معالم مقديشو الأثرية في مهب الريح

في شهر أكتوبر الماضي، خلال زيارة لي في البلدة القديمة بمدينة “جنيف” ضمن مجموعة من السياح الأجانب ، انتابني الألم والحزن، لامست حقيقة أن الانسان لا يمكن أن يحقق تطورا استراتيجيا الا عندما يحافظ على المعالم الدقيقة لمراحل حياته ، ولا ينتقل من حقبة إلى أخرى دون تدوين آثارها، وقصص رجالاتها لتبقى حية وشامخة أمام الجيل القادم ، وعبرة لمن يعتبر.
انتابتني الدهشة عندما رأيت كيف يحترم هؤلاء الناس ، المواقع والقطع الأثرية مهما علت شأنها أو تزدري أعيننا… بيت تافيل (القرن 12 الميلادي)، وكاتدرائية القديس بطرس (القرن الثاني عشر الميلادي)، وجدار الاصلاح (1909)، والترسانة القديمة (القرن 15–17م) وغيرها… وكيف يدمر الصوماليون معالمهم الأثرية ذات القيمة الحضارية والثقافية والتعليمية تجاهلا وجهلا وإهمالا…. سور مقديشو (القرن 15 ميلادي)، والميناء القديمة (القرن العاشر الميلادي)، ومسجد فخر الدين (1269 م)، ومسجد عبد العزيز (القرن 13م) ، ومنارة مقديشو القديمة (16م) ، وقصر غاريسا (17م) وغيرها.
اختفى كثير من المعالم الأثرية في مقديشو، ومحيت من الوجود نتيجة الزمن، والإهمال، والحروب الأهلية ، ولم يتبق منها سوى قليل يواجه اليوم خطرا حقيقيا من شبكة تضم تجارا جشعين، ومسؤولين ليسوا على قدر من الوعي المطلوب. وآخر ضحايا تلك الشبكة، مدرسة scuola media della Somali التي انشئت عام 1956، ومبنى “بويرو” ‘Fiat’s Boero Building التابع لشركة فيات الذي بني عام 1939، وكان يعتبر تحفة فنية من روائع العمارة الإيطالية -العربية في مقديشو.
في الحقيقة، لا داعي لسرد قائمة المعالم الأثرية التي صارت أثرا بعد عين خلال سنوات الحرب، لكن المؤسف والمشين أن يستمر هذا التدمير في ظل حكومة صومالية تضم شخصيات كبارا عملوا في السلك التعليمي، ويدركون مدى أهمية هذه الآثار ودورها في تعزيز صورة الصومال أمام العالم.
للأسف الشديد، هذه الحكومة تحاول إعادة بناء ما دمرته آلة الحرب من مبان حكومية وبنى تحتية ، لكن بصورة عشوائية لا تحافظ على المعايير التاريخية ، والهوية الثقافية والتراثية للمدينة ، ولا توازن بين حماية التراث والتنمية العمرانية، والدلائل على ذلك كثيرة، نذكر هنا على سبيل الميثال ما حدث لمسجد عبد العزيز وكيف جرى ترميمه دون الاتباع بمنهج علمي دقيق، بدءا من التوثيق والمعاينة، وصولًا إلى استخدام المواد التقليدية وتقنيات الحفظ الحديثة. بالإضافة إلى ذلك، لم تتوفر العناية الضرورية للمحافظة على الهوية الثقافية للمواقع الأثرية في مقديشو التي تعد جزءا مهما من هوية الشعب الصومالي، فهي متحف تاريخي حي يعكس مسيرة الشخصية الصومالية ، وتراثه الثقافي والفني وعلاقاته مع العالم الخارجي.
العناية بالمواقع الأثرية في مقديشو تعزز الوعي الثقافي لدى المواطن الصومالي، وتوفر فرصا اقتصادية من خلال السياحة، كما تساهم في الاستدامة البيئية، وحماية التراث للأجيال القادمة.
ولذلك يجب على الحكومة الصومالية ولا سيما وزارتي الإعلام والثقافة ووزارة التعليم العالي أن تعيدا النظر في سياساتهما تجاه المعالم والمواقع الأثرية في مقديشو، وأن تتخذا قرارات عاجلة لحمايتها من التدمير الممنهج والسلوك العشوائي ، وأن يتم تشكيل لجنة خاصة معنية بهذا الملف تقوم بعنايتها والمحافظة عليها قبل فوات الآوان.

عبد الرحمن عبدي

كاتب وصحفي صومالي
زر الذهاب إلى الأعلى