في خضمّ النقاشات المتجددة حول مستقبل الحكم في العالم الإسلامي، يبرز سؤال يبدو بسيطًا في ظاهره، لكنه شديد التعقيد في عمقه: هل يمكن أسلمة الديمقراطية؟
ومع أن البعض يرى في هذا الدمج محاولة لإيجاد صيغة وسط تُرضي الجميع، إلا أن الواقع الفكري والتاريخي يكشف أن المسألة أبعد من مجرد “توفيق” بين نظامين مختلفين جذريًا في الأساس والمنطلق.
فالديمقراطية، في أصلها، ليست نظامًا عربيًا ولا إسلاميًا، بل هي منظومة غربية النشأة تحمل فلسفة كاملة في مصادر التشريع وتحديد السيادة ومفهوم الحقوق. ومن هنا فإن محاولة “أسلمتها” تصطدم منذ البداية بجذورها الفكرية التي تقوم على مبادئ تتعارض جوهريًا مع ثوابت الإسلام، أبرزها:
جعل السيادة للشعب بدل أن تكون لله.
اعتبار التشريع حقًا بشريًا مطلقًا.
تجاوز المرجعية الشرعية في الحكم.
المساواة المطلقة بين الأديان وإلغاء الخصوصية الإسلامية.
ورغم ذلك، فقد سعى بعض العلماء والمفكرين المسلمين إلى الإفادة من بعض الأدوات الإجرائية المتداولة في الأنظمة الديمقراطية، مثل الانتخابات، وتداول السلطة، والفصل النسبي بين السلطات، والرقابة والمحاسبة. غير أن هذه الأدوات—كما يشير خبراء السياسة الشرعية—لا تمثل جوهر الديمقراطية ولا فلسفتها، وإنما هي وسائل إدارية يمكن تخريجها من داخل النظام السياسي الإسلامي نفسه دون الحاجة إلى نسبتها لأي نموذج غربي.
فالنظام الإسلامي يمتلك منظومة حكم متكاملة ترتكز على:
الشورى المنضبطة،
العدل،
محاسبة الحاكم،
تحريم الاستبداد،
الطاعة المقيدة بالشرع.
وهذه المبادئ وإن التقت في بعض تفاصيلها مع أدوات الإدارة الحديثة، إلا أنها تختلف اختلافًا جوهريًا عن الديمقراطية في فلسفتها ومنهجها ومصدر تشريعها. ولهذا يمكن للمجتمعات الإسلامية الاستفادة من الوسائل الإدارية الحديثة دون أن تجعل الديمقراطية إطارًا مرجعيًا أو غطاءً اصطلاحيًا لها.
أما الفلسفة الديمقراطية نفسها، التي تجعل الشعب مصدر التشريع والتحليل والتحريم، فهي تتصادم مع أصل الإسلام في الحاكمية: الحكم لله وحده.
وتُظهر التجارب الحديثة أن التيارات الإسلامية التي حاولت دخول اللعبة الديمقراطية لم يُسمح لها بتطبيق مبادئها كما هي؛ فالديمقراطية منظومة لا تُقبل إلا بنسختها الغربية الكاملة. وقد لخّص أحد الأساتذة الدنماركيين هذه الحقيقة عندما قال لطالبٍ صومالي سأله عن رفض الغرب لنتائج الانتخابات في الجزائر ومصر والسودان:
“نحن من وضع الديمقراطية وصغنا فلسفتها، ولا نقبل أن يستعملها من لا يؤمن بها كاملة أو يجعلها وسيلة لأهدافه الخاصة.”
هذه الشهادة تختصر المسألة بوضوح: الديمقراطية منظومة لا تقبل التجزئة، وكذلك النظام الإسلامي—بوصفه نظامًا ربانيًا—لا يجوز اقتطاع بعضه وترك بعضه، ولا يصح مزجه بأنظمة بشرية دخيلة.
فالخلط بينهما يؤدي في النهاية إلى تشويه النظامين معًا، وإفقاد الإسلام أصالته ومقصده في الحاكمية والمرجعية.
ولهذا، لا ينبغي الارتهان لشعار الديمقراطية أو إلصاقه بكل فعل عادل أو ممارسة سياسية راشدة كما يفعل بعض الساسة؛ فليس كل عدلٍ ديمقراطية، ولا كل شفافية امتدادًا لها. فكثير من القيم المنسوبة إليها إنما هي أصيلة في النظام الإسلامي، يمكن تخريجها منه مباشرة دون الحاجة إلى الاحتماء بمصطلح غربي أو استعارته.
بقلم: علي أحمد محمد المقدشي





