سودان ما بعد الفاشر 

“حين تعيد القوة تعريف الحقيقة 

يحدثني أحد زملاء البحث العلمي أنه بعد سقوط مدينة الفاشرفي يد مليشيا الدعم السريع المتعددة الجنسيات أنه كان متواجداً بالصدفة مع أحد القيادات الأمنية الفرنسية “المقيمة في إفريقيا”، والذي قال له نصاً “وفقاً لروايته” ( إن كان ثمة مستقبل ممتد لميلاد مشروع المليشيات العابرة للحدود فسقوط الفاشر قضى عليها، هناك إعتبارات سياسية وأمنية ستتكشف قريباً، وأبعاد تلك الإعتبارات لا تدركها مليشيات مستخدمة “مؤجرة”)  

إختلفت رؤية الإدارة الأمريكية لقيادة الدولة السودانية بعد سقوط مدينة الفاشر بيد مليشيا الدعم السريع، فبدت مهمة واشنطن في سودان ما بعد الفاشر ليس كما قبلها، فإذا كانت واشنطن قد إعتمدت مسبقاً على “La persuasion des passants” للتعامل مع الحكومة السودانية وهو سلوك متعمد تلجأ إليه الأجهزة الأمنية الأجنبية لضرب ثقة المواطن في قيادة الدولة، فإنها اليوم أمام واقع جديد، صحيح أن سقوط مدينة الفاشر ما كان له أن يقع لولا الموافقة الأمريكية “صاحبة الكلمة الأولى والأخيرة في ذلك” إلا إن الأحداث المأساوية التي طالت الفاشر والتي لم تعرها واشنطن بداية الأمر كثير أهمية، إلا إنها نجحت إلى حد كبير في إرباك كافة الحسابات الأمنية والسياسية التي تم إعتمادها مسبقاً مع كافة الأطراف المساندة لمليشيا الدعم السريع، أياً كانت تلك الأطراف :”دول، مليشيات، أجهزة مخابراتية، منظمات دولية، ألخ …”، والتي أطلقت عليها الأوساط البحثية الفرنسية “l’État satellite” وتعني باللغة العربية “الدول الساتلية” ( وهو مصطلح نشأ بعد الحرب العالمية الثانية يشير إلى تحول بعض الدول إلى مراكز تنفيذ داخل نطام عالمي مهيمن).

يدرك المراقب للحراك الدبلوماسي الأمريكي بعد سقوط مدينة الفاشر بأنه بات يعتمد على ما يعرف أمنياً “Audace composée” ويعني “الإقدام المركب”، وهو حراك “إستخباراتي” شبيه لإستراتيجية قديمة تعود إلى القرن العشرين وظهرت حديثاً بإسم “Stratégie hybride” وتعني “الإستراتيجية الهجينة”، (يصنفها العلم العسكري الحديث بأنها إستراتيجية خاصة للقوى الكبرى بإعتبارها القوى المتحكمة بمسارات الأحداث العالمية والإقليمية)، وهذا ما ستعتمده الإدارة الأمريكية مستقبلاً في سودان ما بعد الحرب، وتلك الإستراتيجية لا أرى أنها ستكون مرتبطة بإدارة الرئيس الحالي “دونالد ترامب” بل ستمتد إلى ما بعده بغض النظر “جمهورية” جاءت تلك الإدارة أم “ديموقراطية”، والمُدرك للرؤية الإستراتيجية الأمريكية وخطوطها المستقبلية في القارة الإفريقية فليتمعن ملياً في كواليس المحادثات السرية التي جرت في إبريل 2024 بين الرئيس الإيراني الراحل “إبراهيم رئيسي” وقادة المجلس العسكري في النيجر لتسليم الأول كميات ضخمة من “اليورانيوم” وما تلى ذلك من مناوشات “أمنية” ومناكفات “سياسية” لم ينتهي شهر مايو من نفس العام إلا وغاب “رئيسي” عن المشهد.  

بات في يقين “واشنطن” أن الأحداث المروعة التي طالت مدينة الفاشر بعد سقوطها على يد مليشيا الدعم السريع، جعلت مشروع إقصاء المليشيا من المشهد السياسي السوداني أكثر تجذراً، ليس فقط في وجدان المكون الشعبي السوداني الذي ذاق ويلاته، ولا في فكر القيادة السودانية التي باتت ترى في إقصاءه مشروع وطني تتضافر فيه الرؤى والجهود الشعبية قبل الجهود المؤسسية للتخلص من أكبر مهدد للأمن القومي السوداني، بل لأن بقاءه بات يهدد مستقبل وكيان المؤسسات والمنظمات الحقوقية أمام العالم، “والتي بالكاد ترمم سمعتها منذ إبادة رواندا، وسربرنيتشا في حقبة التسعينات”،

 فمأساوية الطابع الذي خرجت به مدينة الفاشر السودانية، وتنامي موجة الإدانات الدولية أنسى المجتمع الدولي إنتقائيته المعهودة في التعاطي مع الملفات الحقوقية لدرجة أن عبارة “صدى الفاشر تجاوز إنعكاس يلواتا” (في إشارة لمدينة يلواتا أحد أهم المدن النيجيرية المسيحية التي شهدت أعنف المجازر البشرية في عام 2025) باتت تتردد حتى في أروقة الدوائر الأمنية في الولايات المتحدة .

بعد قرار الحكومة السودانية الأخير بإعلان التعبئة العامة وإستمرار سير المعارك العسكرية لتحرير كافة أراضي البلاد والقضاء على التمرد، بإعتبار أنها المعركة الفاصلة التي سيتحدد عليها بقاء الدولة الوطينة السودانية أو فناءها، أدركت الإدارة الأمريكية بأن بعض الأطراف “الدولية” التي تشكلت رؤيتها “المستقبلية” في الساحة السودانية بعد 15 إبريل 2023 ستبدأ تُفّعل دورها من خلال “محاورها الإقليمية”، وهذا ما سيمنح الخرطوم فرصاً أكثر في الميدان، فالقيادة السودانية وإن كانت تدرك التضاد بين تلك المحاور إلا إنها باتت أكثر وعياً بمستقبل حضورها في المشهد السوداني، وبالتالي أرى أن تعمل الخرطوم ومن الأن على إيجاد نقاط مشتركة مع كافة الأطراف الدولية التي تدير تلك المحاور، وإفساح المجال للإصطفافات الناشئة التي طرحت نفسها مؤخراً تحت إسم “Les axes de rotation” وتعني ” أعمدة الدوران ”  والتي تتوافق مع الحكومة السودانية في بعض الملفات وتتعارض في أخرى، ولكنها تبدو أكثر إيجابية في طرحها السياسي لإحترامها لسيادة الدول وسلامة ووحدة أراضيها.

يتوقع أن يتخذ الحراك الأمريكي “مستقبلاً” في الساحة السودانية المسالك الأتية:

