عند حديثي عن جنوب إفريقيا بالتحديد غالباً ما تحكمني ثقافة هذه الدولة أكثر من سياستها التي تبدو لي أنها منطقية في معظم الأحيان، فالموقف الذي إتخذته نقابة “Solidarity” بالتعاون مع منظمة الحقوق المدنية “Afri Fourum” ما هو إلا دليل إضافي يعزز حقيقة ورؤية تؤمن بها كافة النخب الإفريقية بإختلاف إنتماءاتهم الفكرية والعرقية ليس فقط في جنوب إفريقيا بل في كافة دول إفريقيا جنوب الصحراء مفادها أن المكون الشعبي “ذو الأصول الأوروبية” في جنوب إفريقيا لا يرى نفسه جزءاً من المجتمع الإفريقي المتنوع في جمهورية جنوب إفريقيا، ولا يؤمن في عمومه بمبادىء الوحدة الوطنية التي تأسست عليها جنوب إفريقيا خاصة أن تلك المبادئ ليس مرتبطة بحزب سياسي حاكم قد يتبدل في أي لحظة، بل مرتبطة بإرث تاريخي فادح كان ثمنه أغلى منه.
موقف وزير خاجية جنوب إفريقيا “رونالد لامولا” الرافض لتلك الزيارة جاء متوافقاً ومتسقاً مع موقف القيادة السياسية للبلاد، فقبل أيام وبالتحديد في 16 من سبتمبر الجاري قدم معهد هدسون “أحد أهم أبرز المؤسسات الفكرية في الولايات المتحدة الأمريكية والتي يعود تأسيسها إلى حقبة الستينيات من القرن الماضي” دعوة لرئيس جنوب إفريقيا ” سيريل رامافوزا” لإلقاء كلمة خلال زيارته المقبلة للولايات المتحدة إلا أن الرئيس رفض الدعوة بسبب الدور الدعائي والإعلامي الذي يقوم به معهد هدسون ضد حزب المؤتمر الوطني الإفريقي الحاكم في جنوب إفريقيا.
لا أعتقد أن التوتر بين بريتوريا وواشنطن سيهدأ على المدى القريب خاصة مع تداول أنباء داخل أروقة البيت الأبيض بقرب تعيين “جويل بولاك” سفيراً لواشنطن في جنوب إفريقيا، وهو الكاتب والمنتقد اللاذع للسياسة الخارجية لجنوب إفريقيا وهذا ما يخشاه وزير الخارجية الجنوب إفريقي “رونالد لامولا” وهذا برأيي ما سيفرض على بريتوريا أحد الخيارين فإما أن تعتذر عن قبوله كسفير في أراضيها في حالة تم تعيينه “وهذا حق مشروع لأي دولة لا ترغب بسفير دولة ما أو تتحفظ على شخصيته”، وإما أن تقبل به مع وضع خطة دبلوماسية “حذرة” للتعامل معه، مع تطبيق إستراتيجية ما تطلق عليها الأكاديميات الفرنسية بــ”Repli sur soi ” وتعني باللغة العربية ” الإنعكاس على الذات” وهي (إستراتيجية فرنسية قديمة تجبر الشخص بالتركيز على ذاته مع ضعف قدرته على التواصل الخارجي بشكل صحيح) وهذا ما سيدفعه في النهاية إلى طلب العودة إلى واشنطن وإستبداله بدبلوماسي أخر وبهذا ستكون بريتوريا حققت هدفها بإستبعاد شخصية قد تساهم في وضع العثرات أمام تقدم العلاقات بين البلدين.
يجب على القيادة السياسية في جنوب إفريقيا مواجهة مثل تلك النقابات بحقيقتها الساعية إلى تفكيك المجتمع الأفريكاني من الداخل، والطعن في الوحدة الوطنية لجنوب إفريقيا، وأقترح وضع إستراتيجية تهدف إلى إحراج تلك النقابات أمام الرأي العام، والتأكيد بأن تلك النقابات ترفع شعار “Solidarity ” وتعني “التضامن” ولكنها بعيدة كل البعد عن ذلك، بل تعمل على إجهاض ذلك المعنى من مضمونه، وهذا ما سيجعلها أمام مسؤولية أخلاقية لن تصمد أمامها قبل أن مواجهتها بمسؤوليتها القانويية في ضرب الأمن والسلم المجتمعي للبلاد، ومن ناحية أخرى يمكن للإعلام في جنوب إفريقيا تبني حملة صحفية لتعزيز مفهوم “Ubuntu” وهو مفهوم إفريقي قديم كانت تتبناه القبائل الجنوب إفريقية القديمة مثل “السوتو، والتسوانا، والزولو” ويعني باللغة العربية “إنسانيتك مرتبطة بإنسانية الأخرين” وهو ذات الشعار الذي ربطه المجتمع المحلي بعد سقوط الفصل العنصري في جنوب إفريقيا 1994 بالمصالحة الوطنية، وبذلك ستعزز بريتوريا جبهتها الداخلية دون الإضرار بالمكون الشعبي المتنوع الثقافات والأعراق والديانات وهذا ما سينعكس إيجاباً على أمنها الداخلي، وفي ذات الوقت سيجهض كافة المحاولات الأمريكية والأوروبية الساعية إلى تصوير القيادة السياسية في جنوب إفريقيا بــ”العنصرية”، وفي ذات الوقت سيكرس صورة جنوب إفريقيا في المحافل الإقليمية والدولية.
د. أمينة العريمي
باحثة إماراتية في الشأن الأفريقي