صفقة الهيمنة لا صفقة السلام: فلسطين في مواجهة المشروع الأمريكي – الإسرائيلي

تعيش القضية الفلسطينية اليوم واحدة من أدق مراحلها التاريخية، إذ لم تعد المواجهة تدور حول تسويات سياسية محدودة أو نزاعات حدودية تقليدية، بل أصبحت جزءًا من مشروع أمريكي–إسرائيلي شامل يسعى إلى فرض واقع جديد على الأرض، يشرعن الاحتلال، ويقوّض أي إمكانية لقيام دولة فلسطينية مستقلة. فما يُسمّى بـ«صفقة السلام» لم يكن في جوهره سوى صفقة هيمنة، هدفها تثبيت السيطرة الإسرائيلية بدعم أمريكي غير مسبوق، وتطويع المنطقة سياسيًا وثقافيًا وأمنيًا بما يخدم هذا المشروع.

لقد مثّلت الخطط الأمريكية الأخيرة، وعلى رأسها ما عُرف بـ«صفقة القرن»، محاولة ممنهجة لتصفية القضية الفلسطينية من جذورها، عبر جملة من الإجراءات الأحادية التي بدأت بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس واعتبارها «عاصمة لإسرائيل»، مرورًا بمحاولات شرعنة ضم المستوطنات في الضفة الغربية، وصولًا إلى السعي لإلغاء حق العودة وتفريغ القضية من مضمونها القانوني والتاريخي. كل ذلك تم تحت شعار «السلام»، بينما الحقيقة أنها خطوات مدروسة لفرض وقائع لا رجعة فيها.

وما يزيد من خطورة هذه السياسات أنها لا تأتي بمعزل عن سياق أوسع، إذ ترتبط برؤية صهيونية–غربية تعتبر الصراع على فلسطين صراعًا وجوديًا ودينيًا في آنٍ واحد. فالمشروع الإسرائيلي ليس مجرد مشروع استيطاني توسعي، بل يحمل في عمقه أبعادًا عقدية توراتية وإنجيلية يشارك فيها قادة الغرب، ويُوظَّف فيها الدين لتبرير الاحتلال والهيمنة. وهذا ما يجعل المواجهة أكثر تعقيدًا من مجرد نزاع سياسي أو تفاوضي.

وما دامت حقيقة هذا الصراع من جانبهم حربًا دينية مقدسة بكل معاييرها، فإن الواجب يفرض على المسلمين أن يعودوا بصدق إلى دينهم وقرآنهم لفهم طبيعة المواجهة وسنن التدافع بمنظور إيماني وبصيرة شرعية عميقة. فالصراع ليس سياسيًا أو اقتصاديًا فحسب، بل هو في جوهره صراع حضاري وعقدي يستهدف وجود الأمة وهويتها ومقدساتها. ومن هنا، فإن مواجهته لا يمكن أن تتم عبر الأدوات الدبلوماسية وحدها أو عبر استراتيجيات مرحلية ضيقة، بل تتطلب رؤية شاملة تُعيد للأمة وعيها بذاتها، وثقتها بوعد ربها، وتمسكها بمقومات قوتها الروحية والفكرية والحضارية.

القرآن الكريم يرسم للمسلمين منهجًا متكاملًا للتعامل مع هذه التحديات، منهجًا يجمع بين الإيمان العميق والعمل الواعي، ويربط بين فهم الواقع والتمسك بالثوابت، لتكون المواجهة راسخة الجذور قادرة على الصمود أمام حملات التضليل والهيمنة. وأمام هذا الواقع المضطرب، تبرز الحاجة الماسّة إلى العودة الصادقة إلى القرآن الكريم لفهم سنن الله في التدافع، والتصدي للمزاعم التوراتية والإنجيلية المحرّفة التي يروّج لها قادة الغرب وإسرائيل. فهذه المزاعم ليست مجرد أفكار دينية هامشية، بل هي أيديولوجيات راسخة تُوظَّف سياسيًا وعسكريًا لتبرير الهيمنة، رغم ما يحيط بها من زيف وتحريف.

أما القرآن الكريم، فهو الوحي المحفوظ من عند الله، ليس كتاب عبادات فردية فحسب، بل هو منهج حياة شامل يرسم للأمة طريقها في السلم والحرب، وفي الضعف والتمكين، ويوجهها في التعامل مع الحلفاء والخصوم بميزان الحق والوعي والعدل. وقد وضع الله تعالى قواعد واضحة في هذا الشأن، فقال سبحانه: ﴿كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۖ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾ [التوبة: 7].

فهذه الآية الكريمة تقدم منهجًا واقعيًا حكيمًا في التعامل مع القوى الأخرى، يقوم على الوفاء بالعهد مع من استقام عليه، والحزم مع من نكث وخان، وهو منهج يوازن بين القيم والمصالح، وبين المبادئ والواقع، دون تفريط أو استسلام.

إن ما تواجهه فلسطين اليوم ليس معركة معزولة، بل هو جزء من صراع عالمي أوسع يستهدف الأمة كلها في عقيدتها ووجودها. ولذلك فإن الرد على هذا المشروع لا يكون بالانكفاء أو بالتسويات الشكلية، بل بالتمسك بالهوية الدينية، وتوحيد الصف، وتبني رؤية استراتيجية مستنيرة تنطلق من الوحي، وتقرأ الواقع بوعي، وتبني القوة بكل أشكالها الممكنة. فالأمة التي تملك مرجعيتها وتدرك طبيعة الصراع قادرة، بإذن الله، على أن تصمد وتنهض وتواجه مشروع الهيمنة كما واجهت مشاريع سابقة عبر تاريخها الطويل.

بقلم: علي أحمد محمد المقدشي

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى