي لكل بلد وكل مجتمع  هو تاريخه وتراثه وثقافته الذاتية؛  وإنها ليست شيئًا يمكن إنشاؤه في يوم أو أسبوع أو شهر أو سنة وإنما  هي عملية تراكمية تتم عبر الزمن. كما أن تطوير الثقافة في مجتمع ما هو عملية طويلة تتطلب قرونا من التجارب.  أن فهم تراثنا وتاريخنا كما هو بدون مبالغة  يعطينا إحساسًا أفضل وثقة أكبر بثقافتنا والهوية الشخصية، وتعزز بشكل أفضل مكانتها بين الأمم والشعوب، وتربط بين الماضي والحاضر وجيل المستقبل، بهدف بناء هوية وطنية قوية، حيث سيكون كل واحد منا يعتز ويفتخر بهويته الحقيقية.  الوطنيون الحقيقيون هم الذين يحملون بكل فخر جذور انتمائهم على أكتافهم طوال حياتهم، ولا يتعففون من أصلهم أو يخجلون الإعتراف به كما هو.

تمثل المواقع والأماكن التاريخية والفلكلور والتقاليد، التراث الثقافي والهوية الوطنية وأسلوب حياة ورثه المجتمع من الأجيال السابقة وينقله إلى الأجيال اللاحقة. ولذلك فإن هوية الشعب، التي تفهم على أنها مجموعة من الخصائص يتعرّف بها الشخص على نفسه وتميزه عن الآخرين، هي بالتأكيد ذلك العنصر الذي يميز الشعب أكثر من أي عنصر آخر. ومن هذا المنطلق نحن مطالبون بإثبات مزاعمنا وادعاءاتنا بالأدلة التاريخية والبراهين والحجج الواضحة من المصادر الموثوقة. لا يكفي أن نأخذ صورة من هنا ومقالات من هناك على أنها دليل على حضاراتنا وتاريخنا، دون أن نقدم أدلة دامغة عليها  ومن المصادر المعتبرة.

الشعب الصومالي ليس من المجموعات العربية ولا نتيجة تطور او تحول منه، بل العكس الصومال يمثل جنس خاص فريد من نوعه مع سمات وملامح بارزة تميزه عن باقي الشعوب تمييزا جوهريا، وطبائع البشرية بين الصومالي والعربي تختلف اختلافا واضحا كما هما مختلفان في الفسيولوجيا والاوستيولوجيا.

تربطنا  بالشعوب العربية علاقة دينية وعقدية استمرت قرونا مما جعل  بعض العادات والتقاليد القبلية ذات خلفية ثقافية دينية تتداخل وتعكس على سلوكنا وشعورنا الوجدانية. وبما أن الروابط العقدية في الإسلام أقوى وأوثق من غيرها من الروابط العرقية والجنسية، فإن علاقتنا  بالعرب أيضا ابعدتنا عن محيطنا الأفريقي  ذوي الخلفيات المماثلة لنا بسبب الاختلاف في المعتقدات، وافتقدنا الإحساس  والشعور بالوحدة والانتماء إلى مجموعتنا العرقية والإثنية التي ننتمي إليها. ويجب أن نعتز بعاداتنا وثقافتنا السليمة والصحيحة وننقل إلى أطفالنا، ومطالبتهم بالتمسك والاستمرار في نقلها إلى الأجيال القادمة، وتعليمهم الاعتزاز بجذورهم، ونشر ورفع الوعي لديهم حول التراث وأهميته. وهذا يسمح لهم بفهم الأجيال السابقة بشكل أفضل.

خالد إبراهيم

باحث في تاريخ الصومال
زر الذهاب إلى الأعلى