جذور الأزمة الراهنة في الصومال: ليست بسبب مقديشو بل في النظام الفيدرالي والدستور الانتقالي

مقديشو هي عاصمة الصومال، ويقطنها مجتمعٌ صوماليٌّ أصيل ينبغي أن يتمتّع أهلُه بجميع الحقوق التي تنالها أيُّ جماعةٍ في سائر ولايات البلاد. ومن المهم التذكير بأنها المدينة الوحيدة التي يدفع سكانها الضرائب مباشرةً إلى الحكومة الفيدرالية، ومع ذلك تتعرّض لضغوط سياسية وإعلامية متواصلة من بعض النواب الذين يخوضون صراعًا دائمًا ضد مجتمع العاصمة، حتى غدا يتكرر سؤالٌ ساذج: «لمن تنتمي مقديشو؟» مع أنّ هؤلاء النواب أنفسهم هم من فرضوا على البلاد النظام الفيدرالي وفق رغباتهم، ليحصلوا على إداراتٍ إقليمية ذات استقلال سياسي واقتصادية لا وحتى أمني، بينما تُترَك العاصمة — وهي الركيزة الاقتصادية للدولة — تتحمل أعباء إضافية بلا إنصاف ولا دعم مكافئ.

والحقيقة أن هذا السؤال يمكن أن يُوجَّه إلى أي مدينة في الصومال كما يُوجَّه إلى مقديشو؛ وإلا فلا مسوّغ لأحد أن يخصّ العاصمة وحدها بهذا السؤال ابتداءً. وإن كان لا بد من طرحه، فليُطرَح إذن على الجميع بالتساوي، ولْنقُل: لمن تنتمي غراوى؟ ولمن تنتمي بيدوا؟ ولمن تنتمي هرجيسا؟ ولمن تنتمي مقديشو؟

ذلك أنّ الإشكال الحقيقي ليس في ملكية مدينة مقديشو أو غيرها من المدن، ولا فيمن يقطن هذه المدينة أو تلك، بل إن جذور الأزمة الراهنة تعود إلى النظام الفيدرالي والدستور الانتقالي القائم. فالفيدرالية — بصورتها الحالية — أسهمت في تعميق الانقسام، ورسّخت لدى بعض الأطراف الوهم بأن لكل مجموعة الحقّ في المطالبة بمدينة معيّنة والتعامل معها بوصفها ملكًا خاصًا لا يشاركهم فيه أحد.

وفي المقابل، يُراد لمقديشو أن تُعامَل كمدينة لا يَحقّ لسكانها امتلاك أي وضع سياسي أو قانوني مستقل، رغم كونها عاصمة البلاد ومركز ثقلها الوطني. كما أن أهلها لا يحظون بضمانات دستورية تُكافئ ما تتمتع به الولايات الأخرى، في ظل غياب نظام عادل يضمن المشاركة المنصفة في السلطة والثروة بين جميع المواطنين.

وإذا كان ثَمّة حديثٌ جادٌّ عن الإصلاح، فالأَوْلى أن يُعاد فتحُ ملفّ هذا الدستور الذي لا تُعرَف الجهةُ التي صاغته، ولا الدوافعُ التي حملتْه على اعتماد هذه الصيغة، فضلًا عن ضرورة مراجعة النظام الفيدرالي نفسه، بعدما أثبتت التجربةُ — بهيئته الحالية — أنه أصبح مصدرًا لمشكلات تمسّ الدين والمجتمع والدولة جميعًا، وأنه لا يمكن قبوله على أي حال من الأحوال.

فما من إقليم أو مدينة في الصومال إلا وتجد قبيلة أو قبائل تظن أنها تمثّل غالبية سكانه أو أنها أحقّ به من غيرها، ولا تسمح — بطبيعة الحال — أن ينافسها أحد لمجرد القرب في النسب أو المصاهرة. وهكذا تبقى مقديشو مدينةً لأهلها الحقيقيين؛ لا يقبلون أن يدّعي فيها حقًا سياسيًا أو اجتماعيًا من لم يكن من أبنائها، لأنها — بحق — لهم ما داموا هم الذين أدّوا واجباتها وحملوا أعباءها تجاه الدولة والمجتمع الصومالي كله.

فمقديشو — كسائر مدن الصومال — لأبنائها المقيمين فيها رسوخًا وانتماءً وتاريخًا؛ لا لمن عَرَضَ له السكن فيها عابرًا أو طارئًا، سواء أكان مستأجرًا لبيت، أو مشتريًا لمنزل — كما هو الحال في سائر المدن — أو ألجأته الظروف المعيشية هو أو أبوه طلبًا للأمان أو الرزق، أو قصدها للعمل، أو مرّ بها يومًا لغرض سياسي.

فالأولوية فيها — سياسيًا واجتماعيًا — لأهلها الذين قامت بهم المدينة وازدهرت بجهودهم عبر تاريخها الطويل؛ فهي كانت عاصمة لمسلمي شرق إفريقيا قبل الغزوات البرتغالية وإحراق أجزاء منها، وقبل مجيء الاستعمار العماني أو الغربي الكافر، وقبل الاستقلال، كما صارت بعد ذلك عاصمة لأهل الصومال لما تمتاز به من موقع جغرافي مهم، واقتصاد مزدهر، وكثافة سكانية عالية. كل هذا يجعلها عاصمة أبدية للصوماليين، رغم محاولات الطامحين لتقليل مكانتها وتعطيل نفوذها وحرمان أهلها الطيبين من حقوقهم السباسية.

ولا يعني مقالي هذا رفضًا للآراء العادلة المنبثقة عن العلم، أو للأيديولوجيات السياسية المبنية على المعرفة حول مقديشو وغيرها من المدن؛ وحتى لو سلمنا جدلًا بهذا النظام الفيدرالي الفاشل، فهل يوجد في العالم نظام سياسي يُجرد أهل العاصمة من حقوقهم السياسية وحق تمثيلهم، ويجعلهم بلا أي حقوق فيها، فضلاً عن أن يُمنحهم حقًا في بقية المدن؟
ولو وُجد نظام يبرر حرمان أهل مقديشو من حقوقهم السياسية العادلة لمجرد كونها العاصمة، لكان الأجدر أن تُسحب جميع الحقوق السياسية من عواصم الولايات الفيدرالية الأخرى بالمثل، سواء كانت بيدوا أو غراوي أو كسمايو أو غيرها. فلا يمكن أن يُفرض على أهل مقديشو نظامٌ جائر وظالم لا يُسمح بتطبيق مثله على غيرها من المدن.

وليس أهل مقديشو أضعف أو أجهل من أهل المدن الأخرى، ولذلك ينبغي على مثقفيها وعقلائها أن يرفضوا كل المحاولات البائسة التي تستهدفهم هم وأهل مدينتهم. كما أحذرهم من قبول أي مساومات سياسية تُبنى على حساب حقوقهم، لما لذلك من أثر بالغ على مستقبلهم ومستقبل أبنائهم.

والحلّ الحقيقي يكمن في رفض هذا النظام الفيدرالي وهذا الدستور الجائر، الذي أفضى إلى كل تلك الفوضى السياسية الراهنة بين أهل بلادنا، وأغرى للطامعين انتهاك حقوق أهل مقديشو بلا وجه حق.

بقلم: علي أحمد محمد المقدشي

زر الذهاب إلى الأعلى