حققت الحكومة الفيدرالية ، على الأقل ظاهريا، انتصارا لافتا في صراعها مع ولايتي بونت لاند وأرض الصومال. تمكّنت من تعديل المعادلة السياسية في هاتين المنطقتين لتشمل أطرفا جديدة إثر نجاحها في تبني، وتمويل، وتنفيذ مشروع ولاية شمال شرق الصومال في الحدود بين ولايتي بونت لاند وأرض الصومال.
تصبح الولاية الجديدة التي رأت النور نهاية الشهر الماضي، سابع الولايات الاقليمية الأعضاء في جمهورية الصومال الفيدرالية، وصورة أخرى لأحجية الصور المقطوعة للوحة السياسية في البلاد. بيد أن ولادتها في المكان والتوقيت مثيرة للجدل، ومبعثة للتساؤل حول المغزى، والدور، والانعكاس سواء على المستوى الولائي أو الفيدرالي ، وما إذا ستقلب الطاولة على الحكومة الفيدرالية، وتتحول إلى عقبة أخرى تضاف إلى مجموعة العقبات المعكرة صفو ما تبقى من فترة ولاية الرئيس حسن شيخ المنتهية منتصف العام المقبل.
تقع ولاية شمال شرق الصومال في منطقة سهلية وجبلية بين ولايتي بونت لاند (شرق) وأرض الصومال ( الشمال) ، وتتكون من محافظتي سول وسناغ المتنازع عليهما بين بونت لاند وأرض الصومال، ومنطقة هود في الحدود مع إثيوبيا. وكانت تشهد هذه المناطق منذ فترة طويلة مواجهات ومعارك بين الولايتين. كما شهدت فترات أخرى معارك عنيفة بين مليشيات عشائر طولبهنتي وقوات أرض الصومال. وكانت آخرها معارك لاسعانود مطلع عام 2023 التي أدت إلى هزيمة أرض الصومال، وانسحابها من هذه المنطقة الاستراتيجية .
منذ ذلك الحين، سعت قيادات في حكومة الصومال الفيدرالية إلى الاستثمار في هذا الصراع عبر إنشاء ولاية مؤيدة لها ردا على تعنت رئيس إدارة بونت لاند سعيد ديني ورفضه تأييد سياسات الرئيس حسن شيخ محمود بشأن الانتخابات، وإصرار أرض الصومال على الانفصال، ورفض المفاوضات المباشرة.
اتخذت الحكومة الصومالية في مقديشو مجموعة خطوات متدرجة لإجبار الولايتين على الرضوخ أو نقل المعركة إلى أراضيهما، تمثلت في إعلانها عام 2024 رسميا عن اعتراف حكومة “خاتمو” ، كإدارة تحت مظلة الحكومة الفيدرالية ، وزيارة رئيس الوزراء حمزة بري مدينة لاسعانود في 12 أبريل عام 2025، حيث أعلنت الحكومة في بيان لها وفق ما نشرته وكالة الأنباء الصومالية (صونا) عن قرارها باعتراف إدارة “خاتمو” ولاية إقليمية قائمة في البلاد ، بناء على القرار الصادر عن زعماء العشائر ، والمثقفين، ومكونات المجتمع المدني في المنطقة في الـ6 من فبراير 2023 حول تشكيل إدارة “خاتمو”، وإرسال دعم عسكري ومالي إلى المنطقة، ووضع حجر الأساس لمشاريع تنموية تكلف ملايين الدولارات بينها مشروع القصر الرئاسي لإدارة “خاتمو”، والمكاتب الحكومية، ومقر قيادة للشرطة ، وطريق رئيسي يربط بين مدينتي سماكاب وبوهودلي.
وفي أغسطس 2025، أعلنت الحكومة الفيدرالية في مقديشو عن اعترافها الرسمي بولاية شمال شرق الصومال كعضو جديد في الاتحاد الصومالي رغم معارضة ولاية بونت لاند العضو في الاتحاد ما عكس إرادتها الحازمة في استخدام الكيان الجديد كورقة استثنائية أمام ضبط ايقاع المعادلة السياسية في تلك المناطق، والصراع مع قيادات بونت لاند وأرض الصومال.
على الرغم من اعتبار البعض نشأة ولاية شمال شرق الصومال ، نصرا سياسيا كبيرا حققته الحكومة الفيدرالية ، فإن ذلك نظرا لتعقيدات المشهد السياسي الصومالي وتقلباته، يمثل مغامرة غير محسوبة العواقب قد تحقق نتائج عكسية، سواء على المدى القريب أو المتوسط. وأن من هندس وخطط المشرع ربما لم يأخذ عوامل كثيرة بعين الاعتبار، وقدمها فقط كمشرع مرحلي لتجاوز خطر قائم دون النظر إلى تداعيات المشروع سواء على المستوى المحلي أو الفيدرالي.
فإن الإدارتين أرض الصومال وبونت لاند رغم اعتراضهما على ما حدث في لاسعانود، واعتبارها خطوة غير قانونية وتعدٍّ على سيادة أراضيهما ، واجهتا الأمر برباطة جأش، وهدوء الأعصاب لما له من أبعاد اجتماعية وقبلية ولما يمثله من تحد على مستقبل الإدارتين على المدى البعيد.
في الحقيقة، لم يكن أمام أدارة أرض الصومال سوى تجرع مرارة الهزيمة، وقبول الأمر الواقع؛ لأنها تعلمت درسا من المعارك التي خاضتها ضد سكان منطقتي سول وسناع، وأنها لم ترغب في تكرار أخطاء الماضي، وبدلا من ذلك قررت مواجهة الأمر باستراتيجية الانتظار والترقب (wait and see approach) وعدم التصعيد، وترك الأمور لعامل الوقت. وتعتقد أنه مع مرور الوقت وبعد أن تتلاشى نشوة الانتصار، ويقل تأثير هذا الملف سيقف سكان الولاية على حقيقة الأمر، والوهم الذي انطلى عليهم مما يعطيها فرصة للتدخل والتأثير على مجريات الأمور في تلك المناطق واستخدمها كورقة مساومة أمام الحكومة الفيدرالية.
أما إدارة بونت لاند في ظل قيادة سعيد عبد الله ديني فيما يبدو تتحاشى عن المواجهة المباشرة، ولا تتحمس إلى الغرق في وحل ملف ولاية شمال شرق الصومال الجديدة، ولا المشاركة في سياسية الاستدراج التي يتبناها الرئيس حسن شيخ محمود والمعتمدة على جر الخصم السياسي إلى المواجهة في ظرف غير مواتية له وذلك لسببين، الأول أن تركيز الرئيس سعيد عبد الله ديني منصب في الوقت الحالي على الانتخابات الصومالية المقبلة، وأعلن ترشحه لهذا المنصب قبل يومين. لا يريد الرجل أيضا كسر قواعد اللعبة التي تمارسها الحكومة الفيدرالية لهزيمة خصمها دون مواجهة مباشرة. والسبب الثاني أن لديه صلة قرابة وعلاقة عضوية مع أهالي شمال شرق الصومال، وقد يستفيد منها في المستقبل القريب سياسيا.
وكذلك يرى الرئيس سعيد ديني ضروة إبداء المرونة السياسية تجاه الولاية الجديدة دون الاعلان عنها، واستخدام سياسة الاستنزاف ضد الخصم؛ لأن ما جرى في لاسعانود سيكون في نهاية المطاف لصالح بونت لاند باعتبارها ثالث ولاية لقبائل دارود، ولن يختلف حالها عما هو الحال بالنسبة لولاية جوبالاند وخصوصا فيما يتعلق بالعلاقة مع الحكومة الفيدرالية في مقديشو .
إضافة إلى ماسبق، فالولاية الجديدة بسبب موقعها الجغرافي من الصعب أن تقوم بما يشكل تهديدا لمصالح بونت لاند، وأنها مجبرة على المحافظة على خصوصية العلاقة معها، وأن قياداتها تدرك تماما أن مصالحها مع بونت لاند أهم بكثير من مصالحها مع الحكومة الفيدرالية الحالية في مقديشو، وأن الأولى استراتيجية ، والثانية تكتيكية، وأن الوعود الكثيرة المقدمة إليها من قبل الحكومة الفيدرالية ما هي إلا للإستهلاك الإعلامي ، وتحقيق أهداف مؤقتة، وأنها ربما تتخلى عنهم عاجلا أم آجلا في المعمعة، ولن تكون لها ملجأ سوى إدارة بونت لاند وسكانها، كما حدث في أيام الحرب مع أرض الصومال، وبالتالي لا يتوقع أن تتساير قيادات ولاية شمال شرق الصومال مع سياسات الحكومة الفيدرالية على طول الخط.
تدرك الحكومة الفيدرالية هذه الحقائق والمعطيات، لكنها تمارس سياسة المغامرة، وفرض الأجندت على الخصم ليكون الجميع يتصرف وفق قضاياها وأولوياتها بغية تحقيق أقصى مكسب ممكن وفقا للظروف الراهنة ، وأنها تراهن على الرئيس الحالي لولاية شمال شرق الصومال عبد القادر فرديي ، والدور الذي سيلعبه في حال انسداد الأفق أمام الرئيس حسن شيخ محمود، وقبوله التفاوض على النموذج الإنتخابي أو في حال قرر إجراء الانتخابات المباشرة دون مشاركة ولايتي بونت لاند وجوبالاند.
يبدو أن ثمة عاملا آخر- ربما أقل تأثيرا- تتجاهل عنه الحكومة الصومالية، دور إثيوبيا في الاقليم الجديد الذي له حدود معها، وأن الجميع يعرف أن علاقة إثيوبيا مع الصومال في ظل حكم رئيس الوزراء أبي أحمد لن تتحسن مهما أبدت الأخيرة مرونة وتنازلات، وبالتالي لن تلعب إثيوبيا دورا مساعدا في تحقيق مآرب الرئيس حسن شيخ محمود في ولاية شمال شرق الصومال.