  • إعتماد إستراتيجية “فكرية-عسكرية” وهي ما تعرف بــ”la réorientation conceptuelle des moyens” وتعني “إعادة تأطير الوسائل”، وذلك لضمان تحقيق رؤيتها المستقبلية نحو “قرن إفريقي جديد عبر الخرطوم”، وإجهاضاً لسير المحاولات الروسية والصينية الساعية لتعزيز حضورها على البحر الأحمر والمحيط الهندي، وحفاظاً على عدم خروج الأمور عن السيطرة وضمان سيرها وفقاً لما يراد لها أن تصل إليه، خاصة مع بدء التنسيق “الأمني” و”الإستخباراتي” بين السودان وحلفائها “الدوليين” و”الإقليميين”.
  • نظراً لتضافر الجهود الأمنية والإستخباراتية الأمريكية الأوروبية لتحجيم الحضور الروسي في السواحل الشرقية للقارة الافريقية، لا يستبعد إعادة إحياء مشروع “EUUSSA”، وهو مشروع تم طرحه 2015 ويسعى إلى تكوين قواعد عملياتية مشتركة بين أمريكا والإتحاد الأوروبي في إفريقيا، لتعزيز أمن السواحل الشرقية لدول القارة، وهذا المشروع هو إمتداد لــ”SHADE” وهي منصة التنسيق الدولية أنشئت عام 2008، وهذا ما يفسر وصول مجموعة من ضباط الإستخبارات العسكرية الأمريكية إلى بورتسودان مؤخراً . 
  • نظراً لإرتباط مليشيا الدعم السريع بأحداث الفاشر الأخيرة، ونجاح الإعلام العالمي قبلها ومنذ منتصف 2023 في تكريس صورة تؤكد أن المدن والولايات الواقعة تحت سيطرة الجيش السوداني تبدو أكثر إستقراراً وجذباً لحياة المواطنين وإعاشتهم، على عكس المدن الواقعة تحت سيطرة المليشيا، لتأتي أحداث الفاشر الأخيرة وتؤكد تلك الصورة في الوجدان الدولي، يتوقع أن تدعم الإدارة الأمريكية التوافق الدولي والإقليمي “الجزئي” الساعي إلى تصنيف الدعم السريع “جماعة إرهابية”، أو الإكتفاء بتغييب قائد مليشيا الدعم السريع “حميدتي” عن المشهد السياسي السوداني وتهيئة “بديل” أكثر قبولاً لدعم الحضور الإقليمي لحكومة المليشيا “تأسيس”.
  • يدرك المجتمع الدولي أن الأساس الذي تم عليه بناء كافة المليشيات المتمردة على الدول الوطنية غير موحد، ويختلف من مليشيا الى أخرى، وبالتالي الأساس الذي تقف عليه مليشيا الدعم السريع في السودان ليس هو ذات الأساس الذي تقف عليه مليشيا خليفة حفتر في ليبيا وإن تلاقت الرؤى وتناسخت الأدوار وإتحدت الجهود، وهذا ما يفسر إختلاف التعاطي الأمني والسياسي الدولي مع تلك المليشيات، وهو ذاته ما سيتم الأعتماد عليه مستقبلاً فيما يعرف في علم الإستخبارات العسكرية بـــ” Le saut organisé”، وتعني إستراتيجية ” الوثوب المنظم”، الخاصة بتفصيل الأدوار وتوزيعها “وفقاً للرؤية الأمريكية لمستقبل منطقة الشرق والوسط والشمال الإفريقي”.
  • تخفيف أثر الحملات الإعلامية العالمية التي خلفتها أحداث الفاشر، ومحاولة تهدئة الرأي العام الدولي الداعم لحالة الإحتقان الشعبي السوداني الذي وصل إلى مستويات غيرمسبوقة، وإنعكس تأثيره على معظم القيادات السياسية العالمية التي باتت ترى في الحراك الشعبي السوداني والداعمين له موجة تغيير قادمة، أضاعت تلك القيادات كافة الفرص لمواجهتها مع تضاعف مستوى المخاطر، وبالتالي لابد من الإستعانة بطرف مقبول “سودانياً” ومضمون “أمريكياً” لعدم خروج الأمور عن السيطرة.
  • تدرك واشنطن بأن التغيير السياسي لهرم الدولة الأرترية والذي سيطال تلقائياً كافة الهياكل الأمنية لمؤسسات الدولة قادماً لا محالة، إلا أن تركيبة الدولة الأرترية وحاجتها الدائمة إلى معارك تشعرها ولو مؤقتاً بالقدرة على تغيير التوازنات في القرن الإفريقي هو ما جعلها الأقل حضوراً في التعاطي الدولي مقارنة مع قريناتها في منطقة القرن الإفريقي، وهذا ما تدركه الإدارة الأمريكية منذ عقود وهو ذاته ما سيدفع واشنطن لتعزيز حضورها في الملف الارتري خاصة بعد بروز جزء من المجموعات “العفرية” المسلحة الساعية إلى إزاحة “أفورقي” من السلطة، وعليه يجب على الخرطوم تعزيز التعاون وفي كافة المجالات مع إرتريا والعمل على إبقاءها خارج دائرة التحالف الإقليمي الساعي إلى إسقاط الدولة الوطنية السودانية. 

في ظل التطورات المتسارعة التي تشهدها الساحة السودانية يتوقع حدوث أحد السيناريوهات التالية:

السيناريو الأول: دعم تقدم العمليات العسكرية للطرفين “الجيش السوداني، مليشيا الدعم السريع”: وهذا السيناريو لا يهدف إلى تمكين مليشيا الدعم السريع من حكم السودان بمقدار ما يهدف إلى إبقاءها “ورقة ضغط” لضبط مسار الحكومة السودانية وإبقاءها تحت السيطرة، وهذا  السيناريو سيلزم كافة الجهات الداعمة لمليشيا الدعم السريع المتعددة الجنسيات مضاعفة تسليح المليشيا، وتمكينها من بعض المناطق الواقعة تحت سيطرة الدولة السودانية، وهذا سيكون بالتوازي مع بدء العمليات المزعزعة لأمن الولايات الشمالية، للضغط على الحكومة السودانية بقبول إستمرار المليشيا في المشهد السياسي السوداني، ليتم بعدها تهيئة حكومة “حمدوك” المدنية لحكم البلاد (وفي حال تحقق ذلك ستدمج العناصر المدنية المنضوية الأن في “تأسيس” مع الكيان المدني الجديد بقيادة “عبدالله حمدوك”، وبمرور الوقت ستتحول المؤسسة العسكرية السودانية إلى “مؤسسة صورية”، وسيعاد هيكلتها تدريجياً وستحل قيادات مليشيا الدعم السريع محل القيادات العسكرية الوطنية المعنية بملفات الأمن الوطني والإستخبارات العسكرية ).  

السيناريو الثاني: القبول بمطالب مجلس الأمن والدفاع السوداني الأخيرة: تدرك الإدارة الأمريكية أن الإبقاء على الجيش السوداني بإعتباره “جيش وطني نظامي” أحد أهم العناصر الداعمة لإستقرار منطقة القرن والشرق الأفريقي ومنطقة البحر الأحمر، “وهذا ما تطمح إليه واشنطن لتعزيز حضورها في تلك المنطقة، وهذا ما يفسر في ذات الوقت تقاربها الأخير مع الدولة الصومالية” ، فالمرونة السياسية والتوزان الأمني اللذان أبدتهما القيادة السودانية الحالية كانا كفيلين بإقناع المجتمع الدولي بأن السودان قابل للتغيير والإنفتاح والتعاطي مع كافة المتغيرات الدولية، “وهذا ما كان يستعصي على واشنطن الإقتناع به ناهيك عن الحديث عنه في سودان البشير”، وبالتالي يمكن للسودان الجديد أن يمارس دوره وفقاً لتلك المتغيرات دون العمل على إسقاطه، “فالتغيير المراد له أن يتحقق سيأتي تدريجياً ومن الداخل”، ومن ناحية أخرى تقرأ واشنطن التطورات الأمنية التي تستوجب عليها الحفاظ على إستقرار الجبهات المرتبطة بحضورها في القارة الإفريقية، فمع بدء الإدارة الأمريكية مؤخراً تطبيق برامجها الأمنية لإبقاء القرن الإفريقي بعيداً عن الصراعات، خاصة بعد توارد أنباء بمساعي إدارة رئيس الوزراء الإثيوبي “أبي أحمد” بالإستعانة بالعفر لتمكين أديس أبابا من الوصول للبحر الأحمر، أضف إلى ذلك تنامي الضغوط التي تمر بها الإدارة الأمريكية التي تطالبها بالتدخل الفوري لوقف المجازر المتواصلة التي تتعرض لها المكونات المسيحية في نيجيريا على يد التنظيمات الإرهابية، مما يشير إلى إحتمالية تحول الوضع إلى ظاهرة ضد المكونات المسيحية في دول الجوار الإفريقي لنجيريا، وهذا ما سيفرض على الإدارة الأمريكية التعاون مع المؤسسات العسكرية الوطنية الإفريقية “النظامية” لتحجيم الفوضى الأمنية التي تخلفها المليشيات المتمردة على الدول الوطنية. 

السيناريو الثالث: تطبيق إستراتيجية ” تفكيك -إحلال- توجيه” الخاصة بمصادرة الجيوش الوطنية، وهذه الإستراتيجية طبقتها المخابرات الأمريكية على الجيش العراقي وكافة الكيانات الأمنية التابعة له بعد عام 2003، وتحويله إلى جيشاً قادراً على حماية الأمن والسلم المحلي و تأمين عمل “خفر الحدود”، وهذا السيناريو لن يتم تنفيذه إلا في حالة  التحضير لمواجهة عسكرية دامية بين الجيش السوداني ومليشيات الدعم السريع وبمساندة “كبرى” من العناصر الخارجية المنتمية لكيانات عسكرية وأمنية “أجنبية” تنتهي بهزيمة الجيش السوداني “وهذا السيناريو لن يتحقق إلا بموافقة أمريكية صرفة”.

د.أمينة العريمي

باحثة إماراتية في الشأن الإفريقي

د.أمينة العريمي

أمينة العربمي باحثة إماراتية في الشأن الأفريقي
شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى