منذ استقلال كوت ديفوار سنة 1960، شكّلت الانتخابات الرئاسية مرآةً لتوتراتٍ ومواجهاتٍ اجتماعيةٍ، وتحولاتٍ سياسيةٍ عميقة، خصوصاً بعد إعتماد نظام تعددية الأحزاب السياسية في البلاد عام1990.
الوضع التاريخي للانتخابات الرئاسية في كوت ديفوار
الانتخابات الرئاسية قبل إعتماد تعددية الأحزاب السياسية في البلاد
في العام 1960، وهو ذات عام إستقلال الدولة من الإستعمار الفرنسي، جرت أول انتخابات رئاسية تحت نظام الحزب الواحد، بقيادة حزب الديمقراطية الإيفواري (PDCI-RDA)، حيث ترشّح فيليكس هوفويه-بوانييه كمرشحٍ وحيدٍ، ما أدى إلى انتخابه تلقائياً وبدء مرحلة طويلة من السيطرة المطلقة لهذا الحزب على الحياة السياسيةفي البلاد.
وتوالى بعد ذلك إعادة انتخاب هوفويه-بوانييه في سنوات 1965 و1970 و1975 و1980 و1985، في ظل غياب أي معارضة قانونية، فكان هو المرشح الأوحد ويحصد أكثر من 99% من الأصوات في كل مرة، مما عزّز تركيز السلطة على شخصية هوفويه-بوانييه، والذي بدوره سعى إلى ترسيخ هيمنة الحزب الواحد.
ولكن اُعتبِرت هذه الفترة في تاريخ كوت ديفوار فترةَ سلامٍ شاملٍ في جميع ربوع الدولة، حيث كانت الحياة مستقرةً سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً وأمنياً، مع أنه كان هناك حزبًا واحداً فقط -حزب الديمقراطية الإيفواري (PDCI-RDA)- هو المسيطر على الحياة السياسية والإدارية، هذا على الرغم من أحكام الدستور التي نصت على أن الفوز بالسلطة يتم من خلال التنافس بين عدة أحزاب سياسية، إلا أن الرئيس الأول فيليكس هوفويه-بوانييه، كان رافضا لهذه الفكرة، بدعوى أن دولة كوت ديفوار دولة ناشئة، وأن شعبها وكوادرها ليسوا مهيئين لقبول أو التعامل مع مثل هذه الأفكار، وأن إعتماد ثقافة تعددية الأحزاب السياسية، سيسبب لاحقاً مشاكل إجتماعية وسياسية في البلاد، وأنه سيؤدي إلى إنقسام دولة بين القبائل، حيث ستكون القبليةُ ميزانَ الدعم الشعبي، بدلا من الخطة والكفاءة.
الإنتخابات الرئاسية الأولى بعد إعتماد تعددية الأحزاب السياسية في البلاد
إلا أن نهاية الثمانينيات كانت منعطفاً تاريخياً، حيث أضحى المجتمع المدني الإيفواري والمعارضة السياسية في حالة غليان، تحديدا عام 1990 حيث أدت هذه الفترة إلى حالة إحباط ناتجة عن سنوات من الحكم بنظام الحزب الواحد، والمقترنة بإنهيار إقتصادي، وضبابية الأفق المهني بالنسبة للشباب، إلى إندلاع مظاهرات تهدف إلى دفع الحكومة نحو تنظيم إنتخابات متعددة الأحزاب.
وفي طليعة هذا الحراك الإحتجاجي مع بداية التسعينيات، برز الحزب الاشتراكي بزعامة لوران غباغبو، تحت اسم الجبهة الشعبية الإيفوارية (FPI)، إلى جانب تنظيم طلابي مرتبط به بشكل وثيق، باسم الاتحاد الوطني لطلبة كوت ديفوار (FESCI)، الذي تم تأسيسه في أبريل 1990، وبالتعاون مع النقابات والأحزاب اليسارية، لقد لعب هذا الاتحاد دوراً حاسماً، في تعبئة المظاهرات المنظمة ضد سلطة حزب PDCI، طوال عامي 1990 و1991، وحظي FESCI بدعم مالي وسياسي من عدد من أحزاب المعارضة اليسارية الناشئة، وعلى رأسها الجبهة الشعبية الإيفوارية FPI، وهذا ما دعا الرئيس الأول فيلكس هوفويه بوانيي وحزبه PDCI، إلى إعتبار الاتحاد الوطني لطلبة كوت ديفوار (FESCI)، أداة للمعارضة السياسية، وتنظيماً تخريبياً للمجتمع.
بعد شهور من الضغط المكثف، اضطر هوفويه بوانيي إلى قبول إضفاء الشرعية، على الأحزاب السياسية في مايو 1990. وفي وقت لاحق من العام نفسه، وللمرة الأولى في تاريخ كوت ديفوار، شهد الإيفواريون إنتخابات رئاسية متعددة المرشحين، حيث يواجه هوفويه بوانيي لأول مرة في تاريخ رئاسته، مرشحاً آخر هو لوران غباغبو وحزب الشعبية الإيفوارية FPI، والتي انتهت بفوز هوفويه بوانيي في الاقتراع بنسبة 82٪ من الأصوات، غير أن أحزاب المعارضة، انتقدت الخروقات التي شابت العملية الإنتخابية، لكن تلك النتيجة مثّلت أول شرخ في احتكار السلطة، وأرست شرعية قانونية للمعارضة.
وهذا الإعتراف بالتغيير في طبيعة الحياة السياسية في كوت ديفوار ساهم في تأجيج التوترات بين الطلاب (الذين كانت المعارضة تستخدمهم لأغراض سياسية) والحكومة، والذي إنتهى إلى ما سُمّي بـ«أزمة المدرسة» إعتباراً من فبراير ١٩٩٠، ولقد شكّلت الإضطرابات العنيفة، والمسيرات الجماعية، والإعتصامات المتواصلة، وظهور جماعات مسلحة بأدوات حادة، وأعمال التخريب، التي إستهدفت المجتمعات والممتلكات العامة والخاصة، بسبب نتيجة الإنتخابات الغير مرضية لدى المعارضة، والتي كان يرتكبها في الغالب طلاب المدارس والجامعات، بداية أزمة مدرسية، أدت إلى إغلاق المؤسسات المدرسية والجامعية في السابع من أبريل ١٩٩٠، ثم إعادة فتحها في سبتمبر ١٩٩٠ لتجنّب ما يسمى في اللغة الفرنسية ” ANNÉE BLANCHE” ويعني باللغة العربية “سنة بيضاء” ، وهو مصطلح يقصد به عام خال من الدراسة، وفي ديسمبر 1993، توفي الرئيس هوفويه-بوانييه، فإنتقلت السلطة دستورياً إلى هنري كونان بيدييه، رئيس الجمعية الوطنية، والذي حكم البلاد إلى حين موعد إنتخابات جديدة عام 1995.
الإنتخابات الرئاسية الثانية بعد إعتماد تعددية الأحزاب السياسية
جاءت إنتخابات 1995 في مناخ من التوتر الشديد، إذ قاطعتها قوى معارضة رئيسية، مثل التجمع من أجل الجمهوريين (RDR) والجبهة الشعبية الإيفوارية، احتجاجاً على الإطار القانوني والتنظيمي غير المتكافئ، ودعوا إلى العصيان المدني، ومع عزوف جزء واسع من الناخبين، أُعيد إنتخاب هنري كونا بيدييه بأكثر من 95% من الأصوات، ما عمّق أزمة الشرعية وأذكى الانقسام السياسي، والتي استمرّت لعدة سنوات، وعند إقتراب الإنتخابات الرئاسية لعام 2000 تحديدا في 24 ديسمبر 1999، شهدت البلاد أول إنقلاب عسكري منذ الإستقلال، حين أطاحت مجموعة من الضباط بقيادة الجنرال روبرت غيّي، بنظام هنري كونان بيدييه، وأُنشئ المجلس الوطني للإنقاذ العام (CNSP) لتولي المرحلة الانتقالية، وإعادة النظام والتحضير لإنتخابات جديدة، ما أنهى أربعة عقود من الإستقرار المؤسسي، ودمّر الآمال التي علّقتها كوت ديفوار على إستعادة مكانتها بسرعة، كدولة ذات إقتصاد ديناميكي في غرب إفريقيا الفرنكوفوني، وكنموذج إقليمي للإستقرار.
الإنتخابات الرئاسية الثالثة بعد إعتماد تعددية الأحزاب السياسية
وإذ تعهّد الجنرال غيّي بإعادة السلطة إلى المدنيين، وحدّد موعدًا لإجراء إنتخابات من هذا الغرض، فإنه ما لبث أن تلاعب بالعملية الإنتخابية، إلى درجة جعلت شرعيّتها موضع شك قبل أن تبدأ العلمية الإنتخابية، فقد أدخل دستورًا جديدًا، أُقرّ عبر إستفتاء في يوليو 2000، كجمهورية ثانية، ينصّ على أن يكون كِلاَ واَلديْ أي مرشح للرئاسة الإيفواريَة مولودَيْن في البلاد، ومن الواضح أن هذا التعديل كان موجّهًا لإستبعاد الحسن واتارا، زعيم حزب تجمّع الجمهوريين (RDR)، أكبر أحزاب المعارضة آنذاك، وفي السادس من أكتوبر 2000، أصدرت المحكمة العليا، في قرار مثير للجدل، حكمًا بإستبعاد أربعة عشر مرشحًا من أصل تسعة عشر، من بينهم واتارا بدعوى الجنسية، والرئيس الأسبق هنري كونا بيدييه، بحجة عدم تقديم شهادة طبية سليمة، وكان الرأي العام مقتنعًا بأن أعضاء المحكمة العليا، التي كان يترأسها آنذاك المستشار القانوني للجنرال غيّي، قد استبعد هذه الشخصيات المهمة، فتبقى في القائمة فقط الجنرال غيّي ولوران غباغبو زعيم الجبهة الشعبية الإيفوارية (FPI)،كشخصيّات مهمة في الإنتخابات، وفي 24 أكتوبر 2000، عندما أظهرت النتائج الأولية تقدّم لوران غباغبو، في الإنتخابات الرئاسية، قام الجنرال غيّي بحلّ اللجنة الوطنية للإنتخابات، وأعلن نفسه فائزًا، وبعد يومين فقط كان قد غادر البلاد هاربًا، إثر إندلاع مظاهرات شعبية عنيفة ردًا على محاولته تزوير الإنتخابات، تاركًا غباغبو منفردًا في السباق الرئاسي، وعلى الرغم من الشكوك العميقة التي أحاطت بشرعية الإنتخابات،بسبب العنف الواسع النطاق واستبعاد الحسن واتارا من العملية،جرى تنصيب لوران غباغبو رئيسًا للبلاد لاحقًا، وخلال الإنتخابات التشريعية في ديسمبر من العام نفسه، لجأ غباغبو إلى الأساليب نفسها التي استخدمها سلفه، وبشكل خاص لضمان إقصاء واتارا مرة أخرى من الترشح، ومنذ تولّيه السلطة، رفض غباغبو الاعتراف بالظروف غير السوية التي جاء من خلالها إلى الحكم، ولم يتعهد بإجراء إنتخابات جديدة، ولم يسعى إلى محاسبة المسؤولين عن أعمال العنف، ولا اتخذ إجراءات حاسمة لضمان أن تصبح كوت ديفوار،تحت قيادته، دولة قانون، لا بلدًا تحكمه النزاعات العرقية والدينيةوالحصانة الأمنية.
وفي 27 أكتوبر 2000، يعني عام الإنتخابات، تم العثور على جثث سبعة وخمسين شابًا قتلوا بالرصاص، في غابة بانكو، التي تقع قلب مدينة أبيدجان، العاصمة الإقتصادية للبلاد، في ما عُرف لاحقًا بـ”مقبرة يوبوغون الجماعية”، نسبةً إلى الحي القريب من موقع الجريمة، وقد أصبح هذا الحدث رمزًا لعنف الإنتخابات، واختبارًا لقدرة وإرادة الرئيس غباغبو في فرض السيطرة على قوات الأمن المتورطة في المجزرة، وكان معظم الضحايا، وعددهم بين ثلاثين وأربعين شخصًا، قبل قتلهم تم اعتقالهم في معسكر الدرك ببلدية أبوبو، أحد أكثر الأحياء اكتظاظًا بالسكان وموالاةً لحزب التجمع الديمقراطي RDR، الذي يرأسها الحسن وتارا، وذلك بشبهة إنتمائهم لأنصار واتارا، قبل أن يتم إعدامهم في 26 أكتوبر، كرد فعل متهوّر من اثنين على الأقل من عناصر الدرك، بدعوى مقتل ضابط درك على يد أنصار لحزب التجمع الديمقراطي RDR، غير أن العملية التي تلت ذلك للتخلص من الجثث كانت متعمّدة ومخططة بقيادة ضابط رفيع.
وخلال هذه العملية، قام نحو ثلاثين عنصرًا من الدرك بإعتقال عدد من الشبان الإيفواريين، لإجبارهم على حمل الجثث والمصابين. ثم نقل هؤلاء مع الجثث، في موكب يضم شاحنة وجيبين عسكريين،ليُعدموا جميعًا في الغابة نفسها على يد عناصر الدرك ذاتهم.
وبالتزامن مع هذه المجزرة، وقعت العديد من الإعدامات خارج نطاق القضاء، إلى جانب حالات اختفاء قسري، واعتداءات جنسية، ومئات من وقائع التعذيب، وتدمير متعمّد للممتلكات، فقد كان الإستهداف موجّهًا بالدرجة الأولى لأنصار حزب RDR،والأجانب، والمسلمين، ومع ذلك، نادرًا ما فُتحت تحقيقات في هذه الجرائم، وظلّت سبل اللجوء إلى العدالة شبه معدومة أمام الضحايا، وكان من الواجب على الرئيس غباغبو، بعد تولّيه السلطة، أن يفرض سيطرته الصارمة على قوات الأمن التابعة للدولة، وأن يتخذ تدابير تضمن ملاحقة المسؤولين عن الفظائع التي ارتُكبت في أكتوبر. غير أنه لم يفعل ذلك.
وتعبيرا لرفضهم التام لطريقة تنظيم انتخابات 2002 والظلم الذي كان يشيعه جزء كبير من المواطنين خصوصاً القادمين من الجانب الشمالي للبلاد، اندلع في ليلة 18-19 سبتمبر 2002 تمردٌ مسلح، قسم البلاد إلى جنوب حكومي وشمال خاضع لـ”القوى الجديدة”، وهو ما عطّل المسار الإنتخابي وأدى لاحقاً إلى تأجيل الإنتخابات الرئاسية لسنة 2005، فرغم توقيع اتفاق ماركوسي سنة 2003 وتعدد الوساطات الدولية، حالت الانقسامات العميقة بين الرئيس لوران غباغبو والمتمردين والمعارضة دون التوافق، فتمت المصادقة دولياً على تأجيل الإستحقاق وتم تمديد ولاية الرئيس إلى أجل غير محدد دستورياً.
الانتخابات الرئاسية الرابعة بعد إعتماد تعددية الأحزاب السياسية
بعد سلسلة من التأجيلات، جرت الإنتخابات الرئاسية سنة 2010 وسط تطلعات شعبية واسعة، إذ وصلت نسبة المشاركة إلى نحو 83%، في سابقة تاريخية، تنافس ثلاثة من كبار الزعماء: لوران غباغبو، الحسن واتارا، وهنري كونان بيدييه، بالإضافة العديد من الأحزاب الأخرى، لعل ما دعا إلى عدم حصول أي مرشح على أكثر من %50 من الأصوات في الجولة، لكن تصدّر غباغبو بنسبة 38%، ويليه واتارا بـ32%، ثم بيدييه بـ25%، وفي هذه الحالة يتواجه المتصدر الأول والثاني في جولة ثانية.
وبعد ثلاثة أسابيع تقريبا تواجهت الشخصيتان لوران غباغبو زعيم حزب الجبهة الشعبية الإيفوارية FPI، والحسن وتارا زعيم حزب التجمع الديمقراطي RDR، ما دعا الحسن وتارا إلى إنشاء تحالف مع هنري كونا بيدييه الرئيس الأسبق والذي جاء في المستوى الثالث في نتائج الجولة الأولى للإنتخابات الرئاسية، بالإضافة إلى العديد من القوى السياسية الأخرى، وبشكل طبيعي يقلب هذا التحالف نتائج الإنتخابات لصالح الحسن وتارا في الجولة الثانية، فبعد مشاركة كبيرة من قبل المواطنين لكن بأقل من الجولة الأولى، أعلنت اللجنة الإنتخابية المستقلة فوز واتارا بـ54%، فيما أعلن المجلس الدستوري فوز غباغبو، مما فجّر أزمة سياسية دامية أشهر أودت بحياة أكثر من ثلاثة آلاف شخص حسب الإعلان الرسمي، بعد أشهر من المواجهة تم القبض على لوران غباغبو، ثم إرساله إلى المحكمة الجنائية الدولية، ثم في أبريل 2011، اعتُرف بالحسن واتارا رئيساً للبلاد، لتبقى تلك الإنتخابات رمزاً لأعلى درجات التعبئة الشعبية وأشد لحظات الإحباط الوطني.
الإنتخابات الرئاسية الخامسة بعد إعتماد تعددية الأحزاب السياسية
وفي سنة 2015، أُعيد إنتخاب الحسن واتارا في أول إستحقاق رئاسي بعد أزمة 2010-2011، في مناخ من الإستقرار النسبي رغم الإنقسامات السياسية، وذلك بمشاركة ثمانية مرشحين، بينهم واتارا (RHDP) وباسكال آفي نغيسان (FPI)، بينما قاطعت بعض قوى المعارضة مجتمعة ضمن الإئتلاف الوطني من أجل التغيير (CNC)، الإنتخابات بحجة غياب الشروط العادلة، بلغت نسبة المشاركة نحو 52.86%، وفاز واتارا من الدور الأول بنسبة 83.7%، مقابل أكثر من 9% لآفي نغيسان، ليعزّز سلطته بينما بدت المعارضة مشتتة ومنهكة، وبعد عام من انتخابه رئيساً للبلاد للمرة الثانية على التوالي، ساهم الحسن وتارا في تغيير العديد من بنود الدستور الإيفواري من خلال إستفتاء وطني، الذي تم إعتماده من قبل الشعب، وادّت تلك البنود إلى دخول الدولة في جمهورية جديدة (الجمهورية الثالثة) وإلغاء العديد من بنود الجمهورية الثانية، من بينهما الفترتين الولايتين السابقتين للحسن وتارا.
الإنتخابات الرئاسية السادسة بعد إعتماد تعددية الأحزاب السياسية
أما إنتخابات 31 أكتوبر 2020 فجاءت في مناخ محتقن، إثر وفاة رئيس الوزراء أمادو غون كوليبالي، الوريث السياسي المعين والبديل عن الحسن وتارا، وهو ما دعا ترشح واتارا لولاية ثالثة مثيرة للجدل، فدعا العديد من القيادات المعارضة إلى المقاطعة على رأسهم الرئيس الأسبق هنري كونان بيدييه (PDCI-RDA)، وباسكال آفي نغيسان (FPI)، إلا أن المرشح المستقل كاونان كواديو بيرتان (KKB)، هو الوحيد الذي خالف دعوات المعارضة إلى المقاطعة. وفاز واتارا بـ94.27%، مقابل نحو 1.99% لـKKB، وسط مشاركة ضعيفة وتصاعد للعنف قبل الانتخابات وبعدها، خلف عشرات القتلى وأعاد إلى الأذهان أزمات الماضي.
الإنتخابات الرئاسية السابعة بعد إعتماد تعددية الأحزاب السياسية
وتتجه الأنظار اليوم نحو الانتخابات الرئاسية المقررة في 25 أكتوبر 2025. من بين ستين ملف مرشح، قُدمت إلى اللجنة الإنتخابية المستقلة، اختار المجلس الدستوري في الثامن سبتمبر 2025 خمسة مرشحين هم: الحسن واتارا، الرئيس المنتهية ولايته، ممثلاً عن RHDP؛ وجان-لويس بييون عن الكونغرس الديمقراطي (CODE)؛ وأهوّا دون ميللو كمرشح مستقل؛ وسيدتان هما سيمون إيهيفي غباغبو عن حركة الأجيال القادرة (MGC)، وهنريت لاغو أديجوا عن تجمع الشركاء السياسيين من أجل السلام (GP-Paix).
يُنتظر أن يشكل هذا الإستحقاق محطة مفصلية في مسار ترسيخ الديمقراطية وتجديد الطبقة السياسية وتعزيز المصالحة الوطنية، حيث تعكس تشكيلة المرشحين تنوع الحساسيات السياسية والاجتماعية في البلاد، إلا أن عدم إعتماد ملف ترشح القيادات السياسية الكبيرة، على رأسهم الرئيس السابق لوران غباغبو، زعيم حزب الأمم الأفريقية الجديد، وتيجان تيام الرئيس الجديد لحزب الديمقراطية الإيفواري (PDCI-RDA)، باسكال آفي نغيسان الوزير الأول الأسبق، ورئيس حزب الجبهة الشعبية الإيفوارية (FPI)، حزب لوران غباغبو سابقاً تسبب في غضب كبير وسط الشارع مما أدى إلى الإعتصامات والمظاهرات في العديد من مناطق غرب البلاد، وحسب البيان الرسمي لتجمع الأحزاب السياسية في تاريخ 17-10-2025، تم ما يقارب سبعمائة (700) حالة اعتقالٍ لمتظاهرين سلميين، فضلاً عن عدد كبير من الجرحى، ووقوع حالتَي وفاة:
ـ رضيع يبلغ من العمر عامين توفّي اختناقًا في منطقة أبيي (Abié) بمقاطعة أدزوبيه (Adzopé)، نتيجة تأثير الغاز المسيل للدموع.
ـ والشاب ألوان إرنست (Allouan Ernest) الذي قُتل بالرصاص في بونوآ (Bonoua).
وفي مناخٍ من الإفلات التام من العقاب، تعرّض منزل العمدة السابق لبلدية بلاتو (Le Plateau)، السيد نويل أكوسي بندجو (Noël Akossi Bendjo)، وهو نائب رئيس حزب الديمقراطية الإيفواري PDCI-RDA، لإقتحامٍ عنيف بعد أن حُطّم بابه بواسطة مدرّعة، واقتحمه رجالٌ مسلّحون ملثّمون، وبالمثل تمّت مداهمة السيد باسكال آفي نغيسان (Pascal Affi N’Guessan)، الوزير الأول الأسبق، والنائب الحالي، ورئيس حزب الجبهة الشعبية الإيفوارية (FPI)، وتم احتجازه قسرًا لأكثر من أربع ساعات على يد عناصر من قوات CRS وGMI، دون سبب قانوني، وفي إنتهاك صارخ لحصانته البرلمانية، وفي الخامس عشر من أكتوبر الجاري قامت قوات من الشرطة والدرك بمحاصرة مكتب الرئيس الأسبق للجمهورية، لوران غباغبو، رئيس حزب الأمم الأفريقية PPA-CI، بينما كان مجتمعًا بأعلى هيئات حزبه.
في حين يستمر المرشحون الذين تم إعتماد ملفاتهم في إنتخابات الرئاسة، التي ستجرى في الخامس والعشرين من أكتوبر الجاري، بحملاتهم الإنتخابية في مختلف مناطق البلاد، مما يوحي بأن الإنتخابات ستجرى في موعدها المحدد.
تحليل سيناريوهات الانتخابات الرئاسية في كوت ديفوار
يرى المطلع على سلسة الأحداث السياسية في كوت ديفوار منذ الاستقلال، تحديداً تلك الأحداث المتعلقة بالإنتخابات الرئاسية بعد إعتماد تعددية الأحزاب في السياسة الإيفوارية، أنها شبيهةٌ بالذبذبات أو الموجات البحرية في صعودها وهبوطها، حيث يجد أن الإنتخابات الرئاسية، كلما يقترب وقتها، تزداد وترتفع نسبة التوترات والأزمات السياسية بشكل تدريجي، ثم تهدأ وتنخفض بشكل تسلسلي بعد إنتهائها، وهكذا منذ إعتماد فكرة تعددية الأحزاب السياسية في البلاد، وهي إشارة بطريقة غير مباشرة أن المظاهرات والاحتجاجات الجارية في هذه الأيام أمر طبيعي، هكذا يكون الأمر منذ إعتماد فكرة تعددية الأحزاب السياسية في البلاد، ستنتهي بمرور الأيام تحديدا بعد الإنتخابات بأيام، وكما تمت الإشارة إليه سابقاً، منذ الإستقلال، لم تعرف دولة كوت ديفوار ما يسمى بالإنتخابات الرئاسية التي يتواجه فيها مختلف المرشحين إلا بعد مرور 30 عاماً من حصولها على إستقلال، وعلماً أن التجددَ سنةُ الحياة، وأي مخلوق يعيش على حال واحد خلال ثلاثين سنة، ستتغير ملامحه بشكل طبيعي، وهذا ما حدث في السياسة الإيفوارية مع رئيس الجمهورية الأول فيلكس هوفوي بواني، الذي وُصِفتْ فترةُ رئاسته بفترة سلام شامل، حيث كان فيه الإيفواريون يحيون السعادة والرفاهية والسلام، لكن مع ذلك دعت الحاجة والطبيعة إلى التغيير، إلا أن هذا التغيير لم يكن أمراً سهلاً.
وكما تقول الحكمة العربية من شب على شيء شاب عليه، فبعد أن شب المجتمع الإيفواري على إدارة الحزب السياسي الواحد خلال ثلاثين سنة، شابوا عليه، مما أدى إلى ظهور العديد من مظاهر العنف والأزمات الإجتماعية والسياسية في البلاد، لأنه كانت بمثابة الإنتقال بالمجتمع، من حالة هو متعودون عليه إلى حالة غريبة دون تهيئة ولا توعوية، كان الأمر صعبا للغاية، ليس فقط على مستوى الشعب والمواطنين، بل حتى على مستوى الكوادر السياسية في البلاد، لأنه لم تكن هناك إستراتيجية وطنية واضحة لتسهيل هذه المرحلة الجديدة في حياة المجتمع، وكما قيل في القول المأثور إذا وُسِّد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة، سُئِل أية ساعة، فأجاب ساعة الخراب، فإذن عندما وُسدت الساحة السياسية الإيفوارية إلى من هو لم يكن أهلا لها في تلك الفترة، أدى ذلك إلى اندلاع الأزمات والحروب المتكررة، تحديداً كلما تقترب فترة الإنتخابات الرئاسية، لأنها هي الهدف الأهم والأسمى لكل دخل في مجال السياسية، كما يجد متتبع السياسية الإيفوارية أن جميع الأزمات السياسية منذ إعتماد ثقافة التعددية في الأحزاب السياسية مربوطةٌ بأربعة شخصيات فقط، الذين تمت تسميتهم بالجيل الثاني من السياسة الإيفوارية، بعد جيل فترة الإستقلال، وهم هنري كونان بيدي الرئيس الثاني للدولة، وغيي روبير الرئيس الثالث، ولوران غباغبو الرئيس الرابع، والحسن وتارا، وإن تعددت الوسائل المستخدمة لديهم للحصول على السلطة، لكن تصرفاتهم واحدة بعد حصولهم على السلطة، تقديم كل ما في وسعهم لإبعاد منافسيهم في الإنتخابات ليبقوا في السلطة أطول فترة ممكنة.
ويلاحظ القارئ أن السياسة الإيفوارية أوشكت من جديد إلى نهاية ثلاثين سنة أخرى بعد ظهورهم هؤلاء الشخصيات الأربعة على الساحة السياسية الإيفوارية 1995-2025، وبشكل تدريجي بدأت السياسة تتجدد بظهور شخصيات سياسية أخرى لعلها تكون أكثر نضجا في فهم وممارسة تعددية الأحزاب السياسية والأفكار الديمقراطية من سابقيهم، فعلى سبيل المثال، باتريك آشي، وتيجان تيام، وجان لوي بيون، هاوا دون ميلو، وآدم بيك توغو، ومامادو توري، وأسالي تيموكو، وبليغودي، وسوروغيوم، وهذا ما يدل أن السياسة الإيفوارية ستأخذ لوناً آخر أكثر ديموقراطية في الفترة القادمة.
وأخيرا يجد قارىء المقال بأن توجه الرئيس الأول للبلاد هوفويه-بوانييه، الرافض لإعتماد نظام تعددية الأحزاب السياسية في وقت مبكر، بدعوى عدم جاهزية الشعب الإيفواري وكوادرهم لقبول أو التعامل مع مثل هذه الأفكار كان رأيا صائبا، لأن الشعب الإيفواري لم يعش فترة سلام شامل كالذي عاشها عندما كان حزب سياسي واحد هو من يحكم البلاد.
د. سانوغو زومانا السمدلاوي